اقتباس
إن طالت برودة الحديد ولم يحدث ما يرفع درجة حرارته ليقبل السحب والطرق؛ فاعمل أنت على تسخينه، تمامًا كصائد الطيور؛ فإنه إن لم يجد الطير مجتمعًا في مكان واحد ليسهل عليه صيده؛ فإنه يلقي إليه بطعم مغرٍ فيجتمع عليه فيصطاده، وكذلك صياد السمك يركب...
جلست مرة على شاطئ أحد الأنهار في يوم من أيام الشتاء؛ فإذا بقارب صغير للصيد يمر من أمامي، وإذا بالصياد يقف داخل القارب ممسكًا بشبكة عرضها لا يجاوز المترين أما طولها فيزيد عن عشرين مترًا، فالقارب يسبح ببطء والصياد يُنزل الشبكة إلى الماء شيئًا فشيئًا، حتى إذا أنزلها بالكامل استدار بقاربه حتى وصل المكان الذي بدأ فيه إنزال الشبكة، وعندها بدأ يرفع مجدافه للأعلى ثم يلطم به صفحة الماء مرارًا وهو يمضي بجانب الشبكة التي ألقاها!
تعجبت؛ لما يضرب صفحة الماء بمجدافه! ما الفائدة من ذلك؟.. بعد ذلك علمت أنه يصنع ذلك لأن الأسماك تأوي إلى جحورها في قاع الأنهار -خاصة عند برودة الماء- فلا تدخل في شباك الصيادين، فيعمد الصياد إلى ضرب وجه الماء بالمجداف ليزعج الأسماك عن أماكنها ويدفعها إلى التحرك فزعًا والتجول في الماء؛ فتقع في شبكته، فقلتُ: فإني لا أرى الصيادين يفعلون ذلك في الصيف عند اشتداد الحرارة؟! فأُجِبتُ: في الصيف والحر لا داعي لذلك فإن الحر واضطراب الأمواج بفعل الرياح كلاهما يزعج الأسماك عن أماكنها ويُخرجها من مأواها فتقع في شباك الصيادين دون ضرب الماء بالمجاديف.
وعندها قلت لنفسي: ما أشبه حال تلك الأسماك التي تخلد للدفء في قاع المياه ولا تحب الانتقال منه بحال كثيرين من أهل زماننا الذين يركنون إلى ما اعتادوا من الدنيا ويخلدون إلى ما وجدوا عليه آباءهم من الأعراف والتقاليد ويرفضون كل مساس بها ويمتنعون عن كل تغيير! وساعتها أعجبت أيما إعجاب بما يصنع الصياد؛ إنه يدفعها دفعًا إذا ما ركنت وجمدت، إنه "يحرك المياه الراكدة شتاءً، ويستثمر حركتها الطبيعية صيفًا"، وهنا قفزت الفكرة إلى رأسي -بصفتي خطيب مسجد- فقلت: لماذا لا يصنع خطباء المساجد ذلك؛ لماذا لا يستثمرون الأمواج إذا هاجت فيلتقطون من بينها الأسماك، ولماذا لا يهيجونها إذا ركدت ليتوصلوا إلى ما يريدون؟
وحينها ثار التساؤل المنطقي: وكيف للخطباء أن يصنعوا ذلك؟! أليس من الحتمي وجود استراتيجية محددة المبادئ والخطوات لصنع ذلك؟
وللإجابة على هذا السؤال كان هذا المقال؛ "اطرق الحديد الساخن"، الذي ذكرت في جزئه الأول أربع أساليب لطرق الحديد الساخن، وهي:
أولًا: استثمار الحوادث المفاجئة، والحوادث الغير تقليدية، والحوادث المتكررة ذات الوقع.
ثانيًا: انتهاز لحظة الانبهار.
ثالثًا: استغلال التقلبات الاقتصادية والسياسية.
رابعًا: استغلال انفعالاتك أنت.
خامسًا: استغلال الأخطاء وسوء الفهم:
إن المخطئ حين يدرك خطأه ويعترف به يكون في أضعف حالاته وأكثرها استعدادًا لقبول التقويم والتعليم -بخلاف المخطئ الذي يعاند ولا يعترف بخطئه-، ولحظة إدراك المخاطب أنه كان مخطئًا لحظة ثمينة غالية نادرة لا ينبغي أن يضيعها أي خطيب نابه، بل ينبغي أن يحسن استثمارها واستغلالها، قدوتنا في ذلك معلِّم الخطباء -صلى الله عليه وسلم-، ولعل أشهر نموذج لذلك هو حديث أنس -رضي الله عنه- حين قال: "جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر! قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا! فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليهم، فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني"([1]).
فها هم قد أدركوا كم كانوا على خطأ، وها هو -صلى الله عليه وسلم- يستثمر إدراكهم لخطئهم في تعليمهم ما أُوْقن أنهم لم ينسوه طوال أعمارهم.
وآخرين ضحكوا من دقة ساقي عبد الله بن مسعود؛ فأشعرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بخطئهم قائلًا: "ما يضحككم من دقة ساقيه"، ثم أطلعهم على شيء من الغيب ليؤكد لهم شدة خطئهم فقال: "والذي نفسي بيده إنهما أثقل في الميزان من أحد"([2])، فاستقر عندهم مبدأ راسخ يقول: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"([3]).
ولما قال رجل عن مالك بن الدخشن: ذلك منافق لا يحب الله ورسوله، خطَّأ النبي -صلى الله عليه وسلم- كلامه قائلًا: "لا تقل" وبيَّن سبب خطئه قائلًا: "ألا تراه قال: لا إله إلا الله، يريد بذلك وجه الله؟" فقال الرجل: الله ورسوله أعلم، ثم قال غيره: فإنا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين! وعندها قعَّد -صلى الله عليه وسلم- القاعدة فقال: "فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله"([4])... ثم النماذج لذلك من السنة النبوية لا تكاد تنحصر.
فعليك -أخي الخطيب- أن تصنع كما صنع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتستثمر تلك اللحظات؛ حين يقر المخطئ بخطئه فيخضع ويذعن وينتظر منك أن تعلِّمه، فإن جاءك من يقول: لما لا تطيل في صلاة المغرب؟ أو لما لا تصلي بعد الفجر أو العصر؛ فعلَّمتَه أن السنة غير ذلك، فقعِّد له القاعدة التي تقول: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)[الحشر: 7]، وأننا متبعون لا مبتدعون.
وإذا رأيت من يتعاركان في المسجد، فلَمَّا لفتَّ نظرهما إلى حكم رفع الصوت والاختلاف في المساجد استحييا من صنيعهما، فاستثمر الفرصة وعلِّمهما أن "الخلاف شر"([5]).
ولكن احذر -زميلي الخطيب- وأن تصنع ذلك أن يتحول أسلوبك مع المخطئ المعترف إلى توبيخ وتأنيب وتقريع، أو أن تكثر عليه من التوجيه والتصحيح، فيصده ذلك عن قبول نصيحتك، ولكن لتحنو عليه وتظهر تفهمك لما وقع فيه والتمس له عذرًا، فإنك إن فعلت ذلك وأحس هو بحنوك عليه قبِل منك كل ما تقول.
سادسًا: استغلال واقعة داخل المسجد:
وما أكثر الوقائع التي تحدث داخل المسجد، والتي لا ينبغي لخطيب واعٍ أن يجعلها تمر دون أن يستغلها ويستثمرها، ومن تلك الوقائع: سهو الإمام نفسه في الصلاة؛ فيسلم بعد اثنتين -مثلًا- في صلاة رباعية، أو يترك التشهد الأول، وأفضل استثمار لهذا أن يعلمهم أحكام سجود السهو، وكيف سهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسلَّم بعد ركعتين...
ومن الوقائع: رفع أحد المصلين صوته في المسجد: فليستغل ذلك الخطيب في تعليم الناس آداب المساجد كلها عامة، ثم حكم رفع الصوت في المساجد خاصة...
ومن الوقائع المسجدية: دخول صبي إلى المسجد وإحداثه ضوضاء وانتهار الناس له: وأحسن ما يستثمر به هذا الموقف أمرين، الأول للناس عامة: وهو الرفق واللطف مع الأطفال -بل مع المخطئين عامة- وكيف تعامل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع من بال في المسجد، ومع من جبذه من عباءته... والأمر الثاني لولي أمر الطفل الذي أحدث الضوضاء: أن يعلِّمه ويؤدبه...
ومنها: دخول متسول إلى المسجد: فإن غلب على ظن الخطيب أنه محتاج صادق فليجعله درسًا عمليًا في البذل والسخاء والعطاء؛ وليحث الناس على الصدقة، ويذكِّرهم حين دخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- قوم حفاة عراة مجتابي النمار فتمعر وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما رأى بهم من الفاقة، فدعا -صلى الله عليه وسلم- إلى التصدق عليهم، حتى اجتمع عنده -صلى الله عليه وسلم- كومين من طعام وثياب، فتهلل وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: "من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها بعده..."([6]).
وإن شك في أن السائل كاذب وقد اتخذ من سؤال الناس مهنة وحرفة فلينتهزها فرصة ليعلِّم الناس متى يحل للمسلم السؤال، وما عقوبة من سأل الناس استكثارًا: وأنه "ما يزال الرجل يسأل الناس، حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم"([7])، وأنه "من سأل الناس أموالهم تكثرًا، فإنما يسأل جمرًا فليستقل أو ليستكثر"([8])، ثم ليعرج على الوسائل الإسلامية لصيانة النفس عن ذل السؤال.
ومن الوقائع: نشدان ضالة داخل المسجد: وهي فرصة لتعليم الناس تنزيه المساجد عن الأمور الدنيوية قدر المستطاع، وبيان تشديد الإسلام في هذا الأمر حتى قال نبي الإسلام -صلى الله عليه وسلم-: "من سمع رجلًا ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك؛ فإن المساجد لم تبن لهذا"([9]).
ومن الوقائع: قدوم ضيف صاحب فضل أو منصب إلى المسجد، ويستغل ذلك بالحديث عن فضل قضاء حوائج الناس، ومنها: موت رجل داخل المسجد، ويستثمر ذلك بالحديث عن حسن الخاتمة وسوئها وأن الموت نهاية كل مخلوق، ومنها: ولادة طفل لأحد أبناء الحي، وتلك فرصة للحديث عن هبة الحياة وقدرة الله في الخلق والإيجاد، ومنها: زواج أحد رواد المسجد، وهي مناسبة طيبة لتوعية الناس بأسس بناء الأسرة المسلمة بدءًا من حسن الاختيار إلى وسائل التعامل مع الشقاق والمشاكل الزوجية.
سابعًا: تسخين الحديد:
إن طالت برودة الحديد ولم يحدث ما يرفع درجة حرارته ليقبل السحب والطرق، فاعمل أنت على تسخينه، تمامًا كصائد الطيور؛ فإنه إن لم يجد الطير مجتمعًا في مكان واحد ليسهل عليه صيده فإنه يلقي إليه بطعم مغرٍ فيجتمع عليه فيصطاده، وكذلك صياد السمك -الذي أشرنا إليه- يركب قاربًا ويلقي بشبكته فإن لم يجد الأسماك تقع فيها من تلقاء نفسها، قام وضرب وجه الماء بعرض مجدافه حتى يفزع السمك فيفر هاربًا فيقع في شبكته.
وأحسن من طبَّق ذلك هو نبينا -صلى الله عليه وسلم-؛ فحين أُمر بالجهر بالدعوة وجد الحياة في مكة راكدة هامدة جامدة، فأراد أن يحدث حادثة أو واقعة تهيئ القلوب لاستقبال الجديد أو على الأقل تهيؤها لتعي وتعقل ما سيلقيه على آذانهم، فصعد الصفا ونادى في الناس صائحًا، فمنهم من فزع، ومنهم من ثار فضوله، فكان من لم يستطع الخروج إليه -صلى الله عليه وسلم- أرسل من يأتيه بالخبر، ولنترك ابن عباس -رضي الله عنهما- يروي لنا ما حدث فيقول: لما نزلت: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)[الشعراء:214]، صعد النبي -صلى الله عليه وسلم- على الصفا؛ فجعل ينادي: "يا بني فهر، يا بني عدي" -لبطون قريش- حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولًا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟" قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا، -وفي لفظ: قالوا: ما جربنا عليك كذبًا- قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد"([10]).
وبهذه الطريقة ذاع خبر الرسالة النبوية في مكة كلها في ساعة من نهار، وبهذه المهارة النبوية تنبهت العقول للدين الجديد الناشئ وانشغل به بالهم يقلِّبون فيه النظر؛ فآتت طريقة "تسخين الحديد، وتحريك المياه الراكدة" ثمارها من أول أيام الدعوة الجهرية.
لكن كيف يفعل ذلك الخطيب؟ أقول: لذلك طرق كثيرة، منها: صعود المنبر في غير خطبة الجمعة وإلقاء الدرس أو الموعظة من فوقه، وفي ذلك إشعار بأهمية ما سيقول وجذبًا لانتباه الناس لأنهم لم يعتادوا ذلك، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصنعه.
ومنها: النداء في مكبر الصوت بمثل كلمة: الصلاة جامعة؛ فإذا اجتمع الناس حدثهم الخطيب بما أتقن تحضيره؛ فعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر، فنزلنا منزلًا فمنا من يصلح خباءه، ومنا من ينتضل... إذ نادى منادي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الصلاة جامعة"، فاجتمعنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء، وأمور تنكرونها..."([11]).
ومنها: تعليق لافتات عديدة في المسجد إعلانًا عن محاضرة في موضوع بعينه، فهذا يلفت الانتباه ويُشْعِر بحدوث جديد غريب، ومنها: تغيير طريقة الإلقاء لأسلوب حماسي جدي لم يعتادوه، ولن يعدم الخطيب الذكي ما يحرك به المياه الراكدة ويلفت الانتباه و"يسخن الحديد البارد".
--------
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم