كمائن الخطر

الشيخ عبدالعزيز بن محمد النغيمشي

2022-02-18 - 1443/07/17 2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/صفات نفوس الأطهار 2/فضل إماطة الأذى عن الطريق 3/التحذير من أذية الناس 4/المسلم دائم النفع لإخوانه

اقتباس

وتَسْمُوْ نَفْسُ الكَرِيمِ, فلا يَرْضى بأَذىً مُحدِقٍ يُخْشى على المسلمينَ ضَرَرُهُ دُونَ أَن يَسْعى جاهداً في إزالَتِه، أَو يبذُلَ جُهداً في حمايةِ المسلمينَ مِنه؛ بِئرٌ مَكْشُوفَةٌ لا حِجَابَ دُوْنَها, أو حُفرةٌ في قارعةِ الطريقِ لا وِقايةَ عليها, أو جِدَارٌ يُريدُ أَن يَنْقَّضّ يُخشى وُقُوعُه...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ, نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ, مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ, وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

 

أَمَّا بَعْدُ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102], (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1], (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70، 71].

 

أيها المسلمون: نُفوسُ الأَطْهارِ تَفِيْضُ بِرَّاً, تُحَلِّقُ في سماءِ المكرماتِ, راقيةٌ تَقِيَّة، صافيةٌ نَقِيَّة، تبذُلُ الإحسانَ تَنشُرُ المعروفَ تُسدي الفضائلَ.

 

نفوسُ الأَطْهارِ طابَتْ فطابَ عطاؤُها, مَن اقترَبَ منها أَمِنْ، ومن صَحِبَها أَنِسْ، ومَنْ جاورَها اطمأن,  نفوسٌ لا يَشقى قَرِيْنُها, قَرِيْبَةُ الإحسانِ بعيدةُ الإساءة، سريعةُ المعروفِ لا تَعْرِفُ الْـمَنّ, تَعشَقُ من المكارِم أزكاها، ومن الفضائلِ أعلاها، ومِن العطاءِ أجزَلَه, لا تَحقِرُ معروفاً تُشِيْعُه، ولا تستصغِرُ أذىً تُزِيْلُه.

 

حَوَتْ من الخيراتِ كُلَّ بَدِيْعَةٍ, ليسَ فيها أَنانيةٌ مُزْرِيَةٌ، وليسَ فيها اسْتِئثَارٌ مَقِيْتْ، رفيقةٌ رقيقةٌ, يؤْلِمُها جُرْحُ الصديقِ، يُرْهِقُها تَعَب المُعَنَّى، يُجْهِدُها كَرْبُ البَعيِدِ، يُسعِدُها فَرَجٌ يَلُوحُ لكلِ مَوْجوعِ الفؤادِ كسيرِ.

 

نُفُوْسُ الأَطْهارِ تَتَفَانى في عَطَائِها، تُخلِصُ في مَعْرُوفِها، لا تَأْتِيْ على كَرِيْمَةٍ إلا أَثْبَتتْها، ولا على أَذِيَّةٍ إلا أزاحَتْها, نَفَّاعَةٌ, للأذى دَفَّاعَة, تَتَبَوّأُ من الجنةٍ منزلاً ظليلاً, ولها في النعيمِ أكَرَمَ مَقِيْل.

 

سائرٌ في طَرِيْقِه, أَبْصَرَ غُصْنَ شوكٍ يَتَأذى مِنْهُ العابرون, أَبَتْ مُرُوءَتُهُ أَن يتجاوزَهُ قَبْلَ أَنْ يُنَحِيْه، وامْتَنَعَتْ نفسُهُ أَنْ يَمْضِيَ لِحاجَتِهِ قبلَ أَن يُزِيْحَه, اقْتَطَعَ من وَقتِهِ يسيراً، وأَجهداً بَدَنَهُ قليلاً، عَالَجَ الغُصنَ وزَحْزَحَ الشوكَ، فَنحاهُ عَنِ الطريقِ ثُمَّ تَجَاوَزَ ومضى,

 

عَمَلٌ يسيرٌ مِن نَفسٍ رَفِيْقَةٍ, فأَيْ جزاءٍ أَدرَكَت في عَطائِها؟! واللهُ شاكرٌ, واللهُ شَكُوْر؛ يَجْزِيْ بالحسنةِ إحساناً, ويُعطي بالمعروفِ رِضْواناً, حَدَّثَ رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ هذا يوماً فقال: "بينما رجل يمشي بِطَرِيْقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ في الطَّريقِ، فَأَخَّرَهُ؛ فَشَكَرَ اللهُ لَه, فَغَفَرَ لَه"(متفق عليه), وفي روايةٍ لِمسْلِمٍ: أَنَّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لقد أُرِيتُ رجلًا يتقلَّبُ في الجنَّةِ؛ في شَجَرةٍ قطعَها مِنْ ظَهْرِ الطريقِ، كانت تُؤذِي المسلِمينَ", إِنَّهَا نُفُوْسُ الأَطْهارِ, لا تُؤْذِي ولا تَرْضَى الأَذَى بَلْ تُزِيْحُهُ, وعلى قَدْرِ الأَذى يَعْظُمُ الوِزْرُ والإِثْمُ.

 

وحِينَ يَغْلِبُ على إِنْسانٍ طَبْعٌ لا يُرْتَضَى، أو يَتَلَبَّسُ بِخُلُقٍ لا يَلِيْق, لا يُبالِي بمصالِحِ الناسِ، ولا يُولِيْ لِـحُقُوْقِهِم أَيَّ اهتِمامِ, يُحَقِّقُ لِنَفْسِهِ نَفْعاً وإِنْ كَانَ بِهِ للآخَرِيْنَ أَذىً, ويَعْمَلُ أعْمالاً لا يَسْتَحْضِرُ عواقِبَها وتَبِعاتِها, يُغْلِقُ على المسلمينَ الطريقَ لِيُمْضِيَ حاجةً، يُلْقي الأذى في قارِعَةِ الطريقِ لا يُبالي, في مشاهِدَ من الأَذى لا حصرَ لَها, والعاقِلُ يُدْرِكُ الغَثَّ مِن السَّمِيِن، ويُمَيِّزُ النَّفْعَ مِنَ الأذى, في ميزانٍ نَبَوِيٍّ كريمٍ: "لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ"(رواه البخاري ومسلم).

 

فَكَمْ من مُحْسِنٍ بذلَ معروفاً لبهيمةٍ, شَكَرَهُ الناسُ على صَنِيْعِه، وقبلَ ذلِكَ شَكَرَ اللهُ لَه, وكَمْ مِن مُسيءٍ استَجْلَبَ لِنَفْسِهِ السَّبَّ والشَّتْمَ واللعنات, بسبب ما اقترفته يداه, عَنْ أَبِيْ هُريرةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: "اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ", قالوا: وَما اللَّعَّانَانِ يا رَسُولَ اللهِ؟, قالَ: "الذي يَتَخَلَّى في طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ في ظِلِّهِمْ"(رواه مسلم)؛ الذي يَقْضِيَ حَاجَتَه في الطَّريقِ الذي يَطْرُقُهُ الناسُ، أَو يَقْضِيَ حاجَتَهُ في الظِّلِّ الذي يَسْتَظِلُّونَ به, جالِبٌ لِنَفْسِهِ لعناتِ المسلمين ودعواتِهم عليه.

 

وشَبِيْهُ ذَلِكَ مَنْ يُفسِدُ على الناسِ الأماكِنَ التي يَرْتادُونها وَيَتَنَزَّهُونَ بها, يَرْمي فيها فَضْلَتَه، ويُبَعْثِرُ فيها قُمامَتَه, وكُلَّما كَانَ الأَذَى أَكْبَر كان الإِثمُ أَعظَم، وكلما كان الضررُ أشَدُّ كان العقابُ أَقْسى.

 

عباد الله: إِنَّ شريعةَ اللهِ تَدعو لكلِّ نَفْعٍ وتأَمُرُ بكُلِّ معروفٍ، وتنهى عَن كُلِّ ضَرَرٍ، وتأَمرُ بكفِّ كُلِّ أَذى, قالَ أَبو ذَرٍّ -رضي الله عنه- قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ! أرَأَيْتَ إنْ ضَعُفْتُ عن بَعْضِ العَمَلِ؟ قالَ: "تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ؛ فإنَّها صَدَقَةٌ مِنْكَ علَى نَفْسِكَ"(رواه البخاري ومسلم).

 

كَفُّ الشَّرِّ ومَنْعُ الأَذى صَدَقَةٌ يَهَبُها المرءُ لِنَفْسه, فلا طَابَتْ حياةُ مَنْ لَمْ يَكُفَّ عن المسلمينَ شَرَّهُ, ولم يَحْجِبْ عَنْهُمْ أذاه, في المُتَّفَقِ عليه أَنَّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: "الْمُسْلِمُ مَنْ سَلَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِه", (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا)[الأحزاب: 58].

 

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهدُ أَنَّ محمداً عبدهُ ورسُولُه النبيُ الأَمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابِه أجمعين، وسلم تسليماً.

 

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- لعلكم ترحمون.

 

أيها المسلمون: وتَسْمُوْ نَفْسُ الكَرِيمِ, فلا يَرْضى بأَذىً مُحدِقٍ يُخْشى على المسلمينَ ضَرَرُهُ دُونَ أَن يَسْعى جاهداً في إزالَتِه، أَو يبذُلَ جُهداً في حمايةِ المسلمينَ مِنه؛ بِئرٌ مَكْشُوفَةٌ لا حِجَابَ دُوْنَها, أو حُفرةٌ في قارعةِ الطريقِ لا وِقايةَ عليها, أو جِدَارٌ يُريدُ أَن يَنْقَّضّ يُخشى وُقُوعُه، أو مُتَهَوِّرٌ بِقيادَتِه يُخْشَى إِتلافُه, في أَنواعٍ من المخاطِرِ, تَعْرِضُ للمرءِ أَو يُصادِفُها في أَيِّ حِيْن, فَمَا قَدِرَ على إِزالَتِه بِنَفْسِهِ أَزالَه, وما لَم يَقْدِرْ عليهِ اسْتَعانَ بمَن لَه قُدْرَةٌ على ذلك أو اختِصاص.

 

وكما يَجِبُ على كُلِّ مُسْلِمٍ ومُسْلِمَةٍ أَن يَبْذُلَ الوِسْعَ في حمايةِ المسلمينَ من المخاطِرِ والآفاتِ التي تَعْرِضُ لَهُم, وقد تُفسِدُ عليهم دُنْياهُم؛ فإِنه لواجبٌ على كُلِّ مُسلمٍ ومسلمةٍ أَن يَبْذُلُوا كُلَّ وُسعٍ في صَدِّ المخاطِرِ التي قَد تُفسِدُ على المسلمينَ دِيْنَهُم.

 

يُؤْمَرُ بالمعروفِ ويُشْهَر, ويُنهى عَنِ الإِثمِ ويُنْكَر, يُناصَحُ المذنِبُ، ويُرشَدُ الضالُّ، ويُعَلَّمُ الجاهِلُ, ويؤخَذُ على يَدِ السَّفِيْهِ وعلى الحقِّ يُؤطَر, فَمَخَاطِرَ المُجاهَرَةِ بالمُنكراتِ يَسْرِيْ ضَرَرُها، ويَتَعدَّى خطَرُها، وَيَعُمُّ عِقابُها, خَطَرُ المُنكَرِ إذا جُوْهِرَ به وَعَمّ يُحِيْطُ بالمجتمعِ كُلِّه؛ (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[الأنفال: 25], عن النعمان بن بشير -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَثَلُ القَائِم في حُدُود الله والوَاقِعِ فيها كمَثَل قَوم اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَة, فصارَ بعضُهم أَعلاهَا وبعضُهم أسفَلَها، وكان الذين في أسفَلِها إِذَا اسْتَقَوا مِنَ الماءِ مَرُّوا على من فَوقهِم، فَقَالُوا: لَو أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقاً, وَلَم نُؤذِ مَنْ فَوقَنَا، فَإِنْ تَرَكُوهُم وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعاً، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيدِيهِم نَجَوا وَنَجَوا جَمِيعاً"(رواه البخاري).

 

يُقضى على منابِعِ الشَّرِ وتُرْدَمُ آبارُ الخطَر, ويُحالَ بَيْنَ المعتدي وبين سَعْيِهِ في الضَّرَرْ, وما قَامَت شَرِيعةُ الجهادِ في سبيلِ اللهِ إلا لِكَفِّ الكافرينَ عَن عُدوانِهم، ولِدَفْعِ ضَرَرِهِم وصَدِّهِمْ عن إفسادِهم؛ ليصفو للإنسانِ دِينُهُ الذي ارْتَضَاه اللهُ لَهُ، دُونَ أَنْ يُهَدَّدَ بِـخَطَر؛ (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[الأنفال: 39].

 

وإقامةُ النفسِ وتربيةُ الأهلِ على القيامِ بأمرِ اللهِ، وكَفِهم عن الحرامِ وحجْبِهِم عَن معصيةِ اللهِ، حمايةٌ من أعظَمِ المخاطِرِ، ووِقايَةٌ مِنْ عذابِ النار؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[التحريم: 6].

 

 

المرفقات

كمائن الخطر.pdf

كمائن الخطر.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات