كلنا خطاء فما حالنا مع الذنب

الشيخ عبدالله بن علي الطريف

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ كل بني آدم خطاء 2/ ممن يقبل الله التوبة 3/ كيفية مجانبة سبيل العاصين 4/ المعينات على النجاة من شؤم المعصية 5/ وجوب استعظام الذنب 6/ الخوفُ من محقرات الذنوب 7/ خطورة المجاهرة بالمعصية.

اقتباس

لقد كان سلف الأمة أهل الورع والخشية والزهد والعبادة يتحدثون كثيرًا عن المعصية، ويخشون على أنفسهم من شؤمها.. فكيف بنا -معشر المذنبين- ونحن نعيش في عصر قد أجلبت الفتن والشهوات علينا بخيلها ورجلها، وصرنا نرى بأعيننا ونسمع بآذاننا صباح مساء ما يدعونا إلى المعصية ويزيّنها بأعيننا، وما يؤخرنا عن الطاعة ويحجزنا عنها.. فما سبيلنا لمجانبة سبيل العاصين، والسير في ركاب الطائعين المخبتين؟! لنقف مع أنفسنا وننظر ما رصيدنا اليومي من محقرات الذنوب؟! كم كلمة أو رسالة في جوال أو تغريدة نطلقها لا نلقي لها بالاً.. ! فهذه سخرية بمسلم، وتلك همز أو لمز له، وتلك وقوع في عرضه، وأخرى كلمة غير صادقة أو ما يسمى بالكذبة البيضاء.. وهذه نظرة عابرة لما حرم الله، حتى يجتمع على أحدنا من هذه الأعمال الصغيرة بأعيننا طودٌ عظيمٌ من محقرات الذنوب فتهلكه. ثم نتساءل لماذا قلوبنا قاسية؟!

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله ...

 

أما بعد: أيها الإخوة: مَنْ مِن بني آدم لا يقع في معصية الله؟! ورسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «كُلُّ بَني آدمَ خطَّاءٌ وخيرُ الخَطَّائينَ التَّوابونَ» (رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد وقال الألباني: حسن).

 

 ومن هو الذي لا يقع في معصية الله ورسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقسم -وهو الصادق بغير قسم- فيقول: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ» (رواه مسلم).

 

أيّ نفس -أيها الإخوة-: غير نفوس الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- ترقى لمنزلة لا تدركها كبوة، أو لا تقع في زلة أو لا تغلبها شهوة.

 

ولكن المؤمن مع ذلك يدرك خطورة المعصية وشناعتها، وأنها جرأة على مولاه، وإباق من سيده، وأنه ما من مصيبة في الدنيا إلا بذنبٍ.

 

والمؤمن إن واقع الذنب واقعه مواقعة ذليل خائف مشفق، يتمنى ذلك اليوم الذي يفارق فيه الذنب ويتخلص منه.

 

يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله- في كتابه الجميل مفتاح دار السعادة: "والله –تعالى- إنما يغفر للعبد إذا كان وقوع الذنب منه على وجه غلبة الشهوة، وقوة الطبيعة، فيواقع الذنب مع كراهيته له، من غير إصرار في نفسه، فهذا تُرجى له مغفرة الله وصفحه وعفوه، لعلمه تعالى بضعفِه وغلبة شهوتِه له، وأنه يرى كل وقت ما لا صبر له عليه، فهو إذا واقع الذنب واقعه مواقعة ذليل خاضع لربه، خائف مختلج في صدره شهوة النفس للذنب وكراهة الإيمان له، فهو يجيب داعي النفس تارة، وداعي الإيمان تارات هذا هو القسم الأول.

 

فأما مَنْ بَنَى أمرَه على أن لا يقف عن ذنب، ولا يُقدّمُ خوفًا، ولا يدعُ لله شهوة، وهو فرحٌ ومسرور يضحك ظهرًا لبطن إذا ظفر بالذنب، فهذا الذي يخاف عليه أن يُحَال بينه وبين التوبة ولا يوفَّق لها".

 

وقال -رحمه الله-: "الفرح بالمعصية دليل على شدة الرغبة فيها، والجهل بقدر من عصاه، والجهل بسوء عاقبتها وعِظم خطرها، ففرحه بها غَطَّى على ذلك كله..

 

وفرحه بها –أي: المعصية- أشد ضررًا عليه من مواقعتها، والمؤمن لا تتم له لذة بمعصية أبدًا، ولا يكمل بها فرحه، بل لا يباشرها إلا والحزن مخالط لقلبه، ولكن سُكْرُ الشهوة يحجبه عن الشعور به، ومتى خلا قلبه من هذا الحزن واشتدت غبطته وسروره فليتهم إيمانه.. وليبكِ على موت قلبه، فإنه لو كان حيًّا لأحزنه ارتكابه للذنب، وغاظه، وصعب عليه، ولأحس قلبُه بذلك.. ولكن ما لجرح بميت إيلام".

 

أيها الإخوة: ليعرض كل واحد منا نفسه على هذا التقسيم الجميل والوصف البليغ؛ فإن وجد خيرًا فليحمد الله وإن وجد غير ذلك فليراجع نفسه قبل أن يندم ولات ساعة مندم.

 

أيها الإخوة: لقد كان سلف الأمة أهل الورع والخشية والزهد والعبادة يتحدثون كثيرًا عن المعصية، ويخشون على أنفسهم من شؤمها.. فكيف بنا -معشر المذنبين- ونحن نعيش في عصر قد أجلبت الفتن والشهوات علينا بخيلها ورجلها، وصرنا نرى بأعيننا ونسمع بآذاننا صباح مساء ما يدعونا إلى المعصية ويزيّنها بأعيننا، وما يؤخرنا عن الطاعة ويحجزنا عنها.. فما سبيلنا لمجانبة سبيل العاصين، والسير في ركاب الطائعين المخبتين؟!

 

قال أهل العلم: مما يعين على النجاة من شؤم المعصية -بعد التعرف على حالنا من أي الصنفين نحن-: استعظام الذنب؛ فبقدر ما يعظم الذنب في نفس المرء ويكبر يزداد بُعْدَهُ عنه ويحاول الفكاك منه.

 

ولقد صوّر عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- المؤمن مع ذنبه تصويرًا دقيقًا، فقال -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ وَإِنَّ الْفَاجِرَ -العاصي والفاسق- يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذَ" (رواه البخاري)، قَالَ أَبُو شِهَابٍ: بِيَدِهِ فَوْقَ أَنْفِهِ. وهذا كناية عن عدم اكتراثه بالذنب..

 

قال أحد السلف معلقًا على كلام ابن مسعود: "إنما كانت هذه صفة المؤمن لشدة خوفه من الله ومن عقوبته؛ لأنه على يقين من الذنب، وليس على يقين من المغفرة، والفاجر قليل المعرفة بالله فلذلك قل خوفه واستهان بالمعصية".

 

وقال آخر: "والحكمة من التمثيل بالجبل أن غير الجبل من المهلكات قد يحصل التسبب إلى النجاة منه بخلاف الجبل إذا سقط على شخص لا ينجو منه عادة".

 

أيها الإخوة: إن استعظامَ الذنبِ واستكباره مهما كان صغيرًا حالُ عبادِ الله الصالحين ولقد عد بعض العلماء احتقار الذنب من الكبائر، قال الأوزاعي -رحمه الله-: "كان يقال من الكبائر أن يعمل الرجل الذنب يحتقره".

 

ولنعلم -وفقنا الله لطاعته- بأن استعظام الذنب يتولدُ منه لدى صاحبِه استغفارٌ وتوبةٌ وبكاءٌ وندمٌ، وإلحاحٌ على الله -عز وجل- بالدعاء، وسؤالُه تخليصه من شؤمه ووباله، وما يلبث أن يولّد دافعًا قويًا يمكّن صاحبه من الانتصار على شهوته والسيطرة على هواه.

 

أيها الإخوة: ويلحق باستعظام الذنب الخوفُ من محقرات الذنوب، ولقد حذّر منها رسول الله، وضرب لها مثلاً بليغًا، فيما (رواه أحمد والطبراني وصححه الألباني) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ"، وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلاً: "كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أَرْضَ فَلَاةٍ، فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ –أي: إعداد أكلهم- فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ، فَيَجِيءُ بِالْعُودِ، وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ، حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا –أعدادًا- فَأَجَّجُوا نَارًا، وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا".. يا له من تشبيه بليغ من أفصح خلق الله لشؤم اجتماع الذنوب على العبد!!

 

نعم إن العود الواحد لا يصنع شيئًا ولا الثاني كذلك.. لكنها حين تجتمع تصبح حطبًا يشعل النار وينضح العشاء.

 

خلّ الذنوب صغيرها *** وكبيرها ذاك التقى

واصنع كماشٍ فوق أرض*** الشوك يحذر ما يرى

لا تحقرن صغيرة *** إن الجبال من الحصى

 

ويحذر رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زوجه عَائِشَةَ -رضي الله عنها- من محقرات الذنوب فيقول: «يَا عَائِشَةُ إِيَّاكِ وَمُحَقَّرَاتِ الْأَعْمَالِ، فَإِنَّ لَهَا مِنَ اللَّهِ طَالِبًا» (رواه ابن ماجة وابن حبان وصححه الألباني).

 

وخطب رسول الله الناس يوم حجة الوداع فقال: «.. أَلَا وَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ مِنْ أَنْ يُعْبَدَ فِي بِلَادِكُمْ هَذِهِ أَبَدًا، وَلَكِنْ سَتَكُونُ لَهُ طَاعَةٌ فِيمَا تَحْتَقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَسَيَرْضَى بِهِ» (رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني).

 

وقَالَ الْحَسَنُ: "مَنْ عَمِلَ حَسَنَةً وَإِنْ صَغُرَتْ أَوْرَثَتْهُ نُورًا فِي قَلْبِهِ، وَقُوَّةً فِي عَمَلِهِ، وَإِنْ عَمِلَ سَيِّئَةً وَإِنْ صَغُرَتْ فَاحْتَقَرَهَا أَوْرَثْتُهُ ظُلْمَةً فِي قَلْبِهِ، وَضَعْفًا فِي عَمَلِهِ" (رواه البيهقي في الشعب).

 

أيها الإخوة: قال ابن القيم -رحمه الله-: "إن استقلال العبد للمعصية عين الجراءة على الله، وجهلٌ بقدر من عصاه، وبقدر حقه، وإنما كان مبارزة؛ لأنه إذا استصغر المعصية واستقلها هان عليه أمرها وخفت على قلبه وذلك نوع مبارزة".

 

أيها الإخوة: لنقف مع أنفسنا وننظر ما رصيدنا اليومي من محقرات الذنوب. كم كلمة أو رسالة في جوال أو تغريدة نطلقها لا نلقي لها بالاً.. ! فهذه سخرية بمسلم، وتلك همز أو لمز له، وتلك وقوع في عرضه، وأخرى كلمة غير صادقة أو ما يسمى بالكذبة البيضاء..

 

وهذه نظرة عابرة لما حرم الله، حتى يجتمع على أحدنا من هذه الأعمال الصغيرة بأعيننا طودٌ عظيمٌ من محقرات الذنوب فتهلكه. ثم نتساءل لماذا قلوبنا قاسية؟! فالله المستعان.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ، وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [الحشر: 18، 19] بارك الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله غافر الذنوب وقابل التوبة شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله اللطيف الخبير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله البشير النذير صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أولي العزم والتشمير وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد: أيها الإخوة في الله: ومما يعين على التخلص من شؤم المعصية: عدم المجاهرة بها ولقد دلت السنة على أن المعصية التي يستتر بها صاحبها أخفُ جرمًا من التي يُعلنها.

 

فَعَنْ أَبَيِ هُرَيْرَةَ -رَضيَ اللهُ عَنهُ- قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا المُجَاهِرِينَ -المعلنين بالمعاصي والفسوق-، وَإِنَّ مِنَ المُجَاهَرَةِ وفي رواية مِنَ الْمَجَانَةِ -وهي الاستهتار بالأمور وعدم المبالاة بالقول أو الفعل- أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلاَنُ، عَمِلْتُ البَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ" (رواه البخاري ومسلم).

 

حينما يبتلى أحدنا فتغلبه نفسه الأمارةُ بالسوء، ويدعوه هواه لمقارفة الذنب وارتكاب حرمة وقد خلا عن الناس، وأرخى على نفسه الستار عليه أن يستتر بستر الله ولا يهتك هذا السياج.

 

إن المجاهرة بالذنب والحديثَ عنه على ما فيه من مخالفة للأدب الشرعي وهتك لستر الله تعالى هو بنفس الوقت تكريس للقدوة السيئة، وتهوين للمعصية أما الآخرين؛ فحينما يقع من سمعه بنفس الذنب يلتمس لنفسه العزاء بفعل الآخرين.. ثم إن المجاهرين بحديث بعضهم لبعض ربما استفاد بعضهم من حيل غيره فيكون ذلك تعاوناً على الإثم والعدوان.

 

ثم نقول لهذا المجاهر: إذا فتح الله عليك وتركت ما أنت عليه من معصية ستشعر بالندم أن نقلت فعلك القبيح للناس؛ لأنهم لن ينسوه، وستشعر عند لقائهم بالصغار والحقارة، ولن يَطْمُرَ ما حدثتهم به النسيان مهما طال الزمان..

 

اللهم جنبنا المعاصي واعصمنا من المجاهرة يا رحيم يا رحمن....

 

 

 

المرفقات

خطاء فما حالنا مع الذنب

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات