كيف تكون تاجرا؟

ناصر بن محمد الأحمد

2015-12-23 - 1437/03/12
عناصر الخطبة
1/ التجارة وطلب الرزق من الأمور المشروعة 2/ المال عصب الحياة 3/ للمال فوائد دينية ودنيوية 4/ هل للتجارة فوائد؟ 5/ مفاسد الاشتغال بالتجارة 6/ أمور تجب مراعاتها عند ممارسة التجارة 7/ نصائح للتجار 8/ سمات التجارة الحقيقية.

اقتباس

المال من الضروريات التي لا تستقيم مصالح الدنيا إلا به، وهو قوام حياة البشر ومعاشهم. ولا يمكن تحصيل المال إلا عن طريق التكسب والمضاربة والإجارة وغيرها من الوسائل المباحة شرعاً. والناظر لعامة المسلمين اليوم يجدهم بين أمرين: مغرق فيها، وشغله الشاغل جمعها والسعي في تحصيلها، ولا نصيب له من هموم الإسلام والمسلمين. وآخر محجم عنها محذر منها يرى من امتهنها أنه ناقصٌ عديم النفع قليل البركة. فأيّ الأمرين هو الصحيح؟...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله ..

 

أما بعد: أيها المسلمون: إن التجارة وطلب الرزق من الأمور المشروعة في الإسلام، فالأصل فيها الإباحة، بل قد تكون مستحبة بحسب المقصد منها. والمال من الضروريات التي لا تستقيم مصالح الدنيا إلا به، وهو قوام حياة البشر ومعاشهم.

 

ولا يمكن تحصيل المال إلا عن طريق التكسب والمضاربة والإجارة وغيرها من الوسائل المباحة شرعاً.

 

والناظر لعامة المسلمين اليوم يجدهم بين أمرين: مغرق فيها، وشغله الشاغل جمعها والسعي في تحصيلها، ولا نصيب له من هموم الإسلام والمسلمين. وآخر محجم عنها محذر منها يرى من امتهنها أنه ناقصٌ عديم النفع قليل البركة. فأيّ الأمرين هو الصحيح؟.

 

أيها المسلمون: المال عصب الحياة كما قال -تعالى-: (وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً) [النساء: 5]. أي: تقوم بها معايشكم.
 

والحاجة للمال ماسة في حق الفرد والجماعة، وبيان حاجة الفرد للمال: أن حفظ حياته متوقف على الأكل والشرب، وكذلك الملابس الواقية من الحر والقر، وكل هذه الأشياء تتطلب مالاً، وهذا ما يكون أكثر وضوحاً في البلاد الفقيرة التي شَحّ فيها المال بأيدي الناس.

 

وأما في حق الجماعة فالحاجة إليه من وجوه عدة:

منها: أن الأمة هي مجموعة من الأفراد، فإذا دخل النقص على كل فرد دخل على الأمة جميعاً.

 

ومنها: أن الأمة مطالبة بمجموعها بالدفاع عن دين الله والجهاد في سبيل الله، ولا بد لذلك من عُدة، ولا يكون ذلك إلا بالمال كما قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) [الأنفال: 60].

 

ومنها: أن وجود المال في يد الأمة يغنيها عن أعدائها، وهذا واقع لا يحتاج إلى دليل.

 

قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) [البقرة: 267]. وقال تعالى: (رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ) [النور: 37]، فمدح الله إقامتهم لذكر الله في وقت التجارة. وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا البَيْعَ) [الجمعة: 9].

 

 فأمرهم بترك البيع في وقت محدود، وهو يوم الجمعة، مما يدل على جوازها في غير ذلك. ثم قال: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ) [الجمعة: 10]، أي: من التجارة ونحوها.

 

وكان الأنبياء -عليهم السلام- يؤجِّرون أنفسهم عند الحاجة، وقد قص الله علينا نبأ موسى عليه السلام مع شيخ مدين حينما قال له: (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ) [القصص: 27].

 

فمكث موسى -عليه السلام- عشر سنوات، لكي يعفّ فرجه ويشبع بطنه، وقال تعالى: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى، قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى) [طه: 17-18].

 

وقال في قصة داود -عليه السلام-: (وَأَلَنَّا لَهُ الحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا) [سبأ: 10-11]، حيث كان عليه الصلاة والسلام يصنع الدروع، فاحترف مهنة الحدادة التي يمتهنها بعض الناس اليوم. وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما بعث الله نبياً إلا ورعى الغنم، كنت أرعى الغنم، وكنت أرعاها على قراريط لأهل مكة" (رواه البخاري).

 

 وخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- في بدء أمره يريد الشام للتجارة. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة". (رواه البخاري ومسلم). وقال -صلى الله عليه وسلم-: "نِعْمَ المال الصالح للرجل الصالح" (رواه أحمد).

 

 وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن داود النبي -عليه السلام- كان لا يأكل إلا من عمل يده" (رواه البخاري).

 

وأخرج مسلم بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن زكريا -عليه السلام- كان نجاراً".

 

وكان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمّال أنفسهم، وكانوا يتجرون في البر والبحر ويعملون في نخيلهم، ولم يؤثر عن واحد منهم أنه ترك العمل والتكسب وجلس في بيته، بل ورد عنهم ذم ذلك. قال عمر -رضي الله عنه-: "لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني، فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة".

 

أيها المسلمون: للمال فوائد دينية ودنيوية، أما الفوائد الدنيوية فالخلق يعرفونها، ولذلك تهالك الناس في طلبها والسعي في تحصيلها. وأما الدينية فتنحصر في ثلاثة أنواع:

 

الأول: أن ينفقه على نفسه، إما في عبادة كالحج والعمرة والصدقة ونصرة المسلمين، وإما يستعين به على العبادة كالمطعم والملبس والمسكن وغيرها من ضرورات المعيشة، فإن هذه الحاجات إذا لم تتيسر لم يتفرغ القلب للدين والعبادة.

 

الثاني: ما يصرفه إلى الناس، كالصدقة والهدية وضيافة الإخوان والأصدقاء ونحوها.

 

الثالث: ما يصرفه في وجوه البر كبناء المساجد ودعم الهيئات الدعوية والإغاثية وغيرها من وجوه البر.

 

عباد الله: هل للتجارة فوائد؟. نعم للتجارة فوائد:

منها: الاستغناء عن الناس: فقد جاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "استغن عن الناس ولو بشوص السواك" (رواه الطبراني بسند صحيح).

 

ومنها: أنها سبب في إقامة ألوان من العبودية لله -عز وجل-: فمن يمتلك المال يستطيع أن يضيف إلى نفسه أجوراً مضاعفة، كالأوقاف، والدعوة إلى الله، والصدقات، ونصرة المستضعفين، وتفطير الصائمين، وغيرها من ألوان العبودية، ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم-: "ذهب أهل الدثور بالأجور"، وفي رواية: "بالدرجات العلى والنعيم المقيم". (رواه البخاري). وهم أصحاب الأموال، فقد أضافوا لأنفسهم نوعاً من العبادة وهو الصدقة، ولم يستطع غيرهم أن يفعله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

 

ومنها: أنها تقوي التوكل على الله: فالتجارة نوع من المخاطرة، فقد يكسَب الإنسان وقد تركبه الديون، فلذلك تجد قلبه متعلقاً بالله محتاجاً إليه.

 

ومنها: أنها تحقق الأمن الاقتصادي للأمة الإسلامية: فالأمة التي لا تملك اقتصادها لا تملك قرارها، فالذي يملك التجارة والمال يؤثر في الناس، وهذا ما حصل مع ثمامة بن أثال عندما أسلم قال لقريش: "والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي -صلى الله عليه وسلم-" (رواه البخاري).

 

أيها المسلمون: ومع أن للتجارة فوائد لكن هناك أمور يجب أن يراعيها من يمارسها:

من ذلك: ألا تلهيه عن طاعة الله: فإن هناك واجبات عينية وكفائية لا بد من مراعاتها وعدم الإخلال بشيء منها على حساب ما يقوم به من عمل تجاري، وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من ذلك فقال: "تعس عبد الدينار".

(رواه البخاري).

 

 إن الاشتغال بالتجارة إذا أحدث نقصاً في الطاعة لم يكن مباحاً، بل يُكره أو يَحرُم، على حسب ما يحصل على الطاعة من خلل، فمن شغلته التجارة عن تحية المسجد، أو عن فضيلة إدراك تكبيرة الإحرام في الصلاة، كانت مكروهة، ومن شغلته عن صلاة الجماعة أو عن أدائها أول الوقت كانت محرمة عند ضيق الوقت، وكذلك من شغلته عن فعل واجب ولو مع أهله كان انهماكه المشغل عن ذلك حراماً.

 

ومما يجب مراعاته: أن يؤدي الحقوق الشرعية في تجارته: وذلك كزكاة عروض التجارة. وأن يتجنب التجارة بالحرام ويتحرى الرزق الحلال: فيتحرى الحلال، ويجتنب الحرام، ويتورع عن المشتبه، فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ من حلال أم حرام" (رواه البخاري).

 

وأيضاً: ألا يكون همّه الشاغل: فيجعل من عمله هذا وسيلة للتقوى على طاعة الله، فالهم هم الآخرة، فيجعل الآخرة في قلبه والدنيا في يده، وأما من أصبح وهمه الدنيا، فهذا الذي لا تحمد عقباه، وقد حذرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- من ذلك فقال: "من أصبح والدنيا أكبر همه فرق الله عليه صنيعته، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن أصبح والآخرة أكبر همه، جمع الله عليه صنيعته، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة" (رواه الترمذي).

 

بارك الله ..

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله ..

 

أما بعد: أيها المسلمون: ومن أهم المهمات التي ينبغي معرفتها من يمارس التجارة أن يتعلم أحكام البيع والشراء: فيعرف الحلال والحرام، فلا يبيع للناس المحرمات، ولا يغشهم، ولا يخدعهم، ولا يروِّج سلعته بالكذب واليمين الغموس، وحتى لا يدخل الربا عليه من أبواب قد لا يعرفها. وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: "لا يبيع في سوقنا إلا من قد تفقه في الدين" (رواه الترمذي).

 

وأيضاً: أن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر: فالتاجر أثناء تجارته قد يرى من المنكرات التي لا ترضي الله، فواجب عليه إنكارها وعدم السكوت عنها، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" (رواه مسلم).

 

وأيضاً: أن يقنع بما رزقه الله: فالقناعة كنـز عظيم، وقد علق النبي -صلى الله عليه وسلم- الفلاح لمن رُزق كفافاً وقناعة بما عنده، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "قد أفلح من أسلم وكان رزقه كفافاً وقنّعه الله بما آتاه" (رواه مسلم).

 

ثم ليعلم أنه لن يأتيه من الدنيا إلا ما كتب له. فمهما جد واجتهد، وبذل الغالي والنفيس، فلن يأتيه من الدنيا إلا ما قد كتب له. قال الله تعالى: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَات) [الزخرف: 32]. فتوقن بأن المقدر لك يأتيك، وإن لم يقدر فلا يأتي، فمن أيقن بذلك أورث الله عز وجل قلبه خصلتين: أن يأمن قلبه من أن يفوته ما قدر له. وأن ييأس من أن ينال ما لم يقدر له. فمن فعل ذلك قلَّ همه وغمه، وخضوعه للخلق، والمداراة لهم، لأن ينال بهم منفعة، فهذا الغنى بالله عز وجل.

 

وليس رزق الفتى من حسن حيلته *** لكن جدود بأرزاق وأقسام

كالصيد يُحرمَه الرامي المجيد وقد *** يرمي فيُرزَقه من ليس بالرامي

 

أيها المسلمون: إن التجارة الحقيقية هي التجارة مع الله: فهي التجارة المضمونة الربح التي لن تبور، ولن تكسد وتفسد، بل تجارة هي أجلُّ التجارات، وأعلاها وأفضلها، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِراًّ وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُور) [فاطر: 29].

 

وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيم) [الصف: 11]. ثم ذكر نوع هذه التجارة في الآية التي بعدها: (تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون) [الصف: 11].

 

نسأل الله أن يرزقنا الهدى والتقى والعفاف والغنى، وأن يغنينا بحلاله عن حرامه وبفضله عمن سواه.

 

اللهم..

 

 

المرفقات

تكون تاجرا؟

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات