كن مباركا

ناصر بن محمد الأحمد

2016-02-17 - 1437/05/08
عناصر الخطبة
1/ فضائل البركة وأسبابها 2/ أكثر إنسان بركة على قومه 3/ بركات الأعمار 4/ مباركة الله لأمة الإسلام في القرون الأولى 5/ سبل تحصيل البركة في الحياة 6/ من أسباب تلمس البركة.

اقتباس

هذه الظواهر وأمثالها كثير ليس لها إلا تفسير واحد، إنها البركة. أجل إنها البركة. البَرَكَة التي إن وُجدت وحلَّت، اتسعت الأوقات، وتضاعفت الطاقات، وتحققت الإنجازات، ووقعت المعجزات، وإن فُقدت أو رحلت، فربما خرج الإنسانُ من هذه الحياة مهما طال عمره وكثُر سعيُه بلا زاد قدَّمه، ولا أثر خلَّفه.. وكيف استطاعت هذه الأمَّة الأمِّية التي خرجت من قاع الصحراء بأقل جيوش أمم الأرض عدداً وعُدة، أن تُسقط الإمبراطوريات العتيقة، وأن تَبسط سلطانها في أقل من ربع قرن من الزمان على المعمورة، من حدود الصين إلى شواطئ الأطلسي؟!

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله..

 

أما بعد: أيها المسلمون: الله تعالى هو مصدر كل خير وبركة، بيده ملكوت كل شيء وهو على كل شيء قدير، النفوس إليه تصير، والقليلُ عنده كثيرٌ، عطاؤه مبارك، ورزقه عميم، يده لا تغِيض بالنفقة بل تفِيض بالإحسان.

 

كان -صلى الله عليه وسلم- إذا قام إلى صلاة الليل ينادي ربه -تبارك وتعالى- قائلاً في دعاء طويل: "لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْك". (رواه مسلم).

 

فالله –تعالى- هو مصدر البركات والخيرات، لدوام جوده وكثرة خيره ومجده وعلوه، وعظمته وتقدسه، ومجيء الخيرات كلها من تبريكه على ما شاء من خلقه.

 

جعَلَ بيته مباركاً تنمو فيه الحسنات وتَزِيدُ في جنباته، وتضاعف العمل فيه، (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ) [آل عمران: 96].

 

خلق الله السماواتِ والأرضَ ببركته: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يُغْشِي الَّليْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِين) [الأعراف: 54].

 

وجعل اللهُ للمؤمنين في السماء بركةً تُظلُّهم وفي الأرض بركة تُعينُهم إذا اتَّقُوه: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون) [الأعراف: 96)، فبركات السماء المطر، وبركات الأرض النبات والثمار، وجميع ما فيها من الخيرات والأنعام والأرزاق، والأمن والسلامة من الآفات، كل ذلك من فضل الله وإحسانه على عباده.

 

أَهْبَطَ اللهُ نوحاً ببركته: (قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِّنَّا وَبَرَكَات) [هود: 48].

وأدلَّ عيسى -عليه السلام- بأن جعله اللهُ مباركاً فقال: (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنت) [مريم: 31]. وآلُ إبراهيم مبارَكون بمباركة الله لهم: (رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْت) [هود: 73]. والمؤمنون يسألون الله أن تَحُلَّ البَرَكَةُ عليهم حينما يلتقون: (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَة) [النور: 61].

 

وَصَفَ الموضعَ الذي كلَّم فيه موسى -عليه السلام- بأنَّه مباركٌ: (فِي البُقْعَةِ المُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَة) [القصص: 30]، وسمَّى شجرةَ الزيتون مباركة: (يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَة) [النور: 35]، وسمَّى المطر مباركاً: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا) [ق: 9]، وسمَّى ليلة القدر مباركة: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَة) [الدخان: 3].

 

والقرآن ذِكْرٌ مبارك، أنزله مَلَكٌ مبارك، في ليلةٍ مبارَكةٍ، على نبيٍّ مباركٍ، لأمَّة مباركة: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون) [الأنعام: 155].

 

أيها المسلمون: مرَّتِ الإنسانية بفترة طويلة بعد رفع عيسى -عليه السلام- إلى السماء، وانطفأ نور رسالته شيئاً فشيئاً حتى عمَّ الظلام أرجاء الكون، وبات الناس يتخبَّطون في غَيَابات الجهل، تهوِي بهم ريحُ الظلم في وادٍ سحيق، ولم يَبْقَ في ساحات العالم وطرقاته إلا طيفُ قناديل واجمةٍ لبقايا أهلُ كتاب هُرعوا بها إلى رؤوس الجبال.

 

في ذلك التاريخ المخيف، وليله الثقيل، والأرضُ تحيط بجِيدِها أيادي الموت، بَزَغَ نور الفجر، وتراجع الليل يجرُّ أذيال الهزيمة، فقُطعت أيادي الظلم، وتساقطت الشرفات الزائفة، وكُسِرَ إيوان القهر، وأُطفئت نيران العبودية، لذلك عُدَّ هذا الزمان مِن خير الأزمان وأبركِها على البشرية.

 

لقد بُعث النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- والعالم في ظلام دامس يكتنفه لُجَّةٌ سحيقة من الكفر والعصيان، اهتزَّت فيه أُسُسُ الدِّين، وحُرِّفَ الاعتقادُ إلا بقايا من أهل الكتاب.

 

كان المشركون يعبدون الأصنام والأوثان ويجِدُون فيها السَّلْوَى: (أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) [الزمر: 3].

 

عُبدت الأشجار والأحجار والشمس والقمر والنجوم: (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون) [يونس: 18].

 

لقد تغيَّرت القيم الإنسانية وأمْسَتِ الفضيلة عيباً، مُجِّدَت الوحشية وامتُهنت الإنسانية وشاع الزِّنا ومعاقرة الخمور وانتشر القُمار وكثُر السلب والنهب، لقد كان وجه الأرض حافلاً بالمُروق.

 

في هذا الجو البئيس بُعث النبي -صلى الله عليه وسلم- فتمَّ عقد الهداية، وازدحمت الصفوف للإيمان به، ورُفعت راية الله خفَّاقة، هَدَى الله به القلوب والعقول، أخرج اللهُ به الناسَ من ظلمات الكفر إلى أنوار الإسلام، ومن حَمْأَةِ الرذيلة إلى زينة الفضيلة، ومن التفرُّق إلى الاجتماع، من الجوع واللأْواء إلى السَّعَة والغناء، تحوَّل الصعاليك أتباع الكلأ رعاةُ الغنم إلى فقهاء علماء.

 

كانت الأمة عربيةً مَقُودة فأصبحت مسلمة قائدةً تتبعها الأمم، هل ثَمَّةَ رجلٌ أعظم بركةً على بني قومه من محمد -صلى الله عليه وسلم-؟! إن أعظمَ بركاته -عليه الصلاة والسلام- هي هذا الدِّين المبارك، فهَدَى اللهُ الناسَ ببركة نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وبما جاء به من البينات والهُدى، هدايةً جلَّتْ عن وصف الواصفين، وفاقت معرفة العارفين.

 

أيها المسلمون: إن حياة المسلم محدودة ومعدودة، ومهما بلغ من حرص وجهد لكسب الحسنات والتسابق في الخيرات والعمل في مرضاة الله تعالى فلا يزال عمره قصيراً، لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " أعمار أمتي ما بين ستين وسبعين، وأقلهم من يجوز ذلك" (رواه الترمذي بسند صحيح).

 

وإذا كان عمر الإنسان بهذا الحد وبهذا الحال فلا بد من بذل الجهد الذي يمكننا من حصول البركة في أعمالنا وأوقاتنا، ولا سيما أن الأعمال المنوطة بالإنسان كثيرة، فتجد كثيراً من الدعاة وطلاب العلم الذين يحترقون لنصرة هذا الدين والنجاة من عذاب الآخرة تجدهم كثيراً ما يشتكون من عجزهم عن القيام ببعض الأعمال، وذلك لعدم وجود الوقت الذي يتمكنون فيه من القيام بهذا العمل.

 

وإنك لتتعجب أشد العجب من حال السلف وعظم ما أنجزوه وصنّفوه، إلاَّ أنك تجد أن هناك سراً في حياتهم وهو تمكنهم من حصول البركة في جميع شؤونهم، فكانت البركة في حياتهم أنهم جمعوا من العلم الشيء الكثير حتى قيل: إن الإنسان لو أفنى عمره في قراءتها فلن ينتهي منها، فكيف درسوا هذا العلم وسجلوه؟!

 

إنها بحقٍّ ظواهر تستلفت النظر، وتستثير التأمل والتفكير، تلك التي لا تقلُّ في إبهارها وإعجازها وأخذها بمجامع القلوب عن كثيرٍ من الآيات الكونية الرائعة، وكثيرٍ من البراهين الشرعية الساطعة!

كيف وقعت مثلُ هذه الأمور على هذا النحو من الإبهار والإعجاز؟!

 

كيف استطاع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ثلاثٍ وعشرين سنة فقط، ووسط ذلك المحيط الضخم من الجاهليات العاتية العادية، أن يبنيَ أمةً عقِمت أرحامُ القرون والدهور أن تلدَ مثلها، وأن يُشيّد حضارة لم ولن تسعدَ البشرية بمثلها منذ مولدها إلى أن تُطوى صفحة هذه الحياة الدنيا؟!.

 

وكيف استطاعت هذه الأمَّة الأمِّية التي خرجت من قاع الصحراء بأقل جيوش أمم الأرض عدداً وعُدة، أن تُسقط الإمبراطوريات العتيقة، وأن تَبسط سلطانها في أقل من ربع قرن من الزمان على المعمورة، من حدود الصين إلى شواطئ الأطلسي؟!

 

وكيف استطاع علماءُ هذه الأمة أن يصنعوا مثل هذه المعجزات الباهرة، إلى حد أن الواحد منهم في عمر قصير يكتب من المؤلَّفات ما يحتاج منَّا إلى أعمار مديدة لقراءتها وتعلُّم ما فيها؟!

 

هذه الظواهر وأمثالها كثير ليس لها إلا تفسير واحد، إنها البركة. أجل إنها البركة. البَرَكَة التي إن وُجدت وحلَّت، اتسعت الأوقات، وتضاعفت الطاقات، وتحققت الإنجازات، ووقعت المعجزات، وإن فُقدت أو رحلت، فربما خرج الإنسانُ من هذه الحياة مهما طال عمره وكثُر سعيُه بلا زاد قدَّمه، ولا أثر خلَّفه.

 

هذه البَرَكَة الربانية حلَّت على هذه الأرض قبل أن يستخلف اللهُ الإنسان فيها بملايين السنين، قال تعالى: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ العَالَمِينَ، وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِين) [فصلت: 9-10].

 

وبارك فيها أي: جعلها مباركةً قابلة للخير والبذر والغِراس. لكنْ يَنتَفِعُ ببركات الله في هذه الأرض الذين اتَّقوا ربَّهم وعَمَرُوها بمنهج الله عز وجل، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون) [الأعراف: 96].

 

وعلى العكس من هذا فإن التغيير والتبديل والإعراض عن منهج الله -تعالى- سبب لزوال البَرَكَة وذهاب الخير، وقد قصَّ الله -تعالى- علينا نبأ سبأ الذين أُبدلوا من بعد البركات والنماء محقاً، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيل) [سبأ: 15-16].

 

وبيَّن الحق -تبارك وتعالى- أن هذه الأرض التي بارك فيها قد مُلئت فساداً بسبب ما اكتسبت أيدي العباد، فقال سبحانه: (ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون) [الروم: 41].

 

بارك الله..

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله..

 

أما بعد: أيها المسلمون: إن موضوع البركة يحتاج إليه العالم والمتعلم والمربي، والداعية إلى الله، وأصحاب الأعمال، وأصحاب الأموال وغيرهم من الأمة الإسلامية، يحتاجون إلى: (وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنت) [ مريم: 31 ]. في أي مكان وزمان. فالبركة كلها من الله كما أن الرزق من الله، فلا تطلب البركة إلا من الله.

 

ولقد أشارت نصوص القرآن والسنة إلى أسبابٍ تُلتَمَسُ بها البَرَكَةُ من الله عز وجل، فمن ذلك:

 

تقْوَى الله عز وجل والتوكُّل عليه: يقول الله عز وجل: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق: 2-3]، فليس هناك أعظمُ بركة من أن يأتيَ للإنسان رزقُه من حيث لا يحتسب ولا يتوقَّع، وأن يكون الله -عز وجل- هو حَسْبه وكافيه في تحقيق ما يؤمِّل ودفْعِ ما يحاذر، وأن يجعل الله -تعالى- له من كل همٍّ فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، إنها أسباب البركة الواسعة، والعافية السابغة، والخير الكثير المتنوع المتعدد، تجتمع وتتكاثر حول من يتَّقي اللهَ ويتوكَّل عليه، ويمتلئ قلبُه بخشيته وتفويض الأمر إليه.

 

وأيضاً من أسباب تلمس البركة: الاستغفار مع ترك الإصرار: إن ذنوبَ الإنسان ومعاصيَه لتَحجُب عنه البركاتِ التي أودعها الله -عز وجل- في هذه الأرض، والتي بثَّها في وحيه المعصوم، وشريعتِه المحكَمة، فإذا به يسعى ولا بركة في سعيه، ويجمع ولا بقاء ولا قرار لما يجمعه، فإذا ما ثاب إلى رشده، وآبَ إلى ربِّه، ولهج لسانُه بالاستغفار، فإن هذا الاستغفارَ الحارَّ يمزِّق الحُجُبَ، ويحرق الأستار، التي كانت تَحول بين العبد وما ساق اللهُ له من البركات، فإذا بالخير يتدفَّق من كل جانب، وينحدر من كل صَوْب، على هذا النحو الذي صوَّره القرآن: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا، وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا) [نوح: 10-12].

 

ومن الأسباب: الدُّعاء بالبركة: فمما لا شكَّ فيه أن الدعاء هو أقربُ الأسباب لنيل ما عند المولى -عز وجل- من الخير، فمن دعا الله -تعالى- بالبَرَكَة فاستجاب الله دعاءه، فإنه يحصِّلُ البَرَكَةَ من أخْصَرِ طرقها.

 

ومن أسباب حصول البركة: سلوك السبيل السَّويِّ في الكسب والاسترباح وطلب الرزق الحلال والتعفُّف عن الحرام وعن الشُّبُهات: فإذا كان المسلم ينشُد البَرَكَةَ في رزقه وفي صحته وفي ولده، فعليه بتحرِّي الحلال في التكسب، وبالترفع عن كل ما لا يحِلُّ له من المال والمتاع، وعليه بالصدق والأمانة والعِفَّة والصيانة، وألا ينغمس في الرِّبا أو الغشِّ أو ما شابه ذلك من المحرمات التي فيها أكلٌ لأموال الناس بالباطل، فإنه إن سار على منهج الله فإن البَرَكَة ستحِلُّ في كسبه ورزقه وحياته كلها.

 

ومن الأسباب: البر والصلة وحُسن المعاملة مع الخَلق: عن أنسٍ -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَه". متفق عليه.

 

والمقصود بقوله: "يُنسأ له في أثَرِه": أن تحصُلَ له البَرَكَةُ في عُمره، وأن يوفَّق للطاعات، ولعِمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة. وعن عائشة -رضي الله عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "صِلَةُ الرَّحِمِ وَحُسْنُ الخُلُقِ وَحُسْنُ الْجِوَارِ، يَعْمُرَانِ الدِّيَارَ، وَيَزِيدَانِ فِي الْأَعْمَار" (رواه الإمام أحمد بسند صحيح).

 

ومن الأسباب: حُسْن تنظيم الوقت والمبادرة إلى اغتنامه: فالوقتُ هو رأس مال المسلم، ومسؤولياتُه في هذه الحياة تضيق بها الأوقات، وتفنى فيها الأعمار، لذلك كانت المبادرةُ إلى اغتنام الوقت وحُسن تنظيمه واجباً من الواجبات الكبار؛ لأن واجباتِ المسلم لا تتمُّ إلا بهذا، وما لا يتم الواجبُ إلا به فهو واجبٌ، وقد دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته بالبَرَكَة في بكورها، لأن البكور مبادرةٌ إلى اغتنام الوقت، وتبكيرٌ إلى حسن استغلاله وتنظيمه، فعن صَخْر بن وَدَاعَة الغامِدِيِّ -رضي الله عنه- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَاوَكَانَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً أَوْ جَيْشاً بَعَثَهُمْ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، وَكَانَ صَخْرٌ رَجُلاً تَاجِراً، وَكَانَ يَبْعَثُ تِجَارَتَهُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ فَأَثْرَى وَكَثُرَ مَالُه" (رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه).

 

ومن أسباب حصول البركة: الجود والكرم والتكافل: يقول الله تعالى: (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِين) [سبأ: 39]، ويقول تعالى: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيم) [البقرة: 261].

 

وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُوا جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا، فَإِنَّ طَعَامَ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ، وَطَعَامَ الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الثلاثة والْأَرْبَعَةَ، كُلُوا جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا فإن البَرَكَة في الجماعة". (رواه ابن ماجة وسنده صحيح).

 

ومن أسباب حصول البركة: الجهاد في سبيل الله: يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: الْأَجْرُ وَالمَغْنَم". متفق عليه.

 

فالجهاد خيرٌ وبركة على هذه الأمَّة إلى يوم القيامة، فيه الأجر الكبير والثواب الجزيل، وفيه الرِّزق الواسع الشريف الذي هو أشرفُ الأرزاق، والذي هو رزق أشرفِ الخلق محمَّد -صلى الله عليه وسلم-: "وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي". (رواه الإمام أحمد).

 وفيه إلى جانب ذلك قيامُ الدين، وتحقيقُ مصالح العباد في الدارَيْن.

 

أيها المسلمون: إن البَرَكَةَ نعمةٌ من نِعَم الوهاب، ونَفْحَةٌ من الواسع العليم، والكيِّس الفطِنُ هو الذي يلتمسها من المولى الكريم، ويدخل بالتماسه على ربه من الأبواب التي رضِيها وشرَعها، والتي ذكرْنا بعضها كأسبابٍ لتحصيل البركة، وإن المسلم وبخاصة في هذه الأزمان لفي مسيس الحاجة إلى نيل البركات ليصلَ إلى ما يريد من خيرَي الدنيا والآخرة من أقصر الطُّرق وأخصرِها.

 

اللهم..

 

 

المرفقات

مباركا

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات