كيف تكون قائدًا لجمهورك (الجزء الأول)

محمود الفقي - عضو الفريق العلمي

2025-01-28 - 1446/07/28
التصنيفات: مقالات

اقتباس

وتجد خطيبًا آخر عالي الهمة صحيح النية مشمرًا عن ساعد الجد، يطمح أن يزاحم بمنكبيه الصحابة والتابعين والدعاة الناصحين، أمله أن يكون قائدًا لجمهوره إلى الصلاح، وقائدًا للحي الذي يقع فيه مسجده إلى الجنة...

الخطباء أنواع وأصناف، كلٌ له قدرات وطموحات وآمال، وإنك لتجد بين خطيب وخطيب كما بين الثرى والثريا وبُعدَ ما بين السماء والأرض؛ فتجد منهم من هو رديء النية محدود الجهد متواضع الطموحات، يؤدي أعماله الدعوية -إن أداها- بشكل روتيني رتيب، كارهًا لرسالته غير مكترث لدعوته، فهو موظف يمضي أيامه ليتحصل آخر الشهر على راتبه، وكفى!

 

وتجد خطيبًا آخر عالي الهمة صحيح النية مشمرًا عن ساعد الجد، يطمح أن يزاحم الصحابة والتابعين والدعاة والمصلحين، أمل هذا الخطيب أن يكون قائدًا لجمهوره إلى الصلاح، وقائدًا للحي الذي يقع فيه مسجده إلى الجنة، بل وقائدًا للأمة الإسلامية ليعود بها إلى الإسلام من جديد... قائدًا فوق القلوب والأرواح، لسان حاله:

دعاة قنع لا خير فيهم *** وبورك في الدعاة الطامحينا([1])

 

ولهذا الخطيب الأخير وحده قد عقدنا هذا المقال؛ ندلُّه على السبيل، ونقدِّم له بعض الاستراتيجيات التي نراها صالحة لأن تجعله "قائدًا" لجمهوره، وليس مجرد خطيب أو موجِّه أو مُنَظِّر... قائد دعوي يقود -من خلال خطبه ومواعظه ودروسه وسلوكه- قلوب جمهوره وعقولهم إلى أصول الإسلام ويمسِّكهم بمبادئه.

 

ودعونا نقرر في إجمال فنقول إن "الأفعال المحمودة والأخلاق الجميلة توجب السؤدد والرياسة، والأفعال المذمومة والأخلاق الدنّية تمنع من السّؤود"([2]).

 

ومن البداية، لا تتوقع -أخي الخطيب- أن يكون أغلب ما نسرد من الاستراتيجيات سهلًا ولا ميسورًا؛ فإن طريق القيادة الدعوية والسيادة الخطابية والتصدر والمعالي يحتاج إلى تضحية وبذل ومخالفة للنفس، لذا قال المتنبي:

لا يدرك المجد إلا سيد فطن *** لما يشق على السادات فعال

لولا المشقة ساد الناس كلهم *** الجود يفقر والإقدام قتال

 

والآن، أتركك -أخي الخطيب- مع هذه المجموعة من الاستراتيجيات التي أرجو أن تكون معينة لك على امتلاك زمام القيادة الروحية والدينية لجمهورك:

الاستراتيجية الأولى: كن مخلصًا تكن قائدًا:

دائمًا وأبدًا، وكان ولا يزال، وسيظل الإخلاص لله -تعالى- في الأعمال هو سر قبول تلك الأعمال عند الله ثم عند الناس، وهل كالإخلاص لله -تعالى- نصيحة ننصحك بها؟!

 

فإياك إياك أن تطلب قيادة قلوب الناس وعقولهم لتُذْكَر بينهم وليرتفع قدْرك في عيونهم! كلا، فإن هذا عين الخيبة والخسران والبوار، ولا أظنك إلا تحفظ قول القاضي أبي يوسف: "أريدوا بعلمكم الله -تعالى-؛ فإني لم أجلس في مجلس قط أنوي فيه أن أتواضع إلا لم أقم حتى أعلوهم، ولم أجلس مجلسًا قط أنوي فيه أن أعلوهم إلا لم أقم حتى أفتضح"([3])... ولأني أعلم أنك تحفظ من النصوص في هذا المقام أكثر مما أحفظ فلن أطيل عليك بها...

 

لكنني أزيدك أنك إن أخلصت النية لله -تعالى- وحده لا شريك له، ودعوتهم إلى ربك لوجه ربك لا سواه، صار لك -وإن لم تقصد، وإن لم تُرد، وإن لم تنو- مكانة ومهابة ومنزلة وتأثيرًا في قلب وعقل ووجدان كل من يسمعك... سَمِّه إن شئت: "سحر الإخلاص" أو "عطر المخلصين"... لكنه على كل حال ينتج ما نصبوا إليه؛ وهو أن يتبعوك ويطيعوك لتكون قائدهم إلى الهدى والخير.

 

فكم من دعاة يدعون! وكم من خطباء يخطبون! وكم من واعظين يعظون! لكن كم عدد من كُتب له القبول منهم؟ كم عدد من أثمرت دعوته؟ وأثَّرت في الناس خطابته؟ إنهم قليل جد قليل، وما السبب؟ هل قدرات الخطيب وعلمه ووعيه؟ إني لا أرجح هذا؛ فمن المغمورين من قد يكون ذا قدرات وعلم... لكن السبب هو الإخلاص لله رب العالمين، هو صلته وتقربه لربه -عز وجل- حتى يحبه الله، يؤيد هذا حديثُ الصحيحين: "إذا أحب الله العبد نادى جبريل: إن الله يحب فلانًا فأحببه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض"([4])...

هكذا نحسبهم والله حسيبهم، فأخلص لتكون منهم.

 

الاستراتيجية الثانية: كن قدوة، تكن قائدًا:

إن الحسرة كل الحسرة على خطيب لم يعمل بما أمر به الناس أن يعملوا، يقول حاتم الأصم: "ليس في القيامة أشدة حسرة من رجل علَّم الناس علمًا، فعملوا به، ولم يعمل هو به، وفازوا بسببه وهلك"([5])، ويقول الشعبي: "يطلع قوم من أهل الجنة إلى قوم أهل النار، فيقولون: ما أدخلكم النار، فإنا أدخلنا الجنة بفضل تأديبكم وتعليمكم؟ فقالوا: إنا كنا نأمركم بالخير، ولا نفعله"([6])... وما أخذه إلا من حديث الصحيحين: "يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه"([7])... أعاذني الله وإياكم أن نكون من هؤلاء.

 

أخي الخطيب: لقد أخبرتك أني لا أريد أن أعيد عليك كلمات أنت تتقنها، لكني فقط أريدك أن تعلم: أن جمهورك سينفر منك وستفقد كلماتك كل تأثيرها عليهم إن عاينوك تفعل غير ما تقول، وتقول غير ما تفعل! مصداق ذلك قول مالك بن دينار: "إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما يزل القطر عن الصفا"([8])، وصدق القائل:

إن الكمال الذي ساد الرجال به *** هو الوقار وقرن العلم بالعمل

 

وتأمل معي في هذه الأحاديث؛ لنتعرف من خلالها على حال رسولنا -صلى الله عليه وسلم-؛ كيف كان فعله دائمًا خيرًا من قوله:

يروي علي -رضي الله عنه- فيقول: "كنا إذا حمي البأس، ولقي القوم القوم، اتقينا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا يكون أحد منا أدنى إلى القوم منه"([9])، وزاد البراء: "وإن الشجاع منا للذي يحاذي به"([10]).

ويروي أنس -رضي الله عنه- فيقول: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، وقد فزع أهل المدينة ليلة سمعوا صوتًا، فتلقاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- على فرس لأبي طلحة عري، وهو متقلد سيفه، فقال: "لم تراعوا، لم تراعوا"([11]).

فقد كان -صلى الله عليه وسلم- لا يأمر بشيء إلا ويكون أول الفاعلين له، ولا ينهى عن شيء إلا ويكون أول المنتهين عنه.. فكذلك فكن؛ لتسعد أنت، ثم لتقود بفعلك جمهورَك إلى ما يحبه ربك.

 

الاستراتيجية الثالثة: كن خبيرًا مطلعًا مثقفًا واعيًا، تكن قائدًا:

تعلم -أخي الخطيب- أن الخبرة ترفع صاحبها وتلجئ الناس إلى الحاجة إليه، ومن كان ماهرًا في مجال من المجالات خبيرًا بأسراره كان -رغم الجميع- قائدًا لهم في ذلك المجال، ولعل أوضح مثال على ذلك هو ما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- حين ائتمن رجلًا يعبد الأصنام على سر هجرته -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه كان خبيرًا ماهر في مجال يحتاج إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه وهو معرفة طرق الصحراء وشعابها، تقول أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: "واستأجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأبو بكر رجلًا من بني الديل هاديًا خريتًا -أي: ماهرًا خبيرًا- وهو على دين كفار قريش، فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما"([12]).

 

بل إنك تعلم -أخي الخطيب- أن العلم والخبرة التي يمتلكها الكلب المعلم -أعزك الله-؛ بألا يأكل مما يمسك، أحلت أكل صيده، دون سواه من الكلاب: (وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ)[المائدة: 4].

 

والحاجة إلى الخبراء في كل مجال هي التي أحوجت الناس إلى "غلام" ما كانوا يظنون أن يحتاجوا إليه يومًا، فلقد أصبح هذا الغلام بما اكتسب من العلم "حبر الأمة وترجمان القرآن"؛ إنه ابن عباس -رضي الله عنهما- يحكي فيقول: "لما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قلت لرجل من الأنصار يا فلان هلم فلنسأل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإنهم اليوم كثير"، فقال: واعجبا لك يا ابن عباس، أترى الناس يحتاجون إليك، وفي الناس من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- من ترى؟ فترك ذلك، وأقبلت على المسألة، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه، وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه، فتسفي الريح على وجهي التراب، فيخرج، فيراني، فيقول: يا ابن عم رسول الله ما جاء بك؟ ألا أرسلت إلي فآتيك؟ فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك، فأسأله عن الحديث، قال: فبقي الرجل حتى رآني، وقد اجتمع الناس عليَّ، فقال: "كان هذا الفتى أعقل مني"([13]).

 

وكم نرى من خبير في أحد المجالات سببت له خبرته تلك: التصدر والريادة والقيادة في مجاله الذي يحسنه.

 

والآن: سل نفسك -أخي الخطيب- ما الذي تملكه من الخبرات ليشار إليك بالبنان وليحتاج إليك الناس في بابك فيُنَصِّبوك فيه قائدًا؟ في أي من المجالات يمكنك التميز؟ في أي مجال تمتلك موهبة وملكة فتعمل على تنميتها؟ هل في إلقاء المواعظ الخاصة لقوم ألـمَّت بهم نائبة، أم في خطب المناسبات الدورية، أم في المحاضرات التي تجمع مختلف الأطياف، أم في الدروس المتخصصة التي يُخص بها فئة من الفئات؟... فإذا أدركت "مجالك" الذي يمكنك التميز والنبوغ فيه، فاجتهد فيه وطوِّر نفسك فيه حتى تصبح فيه قائدًا.

***

إخواني الخطباء: إن هذا الذي قدمناه إنما هو حديث للخطباء النابهين الذين يمتلكون الطموح والرغبة في الترقي، ويحملون هَمَّ الدعوة إلى الله -تعالى- والتي تُعَد الخطابة من أهم أدواتها، حديث لهم وحدهم دون غيرهم.

[1])) أصل هذا البيت لأمير الشعراء أحمد شوقي، ونصه: شباب قنع لا خير فيهم *** وبورك في الشباب الطامحينا.
[2])) بهجة المجالس، لابن عبد البر (2/612)، ط: دار الكتب العلمية: بيروت لبنان.
[3])) بستان العارفين، للنووي (ص: 30)، ط: دار الريان للتراث.
[4])) رواه البخاري (3209)، ومسلم (2637).
[5])) تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين، لابن النحاس (ص: 127)، ط: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.
[6])) رواه النسائي في الكبرى (11860).
[7])) رواه البخاري (3267)، ومسلم (2989).
[8])) الزهد، لأحمد بن حنبل (ص: 262)، ط: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.
[9])) رواه النسائي في الكبرى (8585)، والحاكم واللفظ له (2633).
[10])) رواه مسلم (1776).
[11])) رواه البخاري (3040)، ومسلم (2307).
[12])) رواه البخاري (2264).
[13])) رواه الحاكم (6294)، والدارمي واللفظ له (590).

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات