كيفية الحج

محمد بن سليمان المحيسني

2022-10-06 - 1444/03/10
التصنيفات: التربية الحج
عناصر الخطبة
1/صفة الإحرام وسننه وأنواعه ومحظوراته 2/صفة العمرة وبعض المخالفات الشرعية عند الكعبة 3/آداب الوقوف بعرفة ومحاذير تضييع الوقت في التقاط الصور التذكارية 4/صفة رمي الجمرات وبعض أحكامها 5/وقفات مهمة مع بعض الحجاج 6/آداب زيارة مسجد رسول الله –صلى الله عليه وسلم-

اقتباس

اعلم -أخي الحاج-: أن أفضل النسك التمتع، حيث أنه يجمع بين الإفراد والقران، ولتواتر الأدلة على أفضليته؛ لذا فإن الحديث سيكون عن كيفيته. أخي في الله: الأفضل أن يتلفظ المحرم بالتلبية بعد استوائه على مركوبه؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أهلّ بعدما استوى على راحلته، ثم يبدأ بالتلبية. ويُسن...

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي سهل الطريق لزيارة البيت العتيق في الغدو والرواح، الذي منَّ على وفد بيته المطهر بموقف فيه الذنوب تغفر، وأفاض عليهم من كرمه الفضل والفلاح؛ أحمده وأشكره على ما أنجز من مواعيد الشكر بمزيد النعم والأرباح.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الفتاح، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل التقى والصلاح.

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: لقد سبق وأن تحدثنا في الجمعة الماضية عن حكم الحج ومكانته في الإسلام، وعما يتطلبه الحج.

 

وسنتحدث في هذه الجمعة عن كيفيته، وما يتعلق به من أركان وواجبات، ابتداءً بالإحرام، وانتهاء بطواف الوداع.

 

معشر الحجاج: اعلموا أن أول ما يبدأ به مريد الحج والعمرة من أعمال هو: الإحرام، وهو نية الدخول في النسك.

 

فعند وصول الحاج إلى الميقات يستحب له أن يغتسل، ويتطيب في بدنه، ويلبس ثوبين نظيفين.

 

كما يستحب له أن يتعاهد شاربه وأظفاره وعانته وإبطيه، فيأخذ ما تدعو الحاجة إلى أخذه؛ لئلا يحتاج إلى أخذ شيء من ذلك بعد الإحرام.

 

والمشروع لمن توجه إلى مكة من طريق الجو بقصد الحج أو العمرة أن يتأهب لذلك بالغسل ونحوه قبل الركوب في الطائرة.

 

فإذا دنا من الميقات لبس إزاره ورداءه، كما أن له أيضاً أن يلبس الإزار والرداء في بيته، ثم يلبي أثناء محاذاته للميقات.

 

أما المرأة؛ فيجوز لها أن تحرم بما شاءت من الثياب أسود كان أو أخضر، أو غيرهما.

 

مع الحذر من التشبه بالرجال في لباسهم.

 

كما عليها أن تتجنب الطيب والزينة، ويحرم عليها إخراج شيء من جسدها كالقدمين، أو الكفين.

 

علماً بأن لبس القفازين محظور على المرأة، فعلى الرجال أن يذكروهن ويعظوهن، ويبينوا لهن حرمة ذلك.

 

ثم يحرم الحاج عقب صلاة مكتوبة أو نافلة؛ فينوي بقلبه لا بلسانه، ويقول إن كان متمتعاً: "لبيك عمرة متمتعاً بها إلى الحج".

 

وإن كان قارناً قال: " لبيك عمرة وحجاً".

 

وإن كان مفرداً قال: " لبيك حجاً".

 

ثم اعلم -أخي الحاج-: أن أفضل النسك التمتع، حيث أنه يجمع بين الإفراد والقران، ولتواتر الأدلة على أفضليته؛ لذا فإن الحديث سيكون عن كيفيته.

 

أخي في الله: الأفضل أن يتلفظ المحرم بالتلبية بعد استوائه على مركوبه؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أهلّ بعدما استوى على راحلته، ثم يبدأ بالتلبية.

 

ويُسن للرجل رفع صوته دون المرأة؛ فإن صوت المرأة عورة يجب ستره عن الرجال الأجانب.

 

ثم إننا نسمع أناساً يرفعون أصواتهم بشكل جماعي، وبقائد يقودهم، وهذا لم يصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا عن صحابته، ولا عن غيرهم من السلف -رحمهم الله-.

 

فما لم يفعله نبينا -صلى الله عليه وسلم- يجب علينا اجتنابه؛ لئلا نقع في المحظور.

 

أيها المسلمون: من الناس من يظن أنه لا يجوز تغيير ملابسه التي أحرم بها، وهذا ليس بصحيح؛ فللمحرم أن يغسل ملابسه، وأن يغيرهن متى شاء ذلك.

 

واعلم أن للإحرام محظورات يجب اجتنابها:

 

فلا يجوز للمحرم لبس المخيط والجوارب، وكذلك لا يجوز للمرأة لبس القفازين والبرقع.

 

ولا يجوز له تقليم الأظافر ولا أخذ شيء من شعر بدنه كله، ولا تغطية رأسه بملاصق كعمامة وغترة وغيرها.

 

وله أن يستظل بخيمة أو سيارة أو مظلة تقيه حر الشمس.

 

وله كذلك حمل متاعه على رأسه، ولا شيء في ذلك.

 

كما أن له أن يلبس الساعة والنظارة، وأن يشد حزاماً على إزاره ليحفظ نفقته.

 

ثم إذا وصل إلى مكة سُن له الدخول من أعلاها، ودخول الحرم من باب بني شيبة، ثم يبدأ بالطواف مبتدأ بالحجر الأسود مشيراً إليه بيده، ثم يدعو بما ورد، ويقول بين الركنين: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة: 201].

 

ثم يصلي ركعتين خلف المقام إن تيسر له ذلك، وإلا ففي أي موضع من الحرم.

 

وإن من الناس من يؤذي المسلمين لأجل تقبيل الحجر الأسود، وهذا محرم لا يجوز فعله؛ لأن تقبيله سُنة، وإيذاء المسلمين محرم.

 

فإياك أن تقع في المحرم لأجل السنة! فالحجر الأسود يكفي فيه الإشارة والتكبير.

 

ثم إن منهم من يتمسح بجدران الكعبة، وهذه بدعة لم تثبت عنه صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه من بعده.

 

ومن الحجاج من يقبل الركن اليماني، وهذا فعل خاطئ، فالركن اليماني لا يقبل ولا يشار إليه، وإنما يستلم باليد اليمنى فقط إن أمكن ذلك.

 

وبعد انتهائه من الركعتين يخرج إلى الصفا مبتدأ به، فيرقى عليه، ويستقبل القبلة، ويكبر ثلاثاً، ولا يشير بيديه نحو الكعبة -كما يفعله العامة- إلا أن يرفع يديه للدعاء فلا بأس، ويدعو بما ورد.

 

وعلى المرأة كذلك.

 

حتى ينتهي شوطه السابع بالمروة، ثم يقصر المتمتع رأسه؛ لأجل أن يبقى شيء من شعره للحج.

 

ومما يلاحظ على بعضهم في السعي: الرمل بنسائهم بين العلمين، وهذا لا ينبغي لقول ابن عمر -رضي الله عنه-: "ليس على النساء رمل بالبيت، ولا بين الصفا والمروة"( ).

 

والرمل هو: السعي بين الميلين سعياً شديداً؛ إذ أن القصد بشدة السعي إظهار الجلد.

 

وليس ذلك مطلوباً في حقها، ولأن ذلك عرضة لانكشافها، وقال رضي الله عنه: "لا تصعد المرأة فوق الصفا والمروة، ولا ترفع صوتها بالتلبية"[سنن الدار قطني (2/295)، رقم (265)، ومصنف ابن أبي شيبة (3/151)، رقم (12952)].

 

واعلم -أخي المسلم-: أن السعي لا يشترط له طهارة، فلو انتقض وضوؤك في أثناء سعيك، فلك إكماله بغير وضوء.

 

وكذلك لو حاضت المرأة بعد الطواف؛ فإن لها أن تسعى وهي حائض، ويجزئها ذلك -ولله الحمد والمنة-.

 

كما أن الموالاة لا تشترط بين الطواف والسعي، فلا بأس أن يطوف أول النهار ويسعى آخره.

 

وكذلك من الناس من يقص أطراف شعر رأسه، ولا بد في التقصير من تعميم شعر الرأس في أظهر قول العلماء.

 

أما المرأة؛ فالمشروع لها أن تأخذ من كل ضفيرة قدر أنملة فأقل.

 

والأنملة، هي: رأس الأصبع.

 

إذا فعل المحرم ما ذكر فقد تمت عمرته، وحل له كل شيء حرم عليه بالإحرام، فيتحلل ويلبس ثيابه، ويبقى في مكة حتى اليوم الثامن وهو التروية، ثم يحرم ويفعل بإحرامه مثلما فعل في إحرامه للعمرة، ويكثر من التلبية، ولا يقطعها حتى يرمي جمرة العقبة في اليوم العاشر وهو يوم النحر.

 

ويبقى في منى يصلي قصراً بدون جمع، ثم يسير بعد طلوع شمس اليوم التاسع يلبي في طريقه نحو عرفة، ويسن أن ينزل بنمرة إلى الزوال، ثم يسير إلى عرفة؛ ليدعو الله ويستغفره، ويصلي على نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وليكثر من قول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير".

 

ثم يصلي فيها الظهر والعصر جمعاً وقصراً، جمع تقديم ليتفرغ للعبادة.

 

ومن المؤسف جداً! أن نرى بعض الحجاج يتجولون في عرفة، فتارة يتجهون نحو جبل الرحمة، وتارة نحو مسجد نمرة، لا للعبادة وإنما حباً للاستطلاع والتمشية.

 

والأدهى من ذلك والأمر اصطحاب بعضهم لآلات التصوير واستخدامها على صعيد منى وعرفات، وخاصة عند جبل الرحمة.

 

والتصوير -عباد الله- محرم في كل مكان، ولكن في هذا الموضع أشد حرمة، روى ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفساً فتعذبه في جهنم"[البخاري: باب بيع التصاوير التي ليس فيها روح وما يكره من ذلك (2/775)، رقم (2112)، ومسلم: باب تحريم تصوير صورة الحيوان (3/1670)، رقم (2110)، واللفظ له].

 

وعنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة وليس بنافخ"[البخاري: باب من لعن المصور (5/2223)، رقم (5618)، ومسلم: باب تحريم تصوير صورة الحيوان (3/1670)، رقم (2110)].

 

ومن المؤسف أيضاً: أنهم يصورون أنفسهم وهم مضطبعون رافعوا أيديهم، كأنهم يدعون الله -تعالى-، فيجمعون بهذا العمل بين محذورين:

 

المحذور الأول: هو التصوير الذي نهى الله عنه.

 

والمحذور الثاني: هو أن فعلهم هذا ينافي الإخلاص، ويدخل فيه الرياء، بل هو الرياء بنفسه؛ إذ أنه ما عمل هذا إلا ليشعر الآخرين بحجه.

 

وتعلمون -عباد الله-: ما في الرياء من الوعيد الشديد، وأنه من الشرك.

 

والأحرى بالمسلم أن يكون في هذا الموقف مخبتاً لربه، متواضعاً منكسراً بين يديه يرجو رحمته ويخاف عذابه؛ لأن هذا يوم يجود الله فيه على عباده، ويباهي بهم ملائكته، ويكثر فيه العتق من النار، فقد روى مسلم في صحيحه عن عائشة -رضي الله عنها-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم ملائكته، فيقول: ما أراد هؤلاء؟"[مسلم: باب في فضل الحج والعمرة يوم عرفة (2/982)، رقم (1348)].

 

 

ثم اعلم أنه لا يجوز الانصراف قبل الغروب، ومن انصرف من عرفة قبل غروب الشمس فعليه دم، فإذا غربت الشمس فانصرف منها إلى مزدلفة.

 

ولتلتزم السكينة، وإياك ومضايقة الآخرين بسيارتك وإيذائهم بصوتها.

 

فإذا وصلت إلى مزدلفة فصل بها المغرب والعشاء قصراً وجمعاً قبل أن تنزل متاعك، ثم بت فيها، وصل بها الفجر، والصلاة في المشعر الحرام ليست واجبة كما يظن البعض من الحجاج.

 

فإذا أسفرت جداً فإنه يُسن لك الانصراف ولقط الحصى، مع العلم أن لقط الحصى ليس واجباً من مزدلفة، كما أنه لا يبغي غسله؛ لعدم ورود ذلك على المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.

 

وقدر الحصاة كما حُددت كبعر الغنم، وقيل: أكبر من الحمص، وأقل من البندق.

 

ثم ينصرف إلى منى متجهاً نحو جمرة العقبة الكبرى، وهي التي تلي مكة، ثم يرفع يديه ويرمي ويكبر مع كل حصاة، ويشترط وقوع الحصى في المرمى، فإذا وقعت فيه ثم سقطت منه فالرمي جائز.

 

ولا يجزئ رمي الحصى جملة واحدة، وإنما يجزئنه عن حصاة واحدة فقط.

 

أيها الناس: بعض الحجاج يرمي الجمار بغيظ مصحوب بسب وشتم، وبأخشاب، وأحذية.

 

وهذا غلو في دين الله، وجهل بحقيقة رمي الجمار؛ فإن رمي الجمار شرع لإقامة ذكر الله، وإرغام الشيطان في الحقيقة هو اتباع هدي المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.

 

بعد هذا ينتقل إلى المنحر لينحر هديه، ثم يحلق رأسه أو يقصه، والحلق أفضل؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعا للمحلقين ثلاثاً، وللمقصرين مرة واحدة[البخاري: باب الحلق والتقصير عند الإحلال (2/616)، رقم (1640)، ومسلم: باب تفضيل الحلق على التقصير وجواز التقصير (2/945)، رقم (1301)].

 

بعد هذا يتحلل من كل شيء حرم عليه، إلا نكاح زوجته فلا يجوز له حتى يتحلل التحلل الثاني.

 

ولا يتم التحلل الثاني حتى يفعل الأشياء الثلاثة، وهي: الرمي والحلق، أو التقصير والطواف بالبيت، وهو طواف الإفاضة.

 

أيها الناس: البعض من الحجاج يرمي ثم ينحر ثم يلبس ثيابه، يظن أنه تحلل التحلل الأول.

 

وهذا خطأ، فالنحر ليس له علاقة بالتحلل، وإنما يحصل التحلل الأول بفعل شيئين من الثلاثة التي ذكرناها آنفاً.

 

ثم بعد حلق رأسه أو تقصيره يذهب ليطوف بالبيت طواف الإفاضة ويسعى، بعد إذٍ يحل له كل شيء حرم عليه حتى النكاح.

 

ثم اعلموا -رحمكم الله-: أن من قدم نسكاً على نسك فلا حرج عليه؛ فمن طاف قبل أن ينحر فلا شيء عليه، ومن حلق قبل أن ينحر فلا شيء عليه، وهكذا فالأمر واسع: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا)[البقرة: 286].

 

بعد هذا يجب عليه أن يبيت بمنى اليوم الحادي عشر والثاني عشر.

 

ويستحب له البقاء في اليوم الثالث عشر، يقول الله - تعالى-: (وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)[البقرة: 203].

 

يرمي في هذه الأيام الجمرات الثلاث، مبتدئاً بالصغرى، ثم الوسطى، ثم الكبرى، وهي المسماة جمرة العقبة.

 

ويبدأ وقت الرمي من زوال الشمس وينتهي بغروبها، يدعو بعد رميه للصغرى والوسطى.

 

أما الكبرى فلا يدعو عندها.

 

ومن ترك الرمي عامداً، أو مخطئاً؛ فعليه دم، وهو ذبح شاة.

 

ثم يخرج من منى قبل غروب شمس اليوم الثاني عشر إن كان متعجلاً؛ فإن غربت وهو بمنى لزمه البقاء.

 

إخوتي في الله: وقبل أن ننتقل إلى طواف الوداع هناك وقفات نقفها مع بعض الحجاج:

 

فقد لوحظ من بعضهم عدم استغلال هذا الوقت الفضيل بالذكر والعبادة والتقرب إلى الجليل، وإنما يقضون جُل هذه الأيام القليلة بالتمشية والتجول في أنحاء منى، فيجوبونها طولاً وعرضاً لغير غرض من الأغراض.

 

كما أن بعضهم لا يستغني عن ملاهيه حتى في تلك الأماكن المقدسة.

 

فالمتأمل في أوضاع هؤلاء يتذكر الحديث الذي يرويه أنس مرفوعاً: "يأتي على الناس زمان يحج أغنياء أمتي للنزهة، وأوسطهم للتجارة، وقراؤهم للرياء، وفقراؤهم للمسألة"[تاريخ بغداد (10/296)، ومسند الفردوس (5/444)، رقم (8688)، وكشف الخفاء (2/541)، رقم (3267)].

 

كما يلاحظ في اليوم الحادي عشر والثاني عشر كثرة تجول النساء في الطرقات وعند الباعة، كأن البضائع لا توجد إلا في تلك الأماكن الشريفة، أو كأن البركة أحاطت بها.

 

فيا أولياء أمور النساء: اعلموا أنه يجب عليكم صيانتهن وحفظهن ومنعهن من التبرج، حتى لا يكن فتنة لكل مفتون، وسبباً في تنغيص هذه العبادة العظيمة.

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه.

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً.

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: بما ذكرناه آنفاً ينتهي الحج، ولكن هناك أناس يستحبون زيارة مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فيتعين على هؤلاء أمور:

 

أولاً: يجب أن تكون نيته زيارة مسجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا زيارة الرسول نفسه، فقد ثبت من كلام حبيبنا -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى"[البخاري: باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (1/398)، رقم (1132)، ومسلم: باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره (2/795)، رقم (827)].

 

ولم يذكر قبره صلى الله عليه وسلم.

 

ثانياً: اعلم أنه لا يجوز طلب المغفرة أو الرحمة من غير الله، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فلا يجوز جعل واسطة بينك وبين الله؛ فلا منجي للعبد إلا أعماله الصالحة، يقول الله -تعالى-: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)[فاطر: 14].

 

فإذا دخل الزائر المسجد؛ سن له أن يصلي ركعتين ثم يدنو من قبره إن تيسر ذلك وإلا فلا حاجة للقرب منه ثم يقول: "السلام عليك يا رسول الله ورحمته وبركاته".

 

فإن أحب أن يقول: "أشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت في الأمة، وجاهدت في الله حق جهاده" فحسن.

 

ثم يتقدم فيسلم على أبي بكر ثم عمر -رضي الله عنهما- وعن جميع الصحابة والتابعين.

 

ثم ينصرف ولا يدعو ولا يرفع يديه.

 

علماً بأنه لا يجوز ذهاب النساء إلى القبر على أصح قولي العلماء.

 

أيها المؤمنون: اعلموا أنه قد وجدت كتابات على جدران الفنادق وأبوابها: "أن من جلس في المدينة كذا يوماً، وصلى كذا صلاةً؛ فله من الأجر كذا وكذا".

 

فهذا حديث وضعه أرباب الأموال ليأكلوا به أموال الناس بالباطل؛ فالله حسبهم ونعم الوكيل.

 

كذلك وردت أحاديث أخر كلها مكذوبة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، سنذكر طرفاً منها:

 

الأول: "من حج ولم يزرني فقد جفاني"[تلخيص الحبير (2/267)].

 

الثاني: "من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي"[الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة (1/433)، رقم (489)، وقال: قال ابن تيمية: إنه موضوع، وكذا قال النووي في آخر الحج من شرح المهذب إنه موضوع باطل لا أصل له].

 

الثالث: "من زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحد ضمنت له الجنة"[الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة (1/433)، رقم (489)، وقال:" قال ابن تيمية: إنه موضوع، وكذا قال النووي في آخر الحج من شرح المهذب إنه موضوع باطل لا أصل له].

 

الرابع: "من زار قبري وجبت له شفاعتي"[سنن الدارقطني (2/278)، رقم (194)، وقال في مجمع الزوائد (4/2)، وقال:" رواه البزار وفيه عبد الله بن إبراهيم الغفاري، وهو ضعيف].

 

وغيرها من الأحاديث الموضوعة التي ليس لها أصل من الصحة.

 

ثم يستحب لمن زار المدينة أن يزور مسجد قباء ويصلي فيه، فقد ورد في الصحيحين عن ابن عمر قال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يزور مسجد قباء راكباً وماشياً، ويصلي فيه ركعتين"[مسلم: باب فضل مسجد قباء وفضل الصلاة فيه وفضل زيارته (2/1016)، رقم (1399)].

 

بعد هذا إياك ثم إياك أن ترجع إلى غيك ومعاصيك بعد رجوعك من الحج.

 

واعلم أن لقبول العمل علامة، ولرده علامة؛ فعلامة قبول الحسنة إتباعها بمثلها، وعلامة ردها إتباعها بسيئة، وقد سئل الحسن البصري -رحمه الله-: ما الحج المبرور؟ فقال: أن يعود زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة.

 

اللهم إنا نعوذ بك من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن.

 

اللهم إنا نسألك حجاً مبروراً، وسعياً مشكوراً، وذنباً مغفوراً، وعملاً صالحاً متقبلاً، ورزقاً حلالاً طيباً مباركاً.

 

اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق، وأصلح ولاة أمورهم، اللهم أصلحنا حكاماً ومحكومين يا رب العالمين.

 

عباد الله: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)[النحل:91].

 

واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

 

 

 

المرفقات

الحج

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات