كيف تجيب سؤالًا (2)

محمود الفقي - عضو الفريق العلمي

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: تدريب

اقتباس

فأجاب: "لا يجوز للإنسان إذا استفتى عالمًا واثقًا بقوله أن يستفتي غيره؛ لأن هذا يؤدي إلى التلاعب بدين الله وتتبع الرخص؛ بحيث يسأل فلانًا فإن لم يناسبه سأل الثاني، وإن لم يناسبه سأل الثالث وهكذا، وقد قال العلماء في تتبع الرُّخص: فسق..."( )، اللهم إلا إذا...

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

فلقد سمعت أحد كبار المحدثين في عصرنا وهو يحكي عن واقعة حصلت له في شبابه مع أحد مشاهير الخطباء، وشاهدنا منها: أنه سمع منه في إحدى خطبه التي تأثر بها الناس وضجوا وبكوا حديثًا باطلًا أو موضوعًا، فلما تأكد من بطلان الحديث جاءه في اليوم التالي ليلفت نظره لذلك، فإذا أناس كثيرون قد وقفوا على بابه في صف طويل؛ هذا يسأله وهذا يستفتيه وهذا يستشيره، وقد عدُّوه -رحمه الله- من كبار المفتين...

 

وكم رأيت بعيني رأسي كيف يلتف الناس حول الخطيب بعد خطبة الجمعة وصلاتها، وكيف يترددون بالترتيب؛ واحدًا بعد واحد على غرفته كلٌ يسأل ويستفتي ويستشير... بل -والله- لقد رأيت من جاءت تستفتي خطيب المسجد في يمين طلاق قد ألقاه عليها زوجها، فلما لم تجد الخطيب جلست أمام مؤذن المسجد أو خادم المسجد تستفتيه!

 

إن الناس قد منحوا خطباء المساجد -شاءوا أم أبوا- سلطة الإفتاء وكبلوا بها أعناقهم، فهم يتوسمون في الخطباء العلم والفقه ولا يفرقون بينهم وبين المفتين، وأقول -بلا مبالغة- أن كل خطيب مسجد -وكذا كل من تصدر لنصح الناس ووعظهم- معدود عند أغلب المسلمين من العلماء والفقهاء!

 

ولعل هذا هو السبب الرئيس الذي جعلني أسطر هذه السطور؛ ناصحًا نفسي وإخواني الخطباء كيف يتصرفون وكيف يحتاطون لأنفسهم إذا ما طُرح عليهم سؤال أو طُلبت منهم فتوى، وسميتها في الجزء الأول من هذا المقال: "استراتيجية جواب السائلين"، وطرحت هناك اثنين من أركانها، وهما:

أولًا: تبَين حال السائل وعُرْف بلده.

ثانيًا: أحسن التركيز والإصغاء لتضمن فهم مراد السائل.

وهاك ركنان آخران من أركانها:

 

ثالثًا: قل: "لا أعلم" لما لا تعلم، أو استمهله:

إن الخطيب في نظر الكثير ممن حوله من المفتين لا لشيء إلا لأنه خطيب -ولا لازم-، لذا على الخطيب أن يكون واسع الاطلاع كثير القراءة؛ فجماعة مسجده تحتاجه في استفساراتها وما يشكل عليها.

 

بيد أن الأخطر من ذلك والخطير جدا أن يسألك سائل فيما لا تعلم، فتستحي أن تقول: "لا أعلم" فتفتيه بغير علم وأنت شاك متوهم! إنك تهلك نفسك وتقحمها فيما لا تستطيع تحمل عاقبته، يحذِّرك ابن عباس قائلًا: "من أحدث رأيًا ليس في كتاب الله، ولم تمض به سنة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لم يدر على ما هو منه إذا لقي الله -عز وجل-"([1])، ويحذِّرك ابن المنكدر فيقول: "إن العالم يدخل فيما بين الله وبين عباده، فليطلب لنفسه المخرج"([2]).

 

ولقد كانوا -وهم أعلم أهل الأرض- لا يستحون ولا يترددون أن يقولوا: "لا نعلم" لما لا يعلمون، بل ويستبشرون أذا وُفِقوا لقولها، فهذا ابن عمر يسأله رجل عن مسألة فيقول: "لا علم لي بها"، فلما أدبر الرجل، قال ابن عمر: "نِعم ما قال ابن عمر، سئل عما لا يعلم فقال: لا علم لي بها"([3])، ويحكي عنه عبيد بن جريج فيقول: "كنت أجلس بمكة إلى ابن عمر يومًا، وإلى ابن عباس يومًا، فما يقول ابن عمر فيما يسأل: "لا علم لي"، أكثر مما يفتي به"([4]).

 

ولم يكن هذا حال ابن عمر وحده، بل كان حالهم جميعًا -رضي الله عنهم-، يقول عبد الرحمن بن أبي ليلى: "لقد أدركت في هذا المسجد عشرين ومائة من الأنصار، وما منهم من أحد يحدث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث، ولا يسأل عن فتيا إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا"([5]).

 

ولقد سألوا قتادة عن مسألة فقال: "لا أدري"، فقيل له: قل برأيك، فقال: "ما قلت برأيي منذ أربعين سنة"، قيل: ابن كم كان يومئذ؟ فأجابوا: "كان ابن نحو من خمسين سنة"([6]).

 

وهذا إمام دار الهجرة صاحب الموطأ لم يستح أن يقول: "لا أدري"، يروي عنه عبد الرحمن بن مهدي فيقول: كنا عند مالك بن أنس، فجاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله جئتك من مسيرة ستة أشهر، حمَّلني أهل بلدي مسألة أسألك عنها، قال: فسل، فسأله الرجل عن مسألة، فقال: "لا أحسنها"، قال: فبهت الرجل كأنه قد جاء إلى من يعلم كل شيء، فقال: فأي شيء أقول لأهل بلدتي إذا رجعت لهم؟ قال: "تقول لهم: قال مالك: لا أحسن"([7])، وعن الهيثم بن جميل قال: "شهدت مالكًا سئل عن ثمان وأربعين مسألة، فقال في ثنتين وثلاثين منها: لا أدري"([8]).

 

فانج بنفسك -أخي الخطيب- ولا تورطها فيما لا طاقة لها به، واعلم أنك لو سئلت فأفتيت بغير علم فإثم من أفتيته في رقبتك، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أفتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه"([9])، لذا قال ابن عباس: "إذا أغفل العالم: "لا أدري" أصيبت مقاتله"([10]).

 

والآثار والأخبار في هذا الأمر كثيرة وأنت أدرى بها، لكنني أنقل إليك هذه النصيحة الأخيرة من عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- والذي يقول: "يا أيها الناس: اتقوا الله، من علم منكم شيئًا فليقل بما يعلم، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإنه أعلم لأحدكم أن يقول: لما لا يعلم: الله أعلم، فإن الله -عز وجل- قال لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ)[ص: 86]([11]).

 

وإن كنت تعلم أن المراجع بين يديك أو على هاتفك، وأن الوصول إلى المعلومة الموثوقة سهل ميسور لا يستغرق وقتًا، أو كنت تعلم الإجابة لكن كنت في حاجة إلى مراجعتها والتثبت منها... فاستمهل السائل دقائق أو ساعات أو أيامًا أو ما شئت، ثم إذا أتاك ثانية فأجبه عن سؤاله، خاصة إن كان سؤاله ذلك عن معنى كلمة أو آية من القرآن -مثلًا- فمن السهل أن تعود إلى التفاسير في دقائق، أو عن معلومة سريعة في السيرة النبوية فكذلك...

 

رابعًا: لا تدعي امتلاك الحق المطلق:

أخي الخطيب: قد يأتيك السائل في مسجدك وقد مر على عشرة مساجد قبلك، يسألهم كلهم عن نفس ما يسألك عنه، فإذا أجبته عاجلك قائلًا: "لكن الشيخ الفلاني قال كذا، والخطيب الفلان أفتاني بكذا"... فإياك أن تقع في هذا المزلق؛ فتخطئهم جميعًا وتصحح رأيك أنت وحده، وذلك لعدة أسباب:

الأول: أن هذا السائل ربما لا يعنيه السؤال الذي يسأل عنه في قليل أو كثير، وإنما يريد التحريش بين خطباء المساجد وخلق الفتن بينهم، ولقد رأينا ذلك وعايناه؛ فإن خطيب المسجد إذا زل بكلمة في عرض أخيه أخذها ذلك السائل فزاد عليها مائة كلمة ثم نشرها بين أقرانه وزملائه: "إنه يخطئكم ويجهِّلكم ويبدِّعكم وينسبكم إلى الزيغ والضلال!"... وعندها تكون الفتنة.

 

الثاني: أن أغلب المسائل الفقهية فيها خلاف معتبر بين الفقهاء الأثبات، وربما أتى كل واحد فيهم بدليله من الكتاب والسنة، فكيف إذًا نخطئ من أفتى بقول واحد منهم؟!

 

الثالث: أن السائل مخطئ في فعله هذا؛ فكان الواجب عليه أن يسأل ثبتًا ثقة، ثم لا يسأل أحدًا سواه، وقد سئل ابن عثيمين -رحمه الله-: "هل يجوز استفتاء أكثر من عالم؟" فأجاب: "لا يجوز للإنسان إذا استفتى عالمًا واثقًا بقوله أن يستفتي غيره؛ لأن هذا يؤدي إلى التلاعب بدين الله وتتبع الرخص؛ بحيث يسأل فلانًا فإن لم يناسبه سأل الثاني، وإن لم يناسبه سأل الثالث وهكذا، وقد قال العلماء في تتبع الرُّخص: فسق..."([12])، اللهم إلا إذا لم يكن متتبعًا للرخص ولا للهوى، لكنه لم يتيسر له العالم الثقة، فله أن يعيد الاستفتاء. 

 

فإن أتاك مثل هذا السائل "الطوَّاف" وقال: أفتاني غيرك بغير ما قلتَ! فأجبه: "يا أخي أفتيتك بما أعلم وبما أظنه صوابًا والحق عند الله"، ثم اصمت ولا تزد كلمة مهما استزادك؛ فهو أسلم لك، وربما كان يتصيد لك.

 

ودعونا نُقَعِّد للمسألة فنقول: إذا تعددت آراء الفقهاء وتعددت أقوالهم في المسألة الواحدة، فلك أن تفتي غيرك بما ترجح عندك منها، لكن ليس لك أن تدعي أن غير الراجح عندك باطل طالما استند إلى دليل صحيح وقال به بعض الفقهاء المعتبرين، وإن كان غيره أولى وأصح منه في نظرك.

 

وسيقول قائل: "نحن نتبع الدليل ونسير معه حيث سار"، وأقول: هذا حق وصدق، لكن قد يختلف العلماء في المسألة الواحدة إلى عدة آراء، وكل منهم له دليل صحيح من القرآن أو من السنة، "فكلٌ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ملتمس"، وكلهم يتبع الدليل كما تتبعه أنت.

 

وأخيرًا أخي الخطيب: تذكر قولة الفقهاء الأربعة بألفاظ متعددة قد اتحدت معانيها وفحواها: "قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب".

 

ويساعدك على ذلك: التحرر من التعصب لمذهب بعينه أو لعالم بعينه؛ فإنه ليس بمعصوم، أم تريد أن يصل بنا الأمر ما وصل في زمن من الأزمان؛ حيث كانت تقام في المسجد الواحد عدة جماعات للصلاة الواحدة؛ إذ يرى أصحاب كل مذهب عدم صحة الصلاة خلف إمام يتبع مذهبًا غير مذهبهم!!

أعاذني الله وإياكم من الفتن ومن الفُرْقة والتنازع.

 

([1]) الدارمي في سننه (160).
([2]) الدارمي في سننه (139).
([3]) الحاكم في مستدركه (6378) ط: دار الكتب العلمية - بيروت.
([4]) الدارمي في سننه (157).
([5]) الدارمي في سننه (137)، ط: دار المغني للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية.
([6]) ابن الجعد في مسنده (1022) ط : مؤسسة نادر - بيروت 1410 - 1990.
([7]) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر (1573) ط: دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية.
([8]) المجموع، للنووي (1/40-41).
([9]) أبو داود (3657)، وابن ماجه (53)، وحسنه الألباني (صحيح وضعيف سنن أبي داود).
([10]) المجموع، للنووي (1/40) ط: دار الفكر.
([11]) البخاري (4774)، ومسلم (2798).
([12]) الشيخ ابن عثيمين من لقاءات الباب المفتوح، لقاء رقم: (46)، نقلًا عن موقع: موسوعة الفتاوى: http://fatawapedia.com

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات