كنز من كنوز الجنة

حسين بن عبدالعزيز آل الشيخ

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/تحقيق التقوى يفرج الكروب ويزيل الهموم 2/بعض معاني لا حول ولا قوة إلا بالله 3/قصة عوف بن مالك مع قول: لا حول ولا قوة إلا بالله 4/المؤمن الموحد الملتزم بالطاعة مخصوص بمعية الله الخاصة

اقتباس

إن من أسباب تفريج الكروب وإزالة الهموم أن الإنسان متى استبطأ الفرج وأَيِسَ منه -بِحُكْم بشريتِه- بعد كثرة دعائه وتضرعه، ولم يظهر عليه أثر الإجابة فعليه أن يرجع إلى نفسه، وأن يُفَتِّش في حاله؛ فيرجع إلى نفسه باللائمة، حينئذ إذا كان صادقا ومخلصا يُحْدِثُ لربه توبة صادقة...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله ولي المتقين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الخلق أجمعين، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله أفضل الخلق، وسيد الأنبياء والمرسلين، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

 

أما بعد فيا أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي بما أوصانا الله به -جل وعلا- بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[الْحَدِيدِ: 28].

 

في مثل هذا الزمن الذي عمت فيه الفتن وكثرت المحن الحاجة ماسَّة إلى تذكير المسلمين بالمخارج اليقينية من كل الكروب والخطوب، الأصل العظيم للخروج من مصاعب هذه الحياة الفانية، والخلاص من همومها يكمن في تحقيق التقوى لله -جل وعلا- سرا وجهرا، والانكسار له في السراء والضراء، قال جل وعلا: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)[الطَّلَاقِ: 2-3]، وقال سبحانه: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا)[الطَّلَاقِ: 4]، وإن من صور هذا الانكسار والتضرع والاستسلام لله -جل وعلا- ما أرشد إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- جملةً من أصحابه، وأوصاهم بلزومه قلبا وقالبا، قولا وفعلا، سلوكا وحالا، فقد أرشد أبا موسى -رضي الله عنه- بقوله: "قل: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإنها كنز من كنوز الجنة" (رواه الشيخان).

 

قال أبو ذر -رضي الله عنه-: "أوصاني حِبِّي رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أن أُكثِرَ من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله".

 

إنه ذكر يتيقن به العبد أنه لا تحول له ولا لغيره من حال إلى حال يحبها ولا قوة له على شأن من شئونه، أو تحقيق غاية من غاياته إلا بتقوى الله -جل وعلا-، المتين العلي العظيم.

 

ذِكْرٌ يُظهر به العبدُ فقره وذله الحقيقي، وأنه في ضرورة وافتقار إلى خالقه العزيز القهار، ذكر يخرج من لسان عبد قلبُه موحِّد لربه عظيمِ الشأنِ، وجوارحه خاضعة لطاعة الرحمن، الذي منه يُستمد النصرُ والظَّفَرُ والفرج والمخرج، قال جل وعلا: (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا)[الطَّلَاقِ: 7].

 

ذِكْر لله -جل وعلا- وملازمة لطاعته -تبارك وتعالى-، والذي بذلك يتحقق معه الفلاح والنجاح، والخلاص والمخرج، كما قال جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[الْأَنْفَالِ: 45].

 

ذكر ينبغي لكل مسلم أن يلهج بلسان المقال والحال، أن يلهج به كثيرا؛ إذ هو سر التوحيد الذي يقتضي الانكسار للخالق، والانقطاع إليه، والبراءة من الحول والقوة، إلا به -جل وعلا-، فأنت -أيها العبد الضعيف- لا حول ولا قوة لك إلا بخالقك وربك.

 

يا عباد الله: اسمعوا لهذه القصة العظيمة، التي هي برهان ساطع على أن قوة التوحيد للخالق تنحل بها الكروب مهما عظمت، وتَنْدَكُّ معها الخطوب مهما اشتدت، إنها قصة ذكرها كثير من المفسرين، جاءت من أوجُه أقلّ أحوالها الحُسْن، وهي أن عوف بن مالك الأشجعي، أَسَرَ المشركون ابنًا له يسمى سالِمًا، فأتى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يشكو حالَه، فقال له: "يا رسولَ اللهِ، إن العدو أسر ابني، وشكا إليه الفاقة -أي الفقر- فقال له رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: ما أمسى عند آل محمد إلا مُدٌّ، فاتَّقِ اللهَ واصبِرْ، وأَكْثِرْ من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله"، وفي رواية أنه أمره وأمر أم الولد بذلك؛ ففَعَلا ما أوصى به النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-، "فبينما هو -أي عوف في بيته إذ جاءه ابنه وقد غفل عنه العدو فأصاب إبلا، وأتى بها إلى أبيه، وكان فقيرا، فأتى أبوه رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "اصنَعْ بها ما أحببتَ، وما كنتَ صانعًا بإبِلِكَ" فأنزل الله -جل وعلا-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا)[الطَّلَاقِ: 2]... الآيات.

 

إنها قصة ينبغي أن تكون أمام أعيننا في كل حال؛ ولهذا كان سلفنا على تلك الحال العظيمة، روى ابن أبي الدنيا أن أبا عبيدة حُصِرَ من العدو، فكتب إليه عمرُ -رضي الله عنه- يقول: "مهما ينزل بامرئ من شدة سيجعل الله له بعدها فرجا، وإنه لن يغلب عُسْرٌ يسرينِ، وإنه يقول جل وعلا: (اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 200]".

 

إنها أخبار ينبغي ألَّا نسمعها لمجرد السماع المجرد، وإنما نقوم بما قام به سلفُنا من قوة التعلق بالله -جل وعلا-، إنه التعلق بالله -سبحانه-، والتوكل عليه، ولهج القلوب والألسن بذكره -عز شأنه-؛ مما يجعل الكروبَ مهما اشتدت وعَظُمَتْ مآلُها إلى فرج ومخرج، قال الفضيل -رحمه الله-: "والله لو يئستَ من الخلق حتى لا تريد منهم شيئا، لأعطاك مولاك كل ما تريد".

 

إنها قوة التوحيد في القلب التي تجعل من الصعاب أمرا سهلا ويسيرا.

 

معاشر المسلمين: إن من أسباب تفريج الكروب وإزالة الهموم أن الإنسان متى استبطأ الفرج وأَيِسَ منه -بِحُكْم بشريتِه- بعد كثرة دعائه وتضرعه، ولم يظهر عليه أثر الإجابة فعليه أن يرجع إلى نفسه، وأن يُفَتِّش في حاله؛ فيرجع إلى نفسه باللائمة، حينئذ إذا كان صادقا ومخلصا يُحْدِثُ لربه توبة صادقة، وأوبة مخلصة وانكسارا لمولاه، -تبارك وتعالى-.

 

فيا أيها المسلمون: حافِظُوا على مثل هذا الذِّكْرِ العظيمِ، في كل وقت وحين، فخيرات الذكر متنوعة، وأفضالها متعددة، قال صلى الله عليه وسلم: "ما على الأرض أحد يقول: لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله إلا كفرت خطاياه ولو كانت أكثر من زبد البحر" وهو حديث (حسنه الترمذي، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وهو في مسند الإمام أحمد).

 

وعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تعارَّ من الليل -أي: استيقظ- فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي أو دعا استُجيب له، فإِنْ توضَّأَ وصلى قُبلت صلاتُه" (رواه البخاري).

 

معاشر المسلمين: إن قول: "لا حول ولا قوة إلا بالله" دعاء توحيدي عظيم، يتضمن السلامة والحفظ من الرب العظيم لعباده، قال صلى الله عليه وسلم: "من قال: -يعني إذا خرج من بيته-: بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: كُفِيتَ ووُقِيتَ وهُدِيتَ، وتنحَّى عنه الشيطانُ"؛ ذلكم أنه ذِكْرٌ لله -جل وعلا- يقتضى الاستسلام له -سبحانه- وتفويض الأمور إليه، والاعتراف بالانكسار إليه -سبحانه-، وأنه لا رادَّ لأمره، وأن العبد لا يملك شيئا من الأمر؛ فأَزِمَّةُ الأمورِ بيد الله -سبحانه-، وأمور الخلائق معقودة بقضائه وقدره، ولا رادَّ لقضائه، ولا مُعَقِّبَ لحكمه.

 

فكُنْ -أيها المسلم- في مثل هذه الحياة التي تعث بالفساد كن فيها -أيها المسلم- مطمئنَّ القلب بإيمانك بربك، مرتاح البال بطاعة مولاك، مستيقنًا بالفَرَج والمخرج، بمشيئة خالقك، فكلُّ ما في    الكون خاضع لأمر الله -سبحانه-، جميع ما في هذا العالَم مَهْمَا عَظُمَتْ قُوَّتُه، وتناهت شدتُه فهو خاضع لقوة الله وأمره، وقضائه وقدره، فكلُّ قويٍّ ضعيفٌ في جنب الله -جل وعلا-، فأَشْغِلْ نَفْسَكَ -أيها العبدُ- بسائر الطاعات لله -جل وعلا-، وأنواع الخيرات التي تقربك إلى مولاك، والزم ذِكْرَ الله العظيم بأصناف الأذكار المتنوعة في السراء والضراء، في الشدة والرخاء، ففيما صَحَّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ سَرَّه أنْ يستجيبَ اللهُ له عند الشدائد والكُرَب فليُكْثِرِ الدعاءَ في الرخاء"، فما طابت الدنيا إلا بذكر الله -سبحانه-، ولا طابت الآخرةُ إلا بعفوه -جل وعلا-، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا ورسولنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

 

أيها المسلمون: المؤمن المُوَحِّد، الحافظ لحدود الله -جل وعلا-، الملتزم بطاعته وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- صادقًا مُخلِصًا، فإنه مخصوص بمعية الله الخاصة، التي قال الله عنها: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)[النَّحْلِ: 128]، هذه الآية نرددها كثيرًا، ولْنَعْلَمْ أنها لا تكون إلا لمن كان مُطِيعًا لله -جل وعلا-، في السراء والضراء، في الشدة والرخاء، إنها معية يعتمد المسلم عليها في تحمُّل الأثقال، وتكابُد الأحوال، بها ينال النصر والتأييد في جميع الأحوال، فمن يكن الله معه فمعه الفئة التي لا تُغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل، رزقنا الله وإياكم معيتَه، ونصره، وتأييده، وحفظه، إنه على كل شيء قدير.

 

ثم إن الله -جل وعلا- أمرنا بما تزكو به أحوالنا، وهو الإكثار من الصلاة والسلام على النبي الكريم.

اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على حبيبنا ونبينا ورسولنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومَن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

 

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوالنا بتقواك، اللهم أصلح أحوالنا بسنة نبيك محمد -عليه الصلاة والسلام-، اللهم كن للمسلمين معينا وحافظا، اللهم كن للمسلمين ناصرا ومؤيدا، اللهم فرج هموهم، اللهم نفس كرباتهم، اللهم أكبت أعداءهم، اللهم أكبت أعداءهم، اللهم من أراد المسلمين بسوء فأشغله بنفسه، اللهم من أراد المسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، اللهم امكر بمن مكر بالمسلمين يا رب العالمين.

 

اللهم وفِّق ولِيَّ أمرِنا خادم الحرمين الشريفين لما تحبه وترضاه، اللهم وفق ولي عهده لما تحبه وترضاه، يا ذا الجلال والإكرام.

 

اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، اللهم زَكِّ نفوسَنا بتقواك، اللهم زَكِّ قلوبَنا بتوحيدك، اللهم زَكِّ قلوبَنا بتوحيدك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم آتِنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

 

اللهم احفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء ومكروه، اللهم احفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء ومكروه، اللهم وفق جميع ولاة أمور المسلمين لما فيه خدمة رعاياهم لما يصلح دينهم ودنياهم يا حَيُّ يا قيوم، اللهم يا غني يا حميد، يا غني يا حميد، أنتَ الغنيُّ الكريم، أنت الغني الكريم، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم اسقنا سقيا رحمة، اللهم اسقنا سقيا رحمة، اللهم اسق قلوبنا بالتوحيد والإيمان، اللهم اسق أرضنا بالماء النافع يا ذا الجلال والإكرام.

 

عباد الله: اذكروا الله ذكرا كثيرا، وسبِّحوه بكرة وأصيلا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

المرفقات

أثر الأمن في حياة المجتمع

كنز من كنوز الجنة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات