اقتباس
إن الحاجة أصبحت ماسةً إلى تكوين خطباء لهم من الكفاءات والمهارات ما يخلخل النفوسَ التي يصيبها التعبُ الذي تتشربه على طول الأسبوع، فتكون الخطبة بمثابة الترياق والبلسم الشافي لبعضِ المنغِّصات المكدِّرة لصفو...
مما لا شكَّ فيه أن الخطيب له دورٌ كبير في ترسيخ السلوك القويم في نفوس المتلقِّين والمستمعين؛ لذا فإن الخطيب المؤثِّرَ في الناس قد يَكسِبُ رضا الله كما يكسب احترامَ الناس بقدر ما يجتهد في أسلوب التبليغِ والنُّصح والإرشاد.
ولقد غدا الآن من الصعب جدًّا التأثيرُ في نفوس الناس؛ لما يُعرف من انتشار المعلومة والنصيحة والموعظة عبرَ الشبكة العنكبوتية والوسائل الحديثة...
واجبات الخطيب الناجح:
1- اختِيار الموْضوع اختيارًا دقيقًا، وتَحضير مادَّته قبل ارتِقاء المنبر بأيَّام. ولِهذا يستحْسن من الخطيب أن يحدِّد الموْضوع على نقاط أو مسائل معيَّنة، فيقول مثلاً: كلامُنا اليوم يدورُ حول ثلاثة مسائل رئيسة، هي كالتَّالي
ومن المستحْسن أن تبدأ الخُطبة بما يجلب انتِباه السَّامعين، من حادثٍ مهمٍّ وخبر ذي فائدة، ثمَّ يرْبطه بمعاني القرآن والسُّنن الكونيَّة، ثمَّ على الخطيب بعد ذلك أن يَمضي مسترْسِلاً في وعْظه، ويقرن بين التَّبشير والإنذار، ويتخيَّر من الحوادث ما يكون محْور وعظِه، ومدار خطبته.
2- عدم إطالة الخطبة؛ لأنها تورِث المَلَل والسآمَة، وإطالة الخطبة في الغالب تنشأ مِن أمرَيْن:
الأول: إعجاب الخطيب بنفسه، وأنه قد أضاف شيئًا إلى معلوماتهم.
والثاني: السهْو والنِّسيان، ولكن يجب أن نذكِّر بأنَّ الأمَّة الإسلامية قد طالتْ مِحنتها، وحاجتها إلى كلام قليل مؤثِّر أعظم من حاجتها إلى الكلام الطَّويل، وليس هناك أعظم مَوْعِظة من رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- فقد أوتيَ جوامع الكلم، ورغْم ذلك فقد ثبت عنْه -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنَّه قال: "إنَّ طول صلاة الرَّجل وقصر خطبته مئنَّة من فقهه" ، وفي الحديث: وعظنا رسولُ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يومًا بعد صلاة الغداة موعِظة بليغة، ذرفت منها العُيون ووجلت منها القُلوب، فقال رجل: إنَّ هذه موعِظة مودِّع.
إن تراثنا الإسلاميَّ زاخرٌ بما يحتاجه الخطيب، ولا أدلَّ على ذلك من أن الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- كان يختصر الكلامَ اختصارًا، وذلك ما وسَم صفةَ كلامه بأنه من جوامع الكلم، كما أنه -صلَّى الله عليه وسلَّم- كان يتخوَّل الناسَ بالموعظة، ومعنى ذلك أن وظيفية الكلام كانت حاضرةً في منهجه الدعوي، ولقد نُقل أنه نهى أحد الصحابة عندما عيَّر صاحبَه بالسواد، وعلَّق -صلَّى الله عليه وسلَّم- على ذلك بأنه من أمر الجاهلية، ولو تتبَّعْنا الأمر لوجدنا توظيفَ المثال حاضرًا في السُّنة، وهو يشير إلى الوظيفية بكل وضوح، وأما طرحُ السؤال بصفة مبهمة، فإننا نستشفُّ منه أن الخطيب لا ينبغي له أن يشير إلى جهة أو إلى شخص بعينه، وذلك استفادة من قوله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "ما بال قوم".
كما ثبت أن الخُطبة ينبغي أن تكون مختصرة، والصلاة مُطولةً نوعًا ما، على عكس ما نَلمِسُه الآن، وذلك يستفاد منه أن التطبيق ينبغي أن يكون أكثرَ حضورًا من التنظير والكلام، وإذا كان النهي ورَد بشأن الافتتان بالصلاة في قصة معاذٍ رضي الله عنه، فإن افتتان الناس قد يطغى في الخطبة أكثرَ، فيحمل الخطيب الناسَ على الاستماع مدةً قد تشغلهم عن مصالحَ كثيرة، وقليلٌ يكفي خيرٌ من كثير يلهي.
إن الحاجة أصبحت ماسةً إلى تكوين خطباء لهم من الكفاءات والمهارات ما يخلخل النفوسَ التي يصيبها التعبُ الذي تتشربه على طول الأسبوع، فتكون الخطبة بمثابة الترياق والبلسم الشافي لبعضِ المنغِّصات المكدِّرة لصفو الإيمان.
3- هناك أمور ينبغي على الخطيب الانتِباه إليها، وهي إن كانت بسيطة لكنَّها هامَّة تجعل الخطيب يَملك زمام الأمور، ويأخُذ بناصية المواقف، وتَمنحه قوَّة الشَّخصية مثل:
- هندسة الصَّوت، فلا يرفع صوته لغير حاجه، ولا يكون بطيئًا فتملّه الأسْماع.
- عدَم الإكثار من الإشارة بدون سببٍ، فيكون حالُه كالممثِّل على خشبة المسرح، بل يتمَّ توزيع ذلك باعتِدال تامٍّ أمام الحاضرين.
- التكييف والتبريد فالمستمع الذي يشعر بالبرد أو بشدة الحر، وكذلك المستمع الذي يستنشق الهواء الفاسد أثناء الخطبة - لا شك أنه سيفقد الكثير من تأثير الخطبة؛ لانشغاله بعوامل أخرى غيرها.
- السمت والمظهر الحسن ويكون ذلك باللباس النظيف الواسع، الذي ليس فيه ما يستغرب أو يستهجن أو يشغل بال المستمعين، وكلما كان اللباس قريبًا من السُّنة، كان ذلك أكثر فاعلية وتأثيرًا في نفس السامع.
4- نظافة المكان:
فالمسجد النظيف في ساحاته وأروقته وفراشه وجدرانه وأثاثه، كل ذلك يعطي السامع راحةً نفسية، لها أثرها في حسن الفَهْم، وقوة الاستيعاب لما يقوله الخطيب.
5- تجنيب الأمور الخلافية:
وترك الحديث في الاختلافات الفقهية إلى الدروس العلمية المتخصصة، والحرص على الكلام في القضايا الكلية العامة في ديننا التي لا يختلف عليها اثنان، وهذا شأن الخطبة، فهي مقررة في الدين؛ لتوحيد الناس والتأليف بينهم، وجمعهم على مقاصد الشريعة.
6 -التأكد من صحة المعلومة ودقتها:
لكي تكون سببًا لقوة الخطبة؛ وليست عاملاً من عوامل ضعفها.
7- الاهتمام باللغة العربية وتجنب اللحن والتزام قواعد الإعراب:
فكم من موضوعٍ مُهِمٍّ مُفِيد أضاعه ضعفُ لغة الخطيب، ولا يصِحّ أن يلوذ الخطيب أحيانًا بجهل السامع، أو عدم رَغْبَتِه في المراجعة؛ إذِ العربية لبوسُ ديننا، ولغة قرآننا، ولسان نبينا محمد -صلَّى الله عليه وسلَّم-.
8-اختيار العبارات السهلة البسيطة:
فبدلاً من "اشرأبت"؛ نقول: "تطاولت"؛ وبدلاً من "يتجشمون"؛ نقول: "يتحملون وهكذا، فالمقصود إيصال المعنى؛ وليس الاستعراض اللغوي.
9- إشاعة الأمل وروح التيسير والتبشير:
وهذا ليس من باب الحديث المكرور المرتجل؛ ولكنه منهج رباني مسلوك، وطريق ممدود، يقول المولى -سبحانه-: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)[الشرح:5-6]، ويقول -جل جلاله-: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا)[يوسف:110]، وقال -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "يَسِّرَا ولا تُعَسِّرَا، وبَشِّرَا ولا تُنَفِّرَا".
10-الخاتمة:
ويراعى أن تختم الخطبة بكلمات جامعة، ملخصة لما تفرق في الخطبة، ومنسجمة مع ما بدأت به الخطبة، وما عرضت له من موضوع.
وبعد: فإن هذا بعض مؤشرات ومؤثرات في إعطاء الخطبة فاعليتها، لم تذكر على سبيل الاستقصاء والحصر، وإنما هي من باب النصح والإرشاد، وهي بالتأكيد قابلة لأن يُزاد عليها أو يُحذف منها (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير)[البقرة:148].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم