كلا إنها لظى (1)

ناصر بن محمد الأحمد

2015-02-23 - 1436/05/04
التصنيفات: الحياة الآخرة
عناصر الخطبة
1/التخويف من النار ومدح الخائفين منها 2/خوف النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة من النار 3/صفة مجيء النار وقيادة الملائكة لها 4/طعام أهل النار وشرابهم وثيابهم 5/تلاعن أهل النار ومعاناتهم من ثقل السلاسل والأغلال 6/إحراق النار لكل من يلقى فيها 7/أبواب النار وإغلاقها على أهلها 8/محاولة الكفار الخروج من النار وإرغاهم على البقاء فيها وخلودهم فيها 9/أودية النار وبعد قعرها وظلماتها وتفاوت دركاتها 10/صراخ أهل النار وعويلهم 11/بعض الأسباب المنجية من النار

اقتباس

لأهل النار خمس دعوات، يكلمون في أربع منها، ويسكت عنهم في الخامسة، فلا يكلمون فيها، يقولون: (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ)[غافر: 11].فيرد عليهم: (ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ)[غافر: 12].ثم يقولون: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ)[السجدة: 12].
فيرد عـ...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله ...

 

أما بعد:

 

إن الله -جل وتعالى- خلق الخلق ليعبدوه، ويخشوه ويخافوه، ونصب لهم الأدلة الدالة على عظمته وكبريائه، ليهابوه ويخافوه، خوف الإجلال، ووصف لهم شدة عذابه، ودار عقابه، التي أعدها لمن عصاه، ليتقوه بصالح الأعمال، ولهذا كرر سبحانه وتعالى في كتابه من ذكر النار، وما أعده فيها لأعدائه من العذاب والنكال، وما احتوت عليه من الزقوم والضريع والحميم، والسلاسل والأغلال، إلى غير ذلك مما فيها من العظائم والأهوال.

 

لقد حذرنا الله -عز وجل- من النار في غير ما آية من كتابه، وأنذرنا منها رسوله -صلى الله عليه وسلم- في أكثر من حديث، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[التحريم: 6].

 

وقال تعالى: (فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)[البقرة: 24].

 

وقال تعالى: (لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ)[الزمر: 16].

 

وعن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: "اتقوا النار" قال: وأشاح، ثم قال: "اتقوا النار" ثم أعرض وأشاح ثلاثاً حتى ظننا أنه ينظر إليها، ثم قال: "اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة"[خرجاه في الصحيحين].

 

وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مثلي كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها قال: فذلكم مثلي ومثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار، هلم عن النار، هلم عن النار، فتغلبوني وتقتحمون فيها".

 

ومقصود هذا الحديث؛ كما ذكره النووي: أنه صلى الله عليه وسلم شبه تساقط الجاهلين والمخالفين لأمر الله بمعاصيهم وشهواتهم في نار الآخرة، وحرصهم على الوقوع في ذلك من منعه إياهم، وقبضه على مواضع المنع منهم، بتساقط الفراش في نار الدنيا لهواه، وضعف تمييزه، وكلاهما حريص على هلاك نفسه، ساع في ذلك بجهله.

 

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: لما نزلت هذه الآية: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)[الشعراء: 214] دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قريشاً فاجتمعوا فعم وخص، فقال: "يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار" إلى أن قال عليه الصلاة والسلام: "يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئاً".

 

يحكى عن يوسف بن عطية عن المعلّى بن زياد أنه قال: "كان هرم بن حيان يخرج في بعض الليالي، وينادي بأعلى صوته: عجبت من الجنة كيف نام طالبها، وعجبت من النار كيف نام هاربها، ثم يقول: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ)[الأعراف: 97].

 

أيها المسلمون: لقد امتدح الله -عز وجل- عباده المؤمنين، أولي الألباب، بأنهم يخافون من النار، فقال عز وجل: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ)[آل عمران: 190- 192].

 

وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيراً ما يستعيذ من النار، كما يقول ذلك أنس -رضي الله عنه- فيما أخرجه البخاري في صحيحه: " كان أكثر دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار".

 

ويقول أبي هريرة -رضي الله عنه-: أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم إني أعوذ من حر جهنم".

 

وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "لو نادى مناد من السماء: أيها الناس إنكم داخلون الجنة كلكم إلا رجل واحد لخفت أن أكون أنا هو".

 

وأخرج الإمام أحمد من طريق عبد الله بن الرومي قال: "بلغني أن عثمان -رضي الله عنه- قال: لو أني بين الجنة والنار ولا أدري إلى أيتِها يؤمر بي لاخترت أن أكون رماداً قبل أن أعلم إلى أيتِها أصير".

 

فيا عباد الله: إذا كان هذا حال رسولنا -صلى الله عليه وسلم-، وحال صحابته من بعده، فحري بنا أن يكون خوفنا من النار أشد منهم؛ لأن أعمالنا وإخلاصنا لا يقاس إلى أعمالهم وإخلاصهم.

 

والخوف وحده لا ينجي أحداً من النار.

 

فالقدر الواجب من الخوف، ما حَمَلَ على أداء الفرائض، واجتناب المحارم.

 

تأمل -يا عبد الله- إذا جيء بجهنم إلى الموقف، تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، قال تعالى: (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ)[الفجر: 23- 25].

 

عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها"[رواه مسلم].

 

أيها المسلمون: لقد أعدّ الله لأهل النار طعاماً هو الزقوم، وشراباً هو الحميم، فقال سبحانه: (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ)[الواقعة: 51- 56].

 

وقال تعالى: (إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا)[المزمل: 12- 13].

 

وهو الشوك يأخذ بالحلق لا يدخل ولا يخرج.

 

وقال جل وعلا: (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ)[الحاقة: 35- 37].

 

والغسلين، هو صديد أهل النار، وهو شرابهم.

 

وقال عز من قائل: (وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ)[محمد: 15]

 

وقال جل وعلا: (لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا)[النبأ: 24- 25].

 

وقال تعالى: (هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ)[ص: 57- 58].

 

وقال جل وعلا: (وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا)[الكهف: 29].

 

وفي صحيح مسلم عن جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن لله عهداً لمن شرب المسكرات، ليسقينه من طينة الخبال" قالوا: يا رسول الله ما طينة الخبال؟ قال: "عرق أهل النار، أو عصارة أهل النار".

 

وأعد الله لأهل النار ثياباً، فقال سبحانه: (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ)[الحـج: 19].

 

كيف يقوى الإنسان على لبس ثياب صنعت من النار! وهو لا يطيق ملابسه العادية في حر الصيف؟!

 

وقال تعالى: (سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ)[إبراهيم: 50].

 

وفي صحيح مسلم من حديث أبي مالك الأشعري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقاد يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب".

 

ثم إن تحية أهل النار -عباد الله- هو التلاعن؛ كما قال تعالى: (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا)[الأعراف: 38].

 

فبدل السلام يتلاعنون، ويتكاذبون، ويكفرُ بعضهم بعضا، فتقول الطائفة الأولى دخولاً للتي بعدها: (لَا مَرْحَبًا بِكُمْ)[ص:60].

 

وهذا إخبار من الله -جل وعلا- بانقطاع المودة بينهم، وأن مودتهم في الدنيا تصير عداوة؛ كما قال في الآية الأخرى: (الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)[الزخرف: 67].

 

فتأمل حال أولئك التعساء، الذين كان بعضهم يملي لبعض في الضلال، كيف تناكروا، وتلاعنوا في جهنم، وأصبحوا يتقلبون في أنواع العذاب، ويعانون من جهنم ما لا تطيقه الجبال، وما يُفتت ذكره الأكباد، يقتحمون إلى جهنم اقتحاما، فلا تسأل عما يعانونه من ثقل السلاسل والأغلال، قال الله -تعالى-: (إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ)[غافر: 71- 72].

 

وقال تعالى: (وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا)[سبأ: 33].

 

وقال تعالى: (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ)[الحاقة: 32].

 

إن بين أيدينا يوم لا شك فيه ولا مراء، تقع فيه الفراق وتنفصم فيه العرى.

 

فتدبر -يا عبدالله- أمرك قبل أن تحضر، قال الله -تعالى-: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ)[آل عمران: 30].

 

يا له من يوم يشيب فيه الولدان، وتسير فيه الجبال، وتظهر فيه الخفايا، وتنطق فيه الأعضاء، شاهدةٌ بالأعمال، فانتبه يا من قد وهى شبابه، وامتلأ بالأوزار كتابه.

 

أما بلغكم أن النار للكفار والعصاة أعدت، وأنها لتحرق كل من يلقى فيها، قال الله -تعالى-: (إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ)[الملك: 7- 8].

 

وقال تعالى: (إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ)[المرسلات: 32- 33].

 

يا غافلاً عن منايا ساقها القدرُ *** ماذا الذي بعد شيب الرأس تتنظرُ

عاين بقلبك إن العين غافلةٌ *** عن الحقيقة واعلم أنها سقرُ

سوداء تزفر من غيظٍ إذا سُعرت *** للظالمين فما تبقي ولا تذر

لو لم يكن لك غير الموت موعظةٌ *** لكان فيه عن اللذات مزدجر

 

قال الله -تعالى-: (لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)[الأعراف: 41].

 

المهاد، هو الفرش.

 

والغواش، هي اللحف.

 

وقال عز وجل: (وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا)[الإسراء: 8].

 

يروى أن رجلاً من سلف هذه الأمة كان إذا دخل المقابر نادى: "يا أهل القبور بعد الرفاهية، والنعيم معالجة الأغلال في النار، وبعد القطن والكتان لباس القَطِران، وبعد تلطف الخدم والحشم، ومعانقة الأزواج، مقارنة الشيطان في نار جهنم مقرنين في الأصفاد".

 

ولما ماتت زوجة الفرزدق، ودفنت، وقف الفرزدق على قبرها، وأنشد بحضور الحسن -رحمه الله تعالى-:

 

أخاف وراء القبر إن لم يُعافني *** أشد من القبر التهاباً وأضيقاً

إذا جاء في يوم القيامة قائدٌ *** عنيفٌ وسوّاق يسوق الفرزدقا

لقد خاب من أولاد آدم من مشى *** إلى النار مغلول القدادة أزرقا

يساق إلى نار الجحيم مسربلاً *** سرابيل من قطرانٍ لباساً محرقا

إذا شربوا فيها الصديد رأيتهم *** يذوبون من حر الصديد تمزقا

 

فبكى الحسن -رحمه الله تعالى-.

 

النار -عافانا الله وإياكم منها- لها سبعة أبواب؛ كما أخبر الباري -سبحانه وتعالى- بذلك في قوله: (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ)[الحجر: 43- 44].

 

وقال تعالى: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ)[الزمر: 71].

 

وقد وصف الله الأبواب بأنها مُغلقة عليهم، فقال تعالى: (إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ)[الهمزة: 8].

 

يعني مطبقة عليهم.

 

وقد أخبر الله -سبحانه وتعالى- أن الكفار يحاولون الخروج من النار، ولكنهم يرغمون على البقاء فيها، قال الله -تعالى-: (يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ)[المائدة: 37].

 

وقال تعالى: (كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ)[الحـج: 22].

 

فلا يزالون يريدون الخروج مما هم فيه من الشدة، وأليم العذاب، ولا سبيل لهم إلى ذلك، كلما رفعهم اللهب فصاروا في أعلا جهنم ضربتهم الزبانية بمقامع الحديد، فيردونهم إلى أسفلها.

 

عندها يطلبون من المولى الخروج منها، فقال تعالى مخبراً عما قالوا: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ)[المؤمنون: 107].

 

فيأتيهم الجواب: (قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ)[المؤمنون: 108].

 

وقال جل وعز: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ)[الزخرف: 77].

 

وقال عز وجل: (لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا)[فاطر: 36].

 

روى البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "يؤتى بالموت في صورة كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار ويذبح، ويقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت".

 

وهذا مما يدل على عدم فناء النار، وبقاء أهلها فيها، يتقلبون في أنواع العذاب، لا راحة، ولا نوم، ولا هدوء، ولا قرار، بل من عذاب إلى آخر، ولكل واحد منهم حد معلوم، على قدر عصيانه وذنبه، إلاّ أن أقلهم لو عرضت عليه الدنيا بحذافيرها لافتدى بها من شدة ما هو فيه، فكيف بمن يسحبون في النار على وجوههم، ويقال لهم: (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ)[القمر:48].

 

(وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ* لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ)[المدثر: 27- 28].

 

تأكل لحومهم وعروقهم، وعصبهم وجلودهم، ثم تبدل غير ذلك.

 

قال الله -تعالى-: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا)[الأحزاب: 66].

 

ينادُون في وقت لا ينفع فيه النداء، ينادُون إلهاً ضيعوا أوامره، وارتكبوا نواهيه!.

 

فيا لها من حسرة! ويا لها من ندامة! لا تشبهها ندامة! ويا لها من خسارة لا تعادلها خسارة: (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)[الزمر: 15].

 

بارك الله لي ولكم ...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله ...

 

أما بعد:

 

عباد الله: اعلموا -رحمني الله وإياكم- أن في النار أودية؛ فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ويل واد في جهنم يهوى فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره"[رواه أحمد والترمذي].

 

ثم تأمل بعد ذلك في قعر جهنم، وظلماتها وتفاوت دركاتها؛ فمما رواه مسلم في صحيحه من حديث خالد بن عمير قال: "خطب عتبة بن غزوان -رضي الله عنه- فقال: إنه ذُكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عاماً، ما يدرك لها قعراً، والله لتملأنّ".

 

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فسمعنا وَجْبَةً، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أتدرون ما هذا؟" قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: "هذا حجر أرسله الله في جهنم منذ سبعين خريفاً فالآن حين انتهى إلى قعرها"[رواه مسلم].

 

عباد الله: قال الله -تعالى-: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)[فاطر: 37].

 

وقال تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ)[السجدة: 12].

 

وقال سبحانه: (وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)[الأنعام: 27].

 

إن هذه الآيات لم تنـزل علينا عبثاً، وإنا -والله الذي لا إله إلا هو- لمحاسبون، فلا تضيعوا أعماركم، وتفكروا فو الله لقد ذهب الكثير، ولم يبق إلا القليل.

 

فيا ساهياً في غمرة الجهل والهوى *** صريع الأماني عن قريب ستندم

أفق قد دنى الوقت الذي ليس بعده *** سوى جنةٍ أو حرُ نارٍ تضرم

وبالسنة الغراء كن متمسكاً *** هي العروة الوثقى التي ليس تفصم

تمسك بها مسك البخيل بماله *** من الله يوم العرض ماذا أجبتم

وخذ من تقى الرحمن أعظم جنّة *** ليوم به تبدو عياناً جهنم

وينصبُ ذاك الجسر من فوق متنها *** فهاوٍ ومخدوش وناج مسلم

وتشهد أعضاء المسيء بما جنى *** كذاك على فيه المهيمن يختم

فيا ليت شعري كيف حالك عندما *** تطاير كتب العالمين وتقسم

أتأخذ باليمين كتابك أم تكن *** بالأخرى وراء الظهر منك تسلم

فبادر إذاً ما دام في العمر فسحة *** وعدلك مقبول وصرفك قيم

وجد وسارع واغتنم زمن الصبا *** ففي زمن الإمكان تسعى وتغنم

 

قال النبي -صلى الله عليه وسلم- عن النار: "أنه أوقد عليها ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة".

 

وقال أيضاً فيما رواه الترمذي من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "ناركم هذه التي يوقد بنو آدم، جزء واحد من سبعين جزءاً من حر جهنم، قالوا: والله إن كانت لكافية يا رسول الله، قال: فإنها فضلت بتسعة وتسعين جزءاً كهلن مثل حرها".

 

فليحاول كل منا أن يخلص نفسه من هذه النار، والطريق الوحيد لتخليص الإنسان نفسه من النار، هو: الابتعاد عن الشهوات؛ كما أخبر بذلك الصادق المصدوق -عليه أفضل الصلاة والسلام- بقوله: "حفت النار بالشهوات، وحفت الجنة بالمكاره".

 

وفي رواية للبخاري: "حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره".

 

وهذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وبديع بلاغته في ذم الشهوات، وإن مالت إليها النفوس، والحض على الطاعات، وإن كرهتها النفوس، وشق عليها.

 

وقد ورد إيضاح ذلك من وجه آخر، فقد روى غير واحد من أصحاب السنن من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال عليه الصلاة والسلام: "لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة، فقال: انظر إليها، قال: فرجع إليه، فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بها فحفت بالمكاره، فقال: ارجع إليها، فرجع، فقال: وعزتك لقد خفت أن لا يدخلها أحد، قال: اذهب إلى النار فانظر إليها، فرجع، فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فأمر بها فحفت بالشهوات، فقال: ارجع إليها، فرجع، فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد".

 

فلا بد أن يكون في تصور كل واحد قرب النار منه، كما أخبر بذلك عليه الصلاة والسلام في حديث رواه البخاري بقوله: "الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك".

 

ومعناه: أن الطاعة موصلة إلى الجنة، وأن المعصية مقربة إلى النار، وأن الطاعة والمعصية قد تكون من أيسر الأشياء.

 

فينبغي للمرء أن لا يزهد في قليل من الخير أن يأتيه، ولا في قليل من الشر أن يجتنبه، فإنه لا يعلم الحسنة التي -يرحمه الله- بها ولا السيئة التي يسخط عليه بها.

 

روي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: "لأهل النار خمس دعوات، يكلمون في أربع منها، ويسكت عنهم في الخامسة، فلا يكلمون فيها" يقولون: (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ)[غافر: 11].

 

فيرد عليهم: (ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ)[غافر: 12].

 

ثم يقولون: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ)[السجدة: 12].

 

فيرد عليهم: (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)[السجدة: 13- 14].

 

ثم يقولون: (رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ)[إبراهيم: 44].

 

فيرد عليهم: (أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ)[إبراهيم: 44].

 

ثم يقولون: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)[فاطر: 37].

 

فيرد عليهم: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ)[فاطر: 37].

 

ثم يقولون: (قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ)[المؤمنون: 106- 107].

 

فيرد عليهم: (قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ)[المؤمنون: 108- 109].

 

قال: فلا يتكلمون بعد ذلك أبداً".

 

اللهم رحمة ...

 

 

 

المرفقات

كلا إنها لظى (1).doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات