عناصر الخطبة
1/الاستعداد لدخول شهر رمضان 2/تعلم أحكام الصيام 3/اغتنام فرص شهر رمضان 4/شهر الدعاء والرجاء 5/تربية صفة الرحمة في النفوس 6/الحكمة من تشريع الصيام 7/إطعام الطعام وتفطير الصائمين 8/قراءة القرآن.اقتباس
ها هي رياحُ الإيمان قد هبَّت، ومواسمُ الخير قد أقبلت؛ فالسعيدُ من اغتنمها. فرمضانُ فرصٌ وحظوات؛ صيامٌ وصلوات، جهادٌ ودعوات، ذِكْرٌ وصدقات، رمضان فرصٌ لا تُعوَّض وأوقاتٌ لا تُهدْرَ.
الخُطْبَة الأُولَى:
أيها الإخوة: بعد أيامٍ قلائل -إن شاء الله- سنستقبل شهرًا عظيمًا، وضيفًا كريمًا، ضيفٌ تزدان به الدنيا وتشرق أنوارها، وتهب رياح الإيمان وتنساب بين أرجائها.
شهر كان يُبشر بمقدمه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فيَقُولُ: "قَدْ جَاءَكُمْ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا، فَقَدْ حُرِمَ"(رواه أحمد والنسائي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بسند صحيح).
مرحبًا بك يا رمضان، حبيبًا جئت على وَلَهٍ منا وطولِ انتظار، جئت بعد غياب عامٍ، مات فيه أقوامٌ ووُلِدَ آخرون، واغتنى قومٌ وافتقر آخرون، وسَعِدَ قومٌ وشقي آخرون، واهتدى قوم وضلَّ آخرون.
أحبتي: هل فكرنا كيف نهيئ أنفسنا لهذا الموسم العظيم، الذي أسأل الله –تعالى- بمنّه وكرمه أن يُبلِّغنا إياه ويعيننا على استثمار دقائقه فيما يرضيه، وأن يتسلمه منا ونحن بصحة وطاعة.
أولُ تهيئة لاستقباله بالدعاء بأن يُبلِّغنا الله رمضان بأحسن حال، وأن يُعيننا على طاعته فيه. ثم بتهيئة قلوبِنا بكثرة الاستغفار والتوبة من كل خطيئة، فالاستغفار عبادةٌ من أجلّ العبادات، وقربةٌ من أفضل القربات، وله آثارٌ جليلة على المكثرين منه والمداومين عليه، ذلك أن الاستغفار يورث صاحبه راحة البال، وانشراح الصدر، وسكينة النفس، وطمأنينة القلب.
ويُمَتِّعُ اللهُ المستغفرين متاعًا حسنًا؛ فقد قال: (وأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ)[هود:3].
ثم لنُصَفِّ مشاعرنا تجاه المسلمين؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "كُلُّ مَخْمُوم الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَان"، قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: "هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ وَلَا حَسَدَ"(رواه ابن ماجه وصححه الألباني).
يُقَالُ: رَجُلٌ مَخْمُومُ الْقَلْبِ إِذَا كَانَ نَقِيَّ الْقَلْبِ مِنَ الْغِلِّ وَالْحَسَدِ، هُوَ مِنْ خَمَمْتُ الْبَيْتَ إِذَا كَنَسْتُهُ وَنَظَّفْتُهُ. فلْنُجاهد أنفسنا لنكون سليمي الصدور للمسلمين، فسلامة الصدر نعيم الدنيا، وراحة البدن ورضوان الله في الأخرى.
ثم بتهيئة القلب والبدن بالاهتمام بأداء ركعات من قيام الليل، ولو بالوتر بركعة واحدة؛ حتى نعتاد على القيام. وبصيام بعض أيام شعبان الباقية لكن لا نسبق رمضان بصوم يوم أو يومين؛ لورود النهي عن ذلك، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ، إِلَّا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ"(رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-).
وأن نطلع على بعض أحكام الصيام التي يجب على المسلم تعلُّمها من المفطرات وغيرها من الأحكام المهمة، وكذلك الاطلاع على فضائل الصيام وأحكام القيام.
ومن تهيئة النفس لرمضان: التخطيطُ للاستفادة منه بالتزودِ من الطاعات واستثمارِ أوقاته، ومواطن الإجابة فيه. والتفرغ بقدر المستطاع لذلك، ومن المعين على التفرغ: شراء مستلزمات العيد قبل شهر رمضان.
أيها الإخوة: ها هي رياحُ الإيمان قد هبَّت، ومواسمُ الخير قد أقبلت؛ فالسعيدُ من اغتنمها. فرمضانُ فرصٌ وحظوات؛ صيامٌ وصلوات، جهادٌ ودعوات، ذِكْرٌ وصدقات، رمضان فرصٌ لا تُعوَّض وأوقاتٌ لا تُهدْرَ.
رمضان -أيها الإخوة- فرصٌ سانحةٌ للدعاء فهو شهر الدعاء؛ فقد ذكر الله في معرض ذكره للصيام هذه الآيةَ العظيمة: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)[البقرة:186]؛ قال الشيخ السعدي -رحمه الله- في قوله: (فَإِنِّي قَرِيبٌ): القرب نوعان؛ قرب بعلمه من كل خلقه، وقرب من عابديه وداعيه بالإجابة والمعونة والتوفيق.
أيها الأحبة: أي إيناس للصائمين في مشقة صومهم في ظل هذا الود والقرب والاستجابة أعظمُ من هذا الأنس؟! وقد جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الدعاء أكرمَ شيءٍ على الله فقال: "لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الدُّعَاءِ"(رواه الترمذي وحسنه الألباني).
بل جعل ترك الدعاءِ سببًا لغضبِهِ -سبحانه-؛ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ لَمْ يَسْأَلْ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ"(رواه أحمد والترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وحسنه الألباني). قال الطيبي -رحمه الله-: "معنى الحديث أن مَن لم يسأل الله يُبغضه، والمبغوض مغضوب عليه والله يحب أن يسأل".
ورتبوا دعواتكم ابتدأوا بأنفسكم، ثم خُصّوا والديكم وذرياتكم وأزواجكم وإخوانكم ومن له حق عليكم من المعلمين والأصدقاء والمحبين، وولاة أمركم واجعلوا للمنكوبين والمضطهدين والمحتاجين من المسلمين دعوة ثم لعموم المسلمين.
أيها الأحبة: ما أحسن حال من التجأَ إلى رب الأرباب، وما ألذَّ حديث التائبين، وما أنفعَ بكاءَ المحزونين، وما أعذبَ مناجاة القائمين، وما أمرَّ عيش المحجوبين، وأعظم حسرة الغافلين، وما أشنعَ عيش المطرودين.
رمضانُ فرصةٌ لتربية صفة الرحمة في النفوس، حتى تعيشَ مبدأ الجسد الواحد الذي يُؤلِمُ بعضَه أَلمُ بعض، فمن سُنن الحياة أن الرحمةَ تظهر عند الإحساس بالألم، وأن الطغيان ينشأ عند الغفلة مع الأمن والغنى، قال الله -تعالى-: (كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَءاهُ اسْتَغْنَى)[العلق: 6، 7].
وهذا بعضُ السرِّ الاجتماعي في الصوم؛ إذ يحرص المسلم أشدَّ الحرص ويُدقّقُ كلَّ التدقيق في الامتناعِ عن الغذاء وشبه الغذاء مدةً آخرها آخرُ الطاقة، وهي طريقة عملية لتربية الرحمة في النفوس، ولا طريق غيرها إلا النكباتُ والكوارثُ التي تحل بالناس؛ أعاذنا الله منها.
فالصوم حرمانٌ مشروع، وتأديبٌ بالجوع، وخشوعٌ لله وخضوع، ولكلِ فريضةٍ حكمة، وبعض هذه الحِكَمُ ظاهرها العذاب وباطنها الرحمة، لأنها تستثيرُ الشفقة، وتحضُّ على الصدقة، حتى إذا جاعَ من أَلفَ الشبع، وعرفَ المترفُ أسبابَ المُتعِ، وعَلِمَ الحرمانَ كيف يقع، وألمَ الجوعِ إذا لذع! تصدقَ وبذل وأعطى بلا ترددٍ وكلل.
اسأل نفسك: كيف سيكون صيامُ المشردين؟! ومن ابتلوا مع التشريد بالجفاف والقحط وغيرها وهل سيصومون أم سيفطرون؟! وعلى أي شيء سيفطرون؟! صور من الفاقة والفقر، وهياكل عظمية تسير وتتعثر وكأنها طيف إنسان في السراب البعيد.
رمضانُ أيها الإخوة: فرصةٌ لتربيةِ النفوسِ، وتقويةِ الإرادةِ، والارتفاعِ بها إلى سماءِ المجد ودرجات العز، إن رؤيةَ هلالِ الصيامِ في السماء هو إشارةٌ بالغة لبدءِ معركةِ الإرادة وقوةِ العزيمة، فالصوم يُدرِّبُ المسلمَ على أن يمتنعَ باختياره عن شهواته وملذاته، في إرادة قوية ثابتة، لا يَضِيرُها كيدُ الشيطان، ولا تعدو عليها عوادي الشهوة.
فأيُ قانونٍ من قوانين البشر يحقّق ذلك؟! وأيُّ أمةٍ من الأمم تجدُ فرصةً تستطيع من خلالها فرض نمطٍ من أنماط تربية شعبها بمزاولة فكرة نفسية واحدة، مرة واحدة كلَ سنة وخلال ثلاثين يومًا؟! ألا ما أعظم الإسلام، وما أروع الصيام!
فلو قيل لبعض الناس: دعوا عنكم شرب الدخان لاستصعبوه وأحسوا العنت بفقده، فما بالهم في أيام رمضان ودون أي نداء وإلحاح قد تركوه خلال فترة الإمساك.
إن هذه الإرادة وهذه التربية الرمضانية يجب ألا تذهب أدراج الرياح، بل الواجب أن ترسخ في النفوس، وأن تكون جزءًا لا يتجزأ من كيانها، حتى إذا انتهى الشهرُ وَوُدَّعِ بقيت آثار هذه الإرادة، وهذه التربية في النفوس، فلا يكون ذهاب التربية إلا حين تروح الروح؛ قال ربنا -جل في علاه-: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)[الحجر: 99].
بارك الله لي ولكم ....
الخطبة الثانية:
أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[البقرة: 183]؛ أجل (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، فالغاية الكبيرة من الصوم التقوى.. التقوى التي تستيقظ في القلوب وهي تؤدي هذه الفريضة طاعةً لله وإيثاراً لرضاه.
التقوى التي تحرسُ هذه القلوبَ من إفساد الصوم بالمعصية، ولو كانت هاجسًا في البال.
التقوى التي يعلمُ المسلمون وزنها عند الله، فهي غاية ما تتطلع إليها نفوسهم. والصوم أداةٌ من أدواتها، وطريقٌ موصلٌ إليها؛ لذلك كله جعلها الباري هدفًا مضيئًا يتجهون إليه عن طريق الصيام؛ (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
أيها الإخوة: ها هي أيام الخير قد أقبلت، ومواسم البذل قد أطلت، فهل من مشمر إلى الجنة؟ لنقل جميعًا: نحن المشمرون إن شاء الله. وبداية التشمير تبدأ بالعزم الأكيد على استثمار أوقات هذا الشهر الجليل.
ومما ينبغي أن يكون من أولويتنا في هذا الشهر الكريم: تفطير الصائمين وفيه أجر عظيم، ولا تصرف فيه الزكاة؛ وهو من إطعام الطعام فيقدّمه للضيف والسائل ولأهله ولعياله، والتفطير للغني والفقير. وقد حثّ عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فعن عن زيد بن خالد الجهني -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا"(رواه الترمذي وأحمد وابن ماجه، وعند النسائي في الكبرى وابن خزيمة وصححه الألباني).
ورمضان شهر القرآن، ولذلك كانت القراءة فيه لها مزية على غيره، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتدارس القرآن مع جبريل كل ليلة في رمضان، وفي السنة التي قبض فيها عرض عليه مرتين. ومما ورد في فضل قراءة القرآن ما رواه عبدُ الله بنُ مسعود -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ"(رواه الترمذي وهو صحيح).
أسأل الله أن يُوفّقنا لإدراك رمضان، وييسر لنا سبل طاعته ويعيننا عليها.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم