اقتباس
ولذلك ينبغي على الإنسان أن يراجع قلبه، وأن ينظر في مدى انتفاعه من هذه الخطب، والمواعظ، ويخشى، ويحاذر أن يحول الله بينه، وبين قلبه؛ لأن الله توعد غير المنتفعين، غير المستجيبين؛ (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).
الوصية الثانية:
لا يكن حضورنا لخطبة الجمعة من أجل إلقاء التبعة، تسجيل حضور فقط، يجب علينا حضور الجمعة نأتي إلى المسجد، ولكن هذا المجيء أحياناً لا معنى له، فليست المسألة هي أن نلقي ذلك عن كاهلنا، ونقول: ها قد حضرنا.
فالحضور وسيلة لهذا المقصود، والمطلوب، وهو الانتفاع من هذ الموعظة، فإذاً يجب أن نستشعر هذا المعنى، ولا نقف فقط عند الحضور.
وكثير ممن يأتي يوم الجمعة يأتي لأن هذا فرض عليه فهو يحضر فقط للحضور، ثم لا يبالي بعد ذلك، بعضهم يُسأل بعد الخطبة: أين صليت؟ ماذا كانت خطبة المسجد الذي صليتم فيه؟
يقول: والله ما أدري ماذا قال، أتيت، وخرجت، ولم أكن مع الخطيب.
وهذا يحصل للإنسان حتى في الصلاة، الآن لو سألنا واحداً، واحداً: ماذا قرأ الإمام في الركعة الأولى، وماذا قرأ في الركعة الثانية؟
حتى تعرف أننا ما نتكلم عن أناس بعيدين، نحن نعظ أنفسنا بهذا الكلام، ماذا قرأ الإمام -اسأل نفسك- في الركعة الاولى، وفي الركعة الثانية؟
أحياناً قد تكتشف أنك لا تدري ماذا قرأ، ولربما يجتهد الإمام يبحث عن سورة مؤثرة، ولو علم أن بعض من يصلي خلفه لا يفرق بين قراءة آية الديْن، وبين الآيات التي تتحدث عن اليوم الآخر مثلاً، كل ذلك عنده سواء من حيث التأثير.
الوصية الثالثة:
أن لا نسمع لمجرد الثقافة، وتحصيل المزيد من المعلومات، فإن العلم إنما يحضره، ويستمع إليه، ويتعلمه -والموعظة حينما يسمعها الإنسان- من أجل أن يطبق، ويمتثل، وينتفع، وأما أن الإنسان يستكثر من العلم، والمعرفة فإن هذا غير مقصود لذاته.
من الناس من ثقافته واسعة، وإذا أردت أن تعظه في أمر من الأمور، وتبين حكمًا من الأحكام تجد أنه يفوقك في تصوره لهذا الموضوع، ومعرفته بتفاصيله، لكن أين العمل؟ لا يوجد عمل، العلم وحده لا ينفع إلا بالعمل، ولهذا قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله-: "لو نفع العلم بلا عمل لما ذمّ الله أحبار اليهود(1)، (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا)[الجمعة: 5].
وأسوأ مثلين في القرآن هما ما يتعلق بمن علم، ولم يعمل، الأول مثل طائفة، وهو هذا، شبههم بالحمار -أكرمكم الله-؛ فالحمار هو أبلد الحيوان كما يقول ابن القيم -رحمه الله-(2) وهو أقل المركوبات زينة، والله -سبحانه- ذكرها من حيث الزينة بالترتيب "والخيل، والبغال، والحمير لتركبوها، وزينة".
فأجملها الفرس، ثم البغل، ثم الحمار، والحمار أقواها على الحمل، يحمل، ويتحمل، ويصبر، ولذلك الحمار يكنى بأبي صابر، والجمل يكنى بأبي أيوب.
فالشاهد أن هذا الحمار لا ينتفع من الكتب التي يحملها فوق ظهره غير أنها تثقله، وترهقه دون أن يستفيد منها كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا)[الجمعة: 5].
كتب كبيرة تسفر عما في داخلها فلا ينتفع بها، وهكذا هؤلاء الذين لم ينتفعوا بالذكرى، والموعظة، وما أنزل الله -سبحانه- عليهم من الهدى، والبيان في التوراة، وأعرضوا عن ذلك، وتركوه، فهم بهذه المثابة.
وضرب مثلاً للشخص الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها، قال: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ)[الأعراف: 176].
الكلب في أبشع صوره إن تحمل عليه، يعني تطارده، فهو يلهث، وإن تركته، وأعرضت عنه فهو يلهث، يخرج لسانه، ويحركه، فهذا مثل الإنسان الذي آتاه الله آياته، ولم يعمل بها، مثّله تارة بالكلب، وتارة بالحمار.
أشد الأمثال في القرآن، ولذلك أقول: العلم يقصد به العمل، فلا نحضر من أجل مزيد من المعلومات، والثقافة، والخطيب ذكر كذا، وذكر إحصاءات، وأرقامًا، ومعلومات، فأين العمل، والتطبيق؟
1. الفوائد لابن القيم (ص: 31).
2. انظر: شفاء العليل في مسائل القضاء، والقدر، والحكمة، والتعليل (ص: 74)، وإعلام الموقعين (1/ 127).
الوصية الرابعة:
استشعر أنك مخاطب بهذا الكلام؛ كما قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إذا سمعت الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فأرعها سمعك، فهو شيء تؤمر به، أو تُنهى عنه"(1).
وهكذا كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا وَعَظَ تأثروا، وبكوا، ورقت قلوبهم كما جاء في حديث أنس -رضي الله عنه- لما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً...(2) إلى آخر ما ذكر.
فقال أنس -رضي الله عنه-: فجعلت أنظر إلى أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "وما منهم أحد إلا وقد، وضع رأسه بين ركبتيه، ولهم خنين"(3)؛ يعني بالبكاء.
يبكون إذا سمعوا هذه المواعظ، ويتأثرون غاية التأثر، وحديث حنظلة حينما قال: نافق حنظلة، جاء إلى أبي بكر، ثم جاءوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وشكى إليه أنهم إن كانوا عنده، وذكر الجنة، والنار، ووعظهم، تأثروا، وكأنها رأي عين من شدة التأثر بالوعظ، واليقين، والتصديق، فإذا رجعوا إلى أهلهم، وعافسوا الأزواج، والأولاد، والضيعات خف ذلك في نفوسهم، فخشي أن يكون هذا من النفاق(4) تبدُّل الحال حينما يسمع الموعظة عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحينما يخرج إلى أهله.
وهكذا حينما خاطب الله -سبحانه- المؤمنين: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)[آل عمران: 92]. جاء أبو طلحة -رضي الله عنه- للنبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: أحب مالي إليّ بيرُحاء، وإنها صدقة لله أرجو بها برها، وذخرها عند الله -تعالى-، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله.
الرجل غني، وتخير أفضل ما عنده من المال، وقال حينما سمع آية واحدة فقط: "هي صدقة لله، ضعها يا رسول الله حيث أراك الله"(5).
ونحن نسمع خطبة كاملة عن فضل الإنفاق في سبيل الله، ولربما تمر سنة على الإنسان، وما تصدق بريال واحد، الإنسان يحتاج أن يفكر، ويسأل نفسه في عشر ذي الحجة كم تصدق؟ في رمضان بكم تصدق؟ بعد ذلك بكم تصدق؟
وذكر العلماء -رحمهم الله- أن من علامة الحج المبرور أن يرجع الإنسان بحال غير الحال التي كان عليها قبل ذلك؛ (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)[آل عمران: 92].
بعدما حج، وأثناء الحج هل تصدق؟ هل أنفق؟ أو أن الواحد منا يبخل على نفسه؟ النبي -صلى الله عليه وسلم- لما دخل المسجد، ووجد عذقاً من شيص معلق عند الصُّفة، والشيص معروف، هو ثمر النخل الذي قد ضعف، ولم يستوِ، يعني لم يؤبَّر، فيخرج ضعيفاً مستطيلاً دقيقاً لا تأكله إلا البهائم؛ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن رب هذه الصدقة يأكل الحشف يوم القيامة"(6).
وهكذا الذي لا ينفق إلا الثياب البالية، والطعام التالف، فإن مثل هذا يكون زاده يوم القيامة، وكذلك ما جاء في الصحيحين أن عمر -رضي الله عنه- لما سمع هذه الآية، قال: "يا رسول الله لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي من سهمي الذي بخيبر فما تأمرني به؟
قال له: احبس الأصل، وسبِّل الثمرة(7).
ما قال: هذا جيد، لماذا نبذله، ونصرفه؟.
وكذلك عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- يقول: "لما سمعتها ذكرت ما أعطاني الله فلم أجد شيئاً أحب إليّ من جارية رومية، فقلت: هي حرة لوجه الله -سبحانه-(8).
وهكذا عمر -رضي الله عنه- أعتق جارية من سبي جلولاء(9)، وزيد بن حارثة جعل فرساً نجيبة في سبيل الله(10).
وهكذا من جاء بعدهم، وهكذا أبناء الصحابة -رضي الله عنهم-؛ فهذا ابن عمر -رضي الله عنه- سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- قال كلمة نقلت إلى ابن عمر بالواسطة عن طريق أخته لما رأى تلك الرؤيا، وقصتها حفصة على النبي -صلى الله عليه وسلم- النبي -صلى الله عليه وسلم- قال كلمة، قال: نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل فكان ابن عمر لا ينام بعدها من الليل إلا قليلاً، كان يصلي إلى فروع الفجر، ويقول لمولاه نافع: أسْحرنا؟ فيقول: لا.
ثم يقوم يصلي(11)، وهكذا.
فكم سمعنا نحن خطبة، ومحاضرة عن قيام الليل؟ بل كم سمعنا محاضرة، وخطبة عن المحافظة على صلاة الجماعة، ومع ذلك الحال هي الحال، التأخير هو التأخير، وتجد الواحد منا أحياناً ما يصلي إلا بأطراف الصفوف، ومنا من لا يصلي إلا بعد طلوع الشمس، لا يقوم لصلاة الفجر، وهو يسمع مراراً الموعظة، والذكرى فيما يتصل بالصلاة، وغيرها.
سئل عبد الله بن المبارك فيما روي عنه عن بدء زهده، وتوبته، ما كان سبب التوبة؟ فقال: "كنت يوماً مع إخواني في بستان، وذلك حينما حملت ثمار من ألوان الفواكه، فأكلنا، وشربنا حتى الليل، ونمنا، وكنت مولعاً بضرب العود، والطبول، فقمت في بعض الليل فضربت بصوت عالٍ يقال له: راشين السحر، والطائر يصيح فوق رأسي على شجرة، والعود في يدي لا يجيبني إلى ما أريد، فإذا به ينطق كما ينطق الإنسان: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ)[الحديد: 16].
يقول: فقلت: بلى، والله، فكسرت العود، وصرفت من كان عندي من الناس، والأصحاب، فكان أول زهدي، وتشميري"(12).
وصار ابن المبارك هو ابن المبارك، إمام في العبادة، والإنفاق، والزهد، والعلم.
وكذلك الفضيل بن عياض، يذكر في سبب توبته أنه عشق امرأة فواعدته ليلاً، فجاء يرتقي الجدران، وبينما هو يتسور ليصل إليها سمع قارئاً يقرأ هذه الآية: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ)[الحديد: 16]؛ فرجع، وهو يقول: بلى، والله قد آن، فآواه الليل إلى خربة، وبها جماعة من السابلة -يعني المسافرين- وبعضهم يقول لبعض: إن فضيلاً يقطع الطريق.
وهم لا يعلمون بمكانه، يعني شمِّروا، وجِدِّوا في السير؛ لئلا يقطع عليكم الفضيل طريقكم.
فقال: أوّاه، أراني بالليل أسعى في معاصي الله، وقوم من المسلمين يخافونني، اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام"(13).
فبقي في مكة، آية، موقف واحد، ونحن نسمع الخطب، تصل أحياناً الخطبة إلى ساعة إلا ربعًا، خطبة الجمعة، خطبت في أحد المساجد عشرين دقيقة خارج هذه البلاد.
فلما نزلت قام أحد المشايخ يعلق على الخطبة، ويقول: هذه خطبة قصيرة مختصرة، ولكنها.. وذكر كلاماً.
فالشاهد لفت نظري قول الخطيب: إنها قصيرة، مختصرة، ثم بعد ذلك جلست مع مجموعة من الخطباء بعد الصلاة، وإذا هم يتحدثون عن خطبهم أنها تصل إلى الساعة، وأن الخطبة التي تكون عشرين دقيقة غير مألوفة في تلك البلاد.
فهذه الخطب الطويلة، وهذه المحاضرات أين أثرها على الناس؟ أين الأثر؟ هل قست القلوب؟
أبو بكر -رضي الله عنه- ضع نفسك مكانه -: مسطح رجل فقير قريب لأبي بكر من جهة الخئولة، أبو بكر هو الذي ينفق عليه؛ لقرابته، وفقره، وقعت قضية الإفك، واتُّهم عرض النبي -صلى الله عليه وسلم- وعرض عائشة، وعرض أبي بكر، أفضل ثلاثة، أحب النساء للنبي -صلى الله عليه وسلم- عائشة، وأحب الرجال إليه أبوها(14)؛ فأحب الناس إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- الرجل، وبنته؛ فكان ممن تكلم في هذا مسطح، بعد هذا الإحسان، والإنفاق، فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: "والله لا أصل مسطحاً بعد اليوم".
هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ أنفق عليه، وأصله، ثم بعد ذلك يتكلم في عرض النبي -صلى الله عليه وسلم- وعرض أبي بكر، وعرض عائشة؟ فأنزل الله -سبحانه-: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ)[النور: 22].
لا يأتلِ يعني لا يحلف، فالألِيّة هي الحلف، أبو بكر قال: "بلى، والله إني أحب أن يغفر الله لي" وأعاد إليه النفقة، وكفّر عن يمينه(15). سمع آية غيرت حاله مباشرة.
وهذا عمر -رضي الله عنه- جاء عيينة بن حصن، وقال لابن أخيه الحر بن قيس، وكان الحر بن قيس شابًّا من خيار شباب المسلمين، ومن أصحاب الرأي، والعلم، والدين، وكان عمر -رضي الله عنه- يُدخل هؤلاء في مجلسه لمشورتهم.
كان يجالس مثل هؤلاء، وجاء عيينة بن حصن لابن أخيه الحر بن قيس، وقال له: لك وجه عند هذا الأمير -يعني عند عمر- فاستأذن لي عليه.
يقول: فاستأذنت.
فدخل، وقال: "هيه يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل" فغضب عمر حتى هم أن يوقع به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى يقول لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)[الأعراف: 199].
خُذِ الْعَفْوَ ما تَسهّل من أفعال الناس، لا تدقق، ولا تستقصِ، فلان قصر، فلان ما قام بالواجب، ما جاءك منهم سهلاً خذه، ولا تتبع ما وراء ذلك وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ من قصر في طاعة الله تأمره بها، تأمره بكل خير.
وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ستجد سفهاء، وأهل رعونة، لا تقف معهم فتنزل، وتنسفل حتى تكون مساوياً، وندًّا، وقِرناً لهم في الأخلاق، والتدني. يقول: وإن هذا لمن الجاهلين. يقول: والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان، وقّافاً عند كتاب الله(16). رواه البخاري.
إذا غضب الواحد منا الآن، وجاء واحد، وقرأ عليه هذه الآية، يتأثر؟ يغير؟ يذهب عنه الغضب؟.
وكذلك حينما حُرمت الخمر، والإدمان على الخمر أشد من الإدمان على التدخين؛ فهذا أنس -رضي الله عنه- يقول: "كنت ساقي القوم يوم حرّمت الخمر في بيت أبي طلحة، فإذا منادٍ ينادي، فقال له أبو طلحة: اخرج فانظر.
يقول: فإذا منادٍ ينادي ألا إن الخمر قد حرّمت، فجرت في سكك المدينة.
فمباشرة الناس أراقوها ما قالوا: نخلص الأشياء التي عندنا الآن، مباشرة جرت في سكك المدينة بلا تردد، فقال أبو طلحة: اخرج فأهرقها.
يقول: "فأهرقتها"(17)، في المجلس يشربون الخمر، قال له: اخرج فأهرقها.
هذا الإنسان الذي يدخن كم مرة عن التدخين، ويرجع كما كان، هكذا كل من ابتلي بمعصية، يسمع عنها.
يسمع الإنسان عن حكم الأغاني، وسماع الاغاني، ويرجع، ويشغل السيارة، ويسمع، مباشرة! أين الاستجابة؟ أين الاستفادة؟ يسمع عن المعاملات المالية المحرمة، وكأنه لم يسمع، يسمع عن القنوات الفضائية الفاسدة، وهذه الأطباق تعشش فوق بيته، يتزود منها صباح مساء.
أين التأثر؟ أين الاستجابة؟ يسمع عن الأمانة في القيام على الزوجات، والأولاد، وأداء العمل كما ينبغي، ويرجع على نفس الحال من الظلم، والتضييع، والتفريط، والتقصير كأنه لم يسمع شيئاً، يسمع عن وجوب الصلاة، ولا يُرى في المسجد، لا يصلي، أين الاستجابة؟
والله -سبحانه- يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ)[الأنفال: 20 - 23].
ما يخاف الإنسان أن يكون منهم؟ (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ)[الأنفال: 23] سماع استجابة، وانقياد وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ)[الأنفال: 23].
وفي هذه السورة سورة الأنفال يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[الأنفال: 24 - 25]؛ فهذا أمر من الله -سبحانه- لا خيار لنا معه؛ (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)[الأنفال: 24].
وقال: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا)[النور: 51].
وقال: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)[الأحزاب: 36].
فهذه هي الحياة الحقيقية، الحياة النافعة، تحصل بالاستجابة لله، ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- والانتفاع بموعظة القرآن، الانتفاع بالآيات، والهدى، والنور الذي جاء الله به على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
حينما نسمع هذه الآيات، نوعظ بها، ونذكر بها يجب أن يكون لهذا الصدى في نفوسنا، أن يكون له من الأثر ما يغير حالنا، وواقعنا، فالذي لا يستجيب لا حياة له، وللإنسان من الحياة على قدر ما عنده من الاستجابة لله، ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- فعديم الاستجابة حياته حياة بهيمية، حياة لا ينتفع بها كما يقول الحافظ ابن القيم(18) مثل البهيمة، لا يستجيب، ولا يعقل، حياة الجسد مشتركة بين الإنسان، وبين الحيوان، لكن المؤمن له قلب يعقل به، يستجيب عن الله، وعن رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
فالمستجيبون هم الأحياء، وإن ماتوا، وغير المستجيب هو الميت، وإن كان حيًّا يأكل، ويشرب، ويتنقل، والإنسان له حياتان: حياة جسد، هذه تكون عمارتها بالأكل، والشرب، ويحصل ذلك أيضاً للبهائم، بالعلف، وأما حياة القلب فإنما تكون عمارتها بنفخ الروح على لسان الرسول البشري - عليه الصلاة، والسلام - عن طريق تلقي الوحي، عن طريق تلقي الهدى من النبي -صلى الله عليه وسلم-.
فهذه نفخة، تبعث هذه الحياة الكاملة الحقيقية، وأما الحياة الأولى فتكون بنفخ الملَك حينما يكون عمر الإنسان أربعة أشهر، وهو جنين في بطن أمه، ففرق بين هذه الحياة، وهذه الحياة.
فإذا كان قلبه حيًّا فإنه يفرق بين الحق، والباطل، وما ينفع، وما يضر، ويستجيب، ويتأثر، ولذلك تجد الناس يتفاوتون، منهم من يسمع الموعظة، ويبكي، ومنهم من كأنه لم يسمع، ولذلك وصف الله -سبحانه- حال المنافقين أنهم حينما يخرجون من عند النبي -صلى الله عليه وسلم- يقولون: (مَاذَا قَالَ آنِفًا)[محمد: 16]، ويتساءلون حينما تنزل الآيات: (أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا)[التوبة: 124].
الله -سبحانه- يقول: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا)[التوبة: 124].
ثم ذكر حال المنافقين الذين في قلوبهم مرض، قال: (فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ)[التوبة: 125]، نسأل الله العافية من الناس من لا يزيده سماع الآيات إلا إعراضاً، وكفراً، وشروداً عن الله.
ولذلك ينبغي على الإنسان أن يراجع قلبه، وأن ينظر في مدى انتفاعه من هذه الخطب، والمواعظ، ويخشى، ويحاذر أن يحول الله بينه، وبين قلبه؛ لأن الله توعد غير المنتفعين، غير المستجيبين (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).
يحول بينه، وبين قلبه فلا تنفع به موعظة، ولا يستفيد مما يتعلم، ولا تؤثر به قراءة القرآن من أوله إلى آخره، كأنه لم يقرأ: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ)[الأنعام: 110].
فهنا للتعليل، يعني جزاءً على الراجح، لماذا الله يقلب قلوبهم، وأفئدتهم، وأبصارهم عن الهدى فيصرفون عنه؟ قال: (كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ)[الأنعام: 110].
يعني جزاءً، وفاقاً لأنهم لم يؤمنوا به أول مرة "فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل" فالباء هنا تعليلية على قول جماعة من المفسرين.
"بما" أي: بسبب تكذيبهم من قبل ما كانوا ليؤمنوا، فالعبد يخاف، ويلاحظ حاله، ونفسه، واستجابته، ويخشى أن يحول الله بينه، وبين قلبه، وما يحصل من الفتن بين الناس إنما هو بسبب تفريطهم، وتضييعهم، وتقصيرهم في الاستجابة لله، ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- لأن الله -سبحانه- قال: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)[الأنفال: 25].
فما يقع بين الناس من الفتن هذا من أعظم أسبابه، فلابد إذن من نظر يعاد، ومحاسبة تستجد حينًا بعد حين من أجل مزيد من التأثر، والانتفاع بهذه الخطب التي نحضرها، وكان مقتضى العقل أن الإنسان يقول: لا أسعى إلى شيء دون أن أستفيد، وأنتفع به.
أنت تحضر فما عليك إلا أن تتفطن لطريق تنتفع به من هذا الذي تسمعه.
أسأل الله -سبحانه- أن يجعلنا، وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، وأن يحشرنا في زمرة نبيه -صلى الله عليه وسلم- تحت لوائه، وأن يسقينا، وإياكم شربة من حوضه لا نظمأ بعدها أبداً، وأن يبيض وجوهنا يوم تبيض، وتسودّ وجوه، وأن يغفر لنا، ولوالدينا، ولإخواننا المسلمين.
اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيراً من دنيانا.
اللهم فرّج عن إخواننا في العراق، وفي الصومال، وفي الشيشان، وفي أفغانستان، وفي كل مكان.
اللهم انصرهم نصراً مؤزراً، اللهم انصرهم نصرا ًمؤزراً.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه.
1. أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، برقم (1886)، وسعيد بن منصور في التفسير، برقم (50)، وفي سنده انقطاع فمسعر بن كدام لم يسمع أحدًا من الصحابة.
2. أخرجه البخاري، أبواب الكسوف، باب الصدقة في الكسوف، برقم (1044)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب النهي عن سبق الإمام بركوع، أو سجود، ونحوهما، برقم (426).
3. أخرجه مسلم، كتاب الفضائل، باب توقيره -صلى الله عليه وسلم- وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، أو لا يتعلق به تكليف، وما لا يقع، ونحو ذلك، برقم (2359).
4. أخرجه مسلم، كتاب التوبة، باب فضل دوام الذكر، والفكر في أمور الآخرة، والمراقبة، وجواز ترك ذلك في بعض الأوقات، والاشتغال بالدنيا، برقم (2750).
5. أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب الزكاة على الأقارب، برقم (1461)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب فضل النفقة، والصدقة على الأقربين، والزوج، والأولاد، والوالدين، ولو كانوا مشركين، برقم (998).
6. أخرجه أبو داود، كتاب الزكاة، باب ما لا يجوز من الثمرة في الصدقة، برقم (1608)، وابن ماجه، كتاب الزكاة، باب النهي أن يخرج في الصدقة شر ماله، برقم (1821)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1426).
7. أخرجه البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الوقف، برقم (2737)، ومسلم، كتاب الوصية، باب الوقف، برقم (1632).
8. الدر المنثور في التفسير بالمأثور (2/ 260).
9. تفسير القرطبي (4/ 133).
10. المصدر السابق (4/ 132).
11. أخرجه البخاري، كتاب أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- باب مناقب عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - برقم (3739)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - برقم (2479).
12. تفسير القرطبي (17/ 251).
13. سير أعلام النبلاء (8/ 423).
14. أخرجه البخاري، كتاب أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لو كنت متخذا خليلا" برقم (3662)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- برقم (2384).
15. أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضا، برقم (2661)، وبرقم (4141)، كتاب المغازي، باب حديث الإفك، ومسلم، كتاب التوبة، باب في حديث الإفك، وقبول توبة القاذف، برقم (2770).
16. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ)[الأعراف: 199] برقم (4642).
17. أخرجه البخاري، كتاب المظالم، والغصب، باب صب الخمر في الطريق، برقم (2464)، ومسلم، كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر، وبيان أنها تكون من عصير العنب، ومن التمر، والبسر، والزبيب، وغيرها مما يسكر، برقم (1980).
18. الفوائد لابن القيم (ص: 88).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم