كلام السلف في فتن المسلمين المعاصرة

زيد بن مسفر البحري

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ تنبؤ النبي بالفتن الكائنة إلى نهاية الدنيا 2/ أقوالٌ للسلف تبين منهجهم عند وقوع الفتن 3/ وفرة الأحاديث الناهية عن الخروج على الولاة 4/ شهادة الواقع على سوء عاقبة مقاتلة الولاة 5/ الضوابط الشرعية في مناصحة الولاة والإنكار عليهم

اقتباس

تحدثنا في الجُمع الماضية عن الفتنة كما جاء ذكرها في كتاب الله -عز وجل-، وكما جاء ذكرها في سنة الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وها نحن في هذا اليوم نكمل ما توقفنا عنده في الجُمع الماضية من ذكر الفتنة كما جاء عن السلف -رحمهم الله- ومن تبعهم بإحسان من العلماء الربانيين حول هذا الأمر.

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

أما بعد: فيا عباد الله، تحدثنا في الجُمع الماضية عن الفتنة كما جاء ذكرها في كتاب الله -عز وجل-، وكما جاء ذكرها في سنة الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وها نحن في هذا اليوم نكمل ما توقفنا عنده في الجُمع الماضية من ذكر الفتنة كما جاء عن السلف -رحمهم الله- ومن تبعهم بإحسان من العلماء الربانيين حول هذا الأمر.

 

عباد الله: تلك الخُطب قد يكون فيها شيء من الغموض، وقد يكثر فيها التساؤل، ولعل هذه الخطبة تبين ما كان غامضا، وتجيب عما كان مشكلا.

 

أخرج أبو داود عن حذيفة -رضي الله عنه- أنه قال: "والله! ما أدري أصحابي نسوا أم تناسوا! والله! ما من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ مَن معه ثلاثمائة فصاعدا إلا سماه لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- باسمه، واسم أبيه، واسم قبيلته".

 

في صحيح البخاري أن ابن عمر -رضي الله عنهما- لما جرت الفتنة في عصره، قيل له: تكلم يا أبا عبد الرحمن، لأن الأمر يتعلق بالإمارة، ولعل لك فيها حظا، لأن أباك كان خليفة، فقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: "خشيت أن أقول كلمة تفرق الجمع، وتسفك الدم، ويحمل عني غير ذلك".

وقال نافع، كما عند البخاري: أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير وما جرى له مع الحجاج، وتلك المعارك التي حصلت بينه وبين خلفاء بني أمية، أتاه رجلان فقالا: أنت صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فما يمنعك أن تخرج؟ فقال -رضي الله عنه-: "إن الله حرَّم علي أن أسفك دم أخي المسلم"، فقالا له: ألم يقل الله -عز وجل-: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ) [البقرة:193]؟ فقال -رضي الله عنه-: "قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة"، يعني: قاتلنا مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-، "قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تكون فتنة، وأن يكون الدين لغير الله". هذه إطلالة تدخلنا إلى موضوعنا.

 

النووي -رحمه الله- كما في شرح مسلم، لما ذكر الدماء التي جرت بين الصحابة -رضي الله عنهم-، قال -رحمه الله-: "كانت القضايا متشابهة فتحيروا فيها فاعتزلوا الطائفتين فلم يقاتلوا ولم يستيقنوا الصواب، ثم تأخروا عن مساعدة أيٍ منهم".

 

ثم ذكر -رحمه الله- في موضع آخر: "واختلف العلماء في قتال الفتنة"، إذا هبّت فتنة بين المسلمين ماذا يصنع فيها؟ قال النووي -رحمه الله-: "فقالت طائفة: لا يقاتل الرجل في فتن المسلمين، وإن دخلوا عليه بيته وطلبوا قتله فلا يجوز له المدافعة عن نفسه؛ لأن الطالب متأول، وهذا مذهب أبي بكرة، ويشابهه مذهب ابن عمر -رضي الله عنهما-. ومعظم الصحابة والتابعين وعامة علماء المسلمين يقولون: يجب نصر المحق في الفتن ويجب القيام معه بمقاتلة الطائفة الباغية، لقوله -تعالى-: (فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) [الحجرات:9]".

 

قال النووي: "وهذا هو الصحيح، ويتأول عليه الأحاديث"، الأحاديث التي مرت معنا في الجمع الماضية، "ويتأول عليه الأحاديث على من لم يظهر له المحق، أو على طائفتين ظالمتين لا تأويل لواحدة منهما، ولو كان كما قال الأولون لظهر الفساد، واستطال أهل البغي والمبطلون".

 

قال ابن حجر -رحمه الله- في الفتح: "التحذير من الفتنة، والحث على اجتناب الدخول فيها، وأن شرها يكون بحسب المُتعَلق بها، وقد اختلف السلف في ذلك، فحمله بعضهم على العموم وقعد عن القتال بين المسلمين، كابن عمر -رضي الله عنهما- ومن كان على شاكلته، وقد لزمت طائفة منهم البيوت، وارتحلت طائفة عن بلد الفتنة؛ ورأى جمهور الفقهاء أنه إذا بغت طائفة على الإمام وجب قتالها، وكذلك لو تحاربت طائفتان من المؤمنين وجب على كل قادر الأخذ على يد المخطئ ونصر المصيب، ذلك أن إنكار المنكر واجب على كل من قدر عليه، فمن أعان المحق فقد أصاب، ومن أعان المخطئ فقد أخطأ، وإن أشكل الأمر عليه فتحمل الأحاديث التي ورد النهي عن القتال فيها".

 

وهذا شبيه برأي ابن باز -رحمه الله- كما في فتاويه.

 

فنخلص من هذا: إن ما قاله النووي وابن حجر أنه متى ما حصلت فتنة فبغت طائفة على ولي من ولاة المسلمين يجب أن يقاتل معه ضد تلك الطائفة الباغية، وكذلك لو أن طائفتين من المسلمين تحاربتا وتقاتلتا فننصر المحقة، أما إذا اشتبه الأمر ولم يتضح فيجب الكف عن القتال.

والفتنة -عباد الله- شرها خطير، ولاسيما الفتنة التي تتعلق بالزعامة والرئاسة والولاية، فإن منازعة الرؤساء وولاة الأمور فيها من الشر ما الله به عليم، ولا سيما أن هذه الفتنة يكثر فيها إراقة الدماء، يشتبه فيها الحق، تأتي الشبهات على قلب المؤمن، يتقلب قلبه، يفقد الأمن، تخرب المجتمعات الإسلامية، ينهك المسلمون اقتصاديا واجتماعيا وأمنيا، تجعل المجتمعات الإسلامية تتسول الإحسان من دول الكفر للوقوف معها، تجعل مقاليد أمور الحكم في غير أيدي المسلمين.

 

ولذلك؛ قال أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه-: لما قتل عثمان -رضي الله عنه-، قال: "هذه حيصة من حيصات الفتن، وبقيت الرداح المطبقة"، عثمان قتل فهذه بداية الفتنة، لكن؛ انتهى الأمر لما قتل؟ قال: "بقيت الرداح المطبقة"، يعني: الفتن العظيمة التي من ماج بها ماجت به، ومن أشرف لها استشرفت له.

 

إذاً؛ ما يحصل في بعض بلدان المسلمين من الزعزعة -والله- لا خير فيه للمجتمعات الإسلامية، يجعل العدو ينظر إلى المسلمين ويأكل خيرات بلدانهم، يتيح للمد الشيعي أن يتغلغل في بلدان المسلمين، فيخسر المسلمون دنياهم ودينهم، والأمثلة على ما أقول واضحة.

 

ماذا جرى في الصومال لما انقلبوا على محمد سياد بري؟ أكثر من عشرين سنة والقتال بين الصوماليين أنفسهم، والعدو ينظر ويأكل، ماذا جرى في العراق؟ الرجل الذي هدم صورة صدام حسين لما دخلت القوات الأمريكية فرحا بدخولها، رُئي بعد ذلك يبكي يتحسر على حكم صدام! لبنان، ماذا يجري فيها من الزعزعة الداخلية؟. ولذا؛ واجب علينا أن نعي هذا الأمر، لأن هذا الأمر جِد خطير.

 

وسأذكر كلاما للسلف حول ما يتعلق بمنازعة ولاة الأمر والزعماء والرؤساء مهما جاروا ومهما ظلموا، ولا تأخذوا مني شيئا، ولا تأخذوا من أحد شيئا، خذوا مما ذكره السلف؛ ولذا، يقول ابن القيم -رحمه الله- كما في "الفوائد": "لا يقلدن أحدكم دينه أحدا إن آمن آمن وإن كفر كفر، إن كنتم لا بد مقتدين فاقتدوا بالميت؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة".

 

سأذكر ما ذكره السلف -رحمهم الله-، وواجب عليك أنت يا مسلم أن تنظر إلى ما يحصل وأن تنزله على ما قاله السلف الذين فهموا كلام الله، وفهموا سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يتعلق بالفتن وغيرها، وطبِّق حتى تنجو؛ لأن هناك حسابا وعقابا، أنت عبدٌ لله -عز وجل-.

 

قال المجدد محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-: "ذهبت الصحابة ومن معهم إلى وجوب الجماعة"، لا بد أن يجتمع المسلمون؛ ولذلك، النبي -صلى الله عليه وسلم- في السنن لما ذكر اختلاف الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، قال: "كلها في النار، إلا واحدة"، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: "ما كانت على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي"، وفي رواية: "الجماعة".

 

كيف تتأتى الجماعة؟ قال الشيخ المجدد -رحمه الله-: "الإسلام لا يتم إلا بالجماعة، كما قال -تعالى-: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ) [آل عمران:103]"، ثم قال: "الأصل الثالث من تمام الاجتماع السمع والطاعة لمن تأمَّر علينا ولو كان عبدا حبشيا". العبد ما يُولى، لكن قد يأتي عبد ويهيمن بقوته فيستتب له الحال، هنا يجب أن يُطاع.

 

قال ابن القيم -رحمه الله- تحت حديث: "ثلاث لا يُغِل عليهن قلب امرئ مسلملا يمكن أن يصل الغل وفساد القلب إلى قلبك إذا أتيت بهذه الأشياء الثلاثة: "إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإن دعوتهم تحيط مِن ورائهم".

 

"إخلاص العمل لله"، ولذلك نجّى الله -عز وجل- يوسف -عليه السلام-: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [يوسف:24]. إبليس، لما علم قدر الإخلاص قال: (إلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [الحجر:40]، "ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم"؛ لأن لزوم جماعة المسلمين تجعل المسلم يُحب لهم ما يُحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه.

 

هذه الثلاثة من أتى بها لا يدخل قلبَه فساد، ما ختام الحديث؟ قال: "فإن دعوتهم تحيط من ورائهم"، دعوة الإسلام بمثابة السور والسياج المتين العظيم الذي من دخل فيه لم يأت عليه عدوه من الخلف أبدا، وكذلك؛ لما سميت دعوة الإسلام بأنها تحيط من ورائهم، تدل على أن دعوة الإسلام هي التي تلُم شمل المسلمين.

 

قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: ويجب أن يُعرف أن ولاية أمور الناس من أعظم ما جاء به الدين، بل لا قيام للدين والدنيا إلا بها، فإن بني آدم لا يتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، والاجتماع لا بد له من رأس؛ ولهذا رُوي: "السلطان ظل الله في الأرض"، ويقال: "ستون سنة بإمام جائر خير وأصلح من ليلة من غير إمام".

 

ثم قال -رحمه الله-: والتجربة تُبين ذلك؛ ولهذا كان السلف، كأحمد والفضيل بن عياض وغيرهما، يقولون: "لو كان لنا دعوة مستجابة لصرفناها إلى الإمام" فالواجب اتخاذ الإمامة قربة ودينا يتقرب به إلى الله -عز وجل-. انتهى كلام ابن تيمية -رحمه الله-.

 

فالمنازعة ليست سلاحا لنا، المنازعة سلاح لعدونا علينا، قال ابن القيم -رحمه الله- كما في الفوائد تحت قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ * وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال:45-46]. "ذَكَر خمسة أمور: الثبات، ذكر الله، طاعة الله ورسوله، عدم التنازع فهو سلاح العدو، الصبر. والصابر ظافر؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "واعلم أن النصر مع الصبر".

 

ثم قال -رحمه الله-: "لما اجتمعت هذه الأمور الخمسة المذكورة في الآية للصحابة فتحوا البلاد، ودان لهم العباد، ولما تفرقت في غيرهم فاتهم من النصر بحسب ما فاتهم من هذه الأمور الخمسة".

 

يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين من حديث عبادة، والأحاديث في مراعاة وحفظ حقوق الولاة كثيرة، لكن سأذكر شيئا منها، قال عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-: "بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة في عُسرنا وفي يسرنا، وفي منشطنا وفي مكرهنا وعلى أثرة علينا"، قد يستأثرون بالأمور ويأخذونها لهم، "وألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان".

 

يقول الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "لا بد أن تتوفر هذه الشروط -كفر بواح، دليل واضح- ليس هناك مجال ولا مكان للشكوك والظنون".

 

سئل الشيخان ابن باز وابن عثيمين -رحمهما الله-: أيجوز الخروج على الولاة إذا جاروا وظلموا؟ قالا: لا، فقيل لهما: فإذا كفر وظهر كفره بدليل واضح؟ فقالا -رحمهما الله- في ضمن ما قالا: إذا لم يكن هناك قوة للمسلمين لإزاحة هذا الإمام الكافر فلا يجوز لهم الإقدام على ذلك؛ لأنه لا قوة لهم تزحزحه، لأنه لو زحزح مع القوة الضعيفة حصل في المجتمعات الإسلامية من الفساد ما الله به عليم، من زهق الأرواح، واستباحة المحرمات.

 

وذكرا دليلا وهو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة لما كانت قوته ضعيفة، بم أُمر؟ (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) [المعارج:5]، (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) [الحجر:85]، (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) [المائدة:13]؛ لكن، لما بدأت القوة تظهر وبدأت الهجرة، في طريق الهجرة نزل قوله -تعالى-: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) [الحج:39]، إِذْنٌ فقط ليس إلزاما.

 

ثم لما قويت: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ) [البقرة:190]، ثم لما عظمت قوة المسلمين في غزوة تبوك في أواخر عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال -تعالى-: (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [التوبة:5]، وهذه الآيات المذكورة في القرآن تُنزل في كل زمن بحسبه.

 

سأل يزيد بن سلمة الجعفي النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: يا رسول الله، إن قام علينا أمراء يمنعوننا حقنا ويأخذون حقهم، ألا ننابذهم يا رسول الله بالسيف؟ فقال -عليه الصلاة والسلام-: "لا، اسمعوا وأطيعوا؛ فإنما عليكم ما حُمِّلتم وعليهم ما حُمِّلوا"، وفي الحديث الآخر: أفلا ننابذهم يا رسول الله؟ قال: "أدّوا الحق الذي عليكم، وسلوا الله الحق الذي لكم".

 

قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في "السياسة الشرعية": إن قوله -تعالى-: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء:58-59].

 

قال -رحمه الله-: "الآية الأولى في حق الولاة، يجب عليهم أن يحكموا بين الناس بالعدل، وأن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وأن يحكموا بالعدل. أما الآية الثانية فهي في حق الرعية، فعليهم أن يطيعوا ولاة الأمر الفاعلين لذلك، إلا أن يأمروا بمعصية، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق".

 

"وإن تنازعت الرعية والراعي فيجب عليهما أن يردوا الأمر إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، ثم قال: "إن لم يفعلوا ذلك نُصحوا"، ولا يعني أن النصيحة لا تُقدم، لا، في الحديث السابق: "ومناصحة أئمة المسلمين"، هذا واجب، لكن المناصحة يجب أن تكون بالطريقة الشرعية، وأن يُنزل كل شخص حسب منزلته: "أنزلوا الناس منازلهم"، قال -رحمه الله-: "فإن لم يفعلوا ذلك يطاعون فيما أمروا به من طاعة".

 

جاء عند مسلم عن حذيفة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ستكون أئمة لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي، فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس"، فقال حذيفة: ما تأمرني يا رسول الله؟ قال: "تسمع وتطيع، ولو ضُرب ظهرك وأخذ مالك". المسألة ليست مسألة عواطف، لا، المسألة دينٌ وشريعة وعقيدة، وهذا هو كلام السلف، رحمهم الله، مما فهموا من كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "تسمع وتطيع ولو ضُرب ظهرك وأخذ مالك".

 

قال ابن رجب في شرح الأربعين النووية: أما السمع والطاعة لولاة الأمر فبهما سعادة الدنيا والآخرة، وبهما تنتظم مصالح العباد في معاشهم، وبهما يستعينون على إظهار دينهم وطاعة ربهم، كما قال علي -رضي الله عنه-: "الناس لا يصلحون إلا بإمام سواء كان برا أو فاجرا، فإن كان فاجرا عبد المؤمن فيها ربه".

 

الحسن البصري -رحمه الله- أدرك إمارة الحجاج بن يوسف الثقفي، وأدركه ابن عمر وأنس -رضي الله عنهم-، في صحيح البخاري جاء أناس يشكون ظلم الحجاج إلى أنس بن مالك -رضي الله عنه-، فماذا قال لهم؟ اصبروا، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من عام إلا وبعده شر منه حتى تلقوا ربكم". أتدرون من هو الحجاج؟ قال عنه الذهبي: "نسبّه ولا نحبه، ونبغضه في الله، وبغضه في الله واجب، كان ظلوما غشوما سفَّاكا للدماء، له حسنات مغمورة في بحر السيئات".

 

قتل سعيد بن جبير التابعي الجليل شر قتلة، كما ذكر ابن كثير في البداية، هم بقتل الحسن البصري.

 

قال الحسن البصري في الولاة: "هم يلون فينا أمورا خمسة: الجمعة، والجماعة، والعيد، والثغور، والحدود. والله! لا يستقيم الدين إلا بهم وإن جاروا وظلموا، والله ما يُصلح الله بهم أكثر مما يفسدون، فإن طاعتهم -والله- لغيظ، وإن فرقتهم لكفر".

 

ابن عمر -رضي الله عنهما-، وصححه الألباني -رحمه الله- في إرواء الغليل، قالوا له: يا أبا عبد الرحمن، إن الولاة يسألوننا الزكاة، ولكن إذا أخذوها شربوا بها الخمور وأكلوا بها الخنزير؟ قال: "أعطوهم".

 

قال ابن القيم -رحمه الله- في أعلام الموقعين: المثال الأول: النبي -صلى الله عليه وسلم- شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل من إنكار المنكر من المعروف ما يُحبه الله ورسوله، فإن كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه فلا يسوغ إنكاره، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم".

 

المنكر يُنكر، ولكن بالأسلوب الشرعي، إذا لم يستجيبوا، كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله- يطاعون فيما أمروا به من طاعة، ولكن لا يطاعون في معصية الله -عز وجل-، أما الخروج عليهم فهذا لا يمكن، مهما جاروا ومهما ظلموا.

 

قال -رحمه الله-: "وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدنيا، وقد استشار الصحابة رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- في الأئمة الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، قالوا: يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: "لا، ما أقاموا الصلاة، ما أقاموا الصلاة".

 

وكما، قلت لا مجال للعاطفة ولا لحظوظ النفس، هذا دين، هذا مستقبل أمة، أما أن يثور أي ثائر وتقوم أي غوغاء فتنشر رسالة في (الفيس بوك) أو غيره، هذا لا يصلح، ويسقطونه، ثم يأتي شخص آخر لا يصلح فيسقطونه، إذا لم يوقَف موقف الحزم ويُبيَّن عقيدة أهل السنة والجماعة في هذا المجال أصبحت الأمور فوضى، كل من لا يُرضَى عنه من ولاة المسلمين تحصل مظاهرة ويسقط، ويصبح المسلمون ينهش بعضهم في بعض والعدو يتفرج، والمد الشيعي الرافضي يتمكن من بلاد المسلمين، وهو أعظم شرا.

 

قال ابن القيم -رحمه الله-: "ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل"، وهو الخروج على الأئمة، "وعدم الصبر على منكر طُلب إزالته فنتج عنه ما هو أكبر منه".

 

ذكر ابن مفلح -رحمه الله- في "الآداب الشرعية"، ذكر عن الإمام أحمد أن فقهاء بغداد أتوا إلى الإمام أحمد في ولاية الواثق، قالوا: يا إمام، إن الأمر قد تفاقم وفشا. ما الذي تفاقم وفشا في عهد الواثق؟ فشا بقوة السلطان أن يقال القرآن مخلوق ليس بمنزل، هكذا قيلت، من لم يقل إن القرآن مخلوق ضرب وسجن وعُذِّب، قالوا: يا إمام، القرآن منزل وهذا يجبرنا على كذا، ولا نرضى بإمارته ولا سلطانه، فقال: "عليكم بالإنكار في قلوبكم".

 

والإمام أحمد -رحمه الله- عانى من فتنة خلق القرآن، سجن سنين وعذب وطيف به في البلاد وضرب على مرأى من الناس، ومع ذلك لما قالوا له لا نريد إمارة الواثق ولا سلطانه ماذا قال؟ قال: "عليكم بالإنكار في قلوبكم، ولا تخلعوا يدا من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم مع دماء المسلمين، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح بَر ويُستراح من فاجر، ليس هذا صوابا، هذا خلاف الآثار". يعني الخروج على الأئمة. انتهى كلامه.

 

قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في "منهاج السنة": إن الناس لا يصلحون إلا بالولاة، ولو تولى من هو دون هؤلاء من الملوك الظلمة كالحجاج ويزيد بن معاوية ونحوهما فإن هذا خير لهم من عدمه".

 

الحجاج، ذكرت لكم سيرته، يزيد بن معاوية، استبيحت المدينة في عصره لما ولى مسلم بن قتيبة، حتى سماه السلف مُسرفا، استباح المدينة ثلاثة أيام وانتشر فيها الدم، وقُتل عدد كبير من الصحابة في عهد يزيد بن معاوية.

 

ذكر ابن مهدي في كتاب الطاعة والمعصية أن عليا -رضي الله عنه- قال: "لا بد للناس من إمارة بارّة أو فاجرة"، قالوا: يا أمير المؤمنين، البارة معروفة، أما الفاجرة، ماذا يستفاد منها؟ قال: "تؤمن بها السبل".

 

والله! إن الزعزعة الحاصلة في بعض بلدان المسلمين، الآن لا يأمن الإنسان لا على ماله ولا على عرضه ولا على نفسه، يسهرون الليل من أجل أن يحفظوا بيوتهم وأعراضهم وأموالهم؛ ولذلك، إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- أول ما دعا لم يدع بأن ينشر التوحيد، لا، دعا الله -عز وجل- أن يجعل الأمن في الأرض؛ لأن الأمن وسيلة إلى نشر الدعوة الإسلامية، ولا أمن إلا بالولاة: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ) [إبراهيم:35].

 

قال -رحمه الله- في السياسية الشرعية لا بد للناس من أمير، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قال، كما عند أبي داود: "إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمِّروا أحدكم"، وعند أحمد: "لا يحل لثلاثة يكونون في فلاة إلا أمروا واحدا عليهم"، قال -رحمه الله-: "فأوجب النبي -صلى الله عليه وسلم- تأمير الواحد على الجمع القليل العارض في السفر؛ تنبيها بذلك على سائر أنواع الاجتماع".

 

وقال في "غذاء الألباب": "لا ينبغي لأحد أن ينكر على السلطان إلا وعظا وتخويفا وتحذيرا من العاقبة في الدنيا والآخرة"، يعني: لا يكن الوعظ والتنبيه للولاة لغرض آخر، تريد بذلك النصح له... قال -رحمه الله- "قال القاضي: ويحرم بغير ذلك".

 

وكل يفتش في قلبه وفي المجتمعات الإسلامية ويطبق هذا الحديث الذي يغفل كثير من الناس عنه، بل لا يعرفونه، وليحاسب كل نفسه، النبي -صلى الله عليه وسلم- قال، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم"، أربع عقوبات، ذكر من هؤلاء الثلاثة: "ورجل بايع إماما لم يبايع إلا لدنيا فإن أعطاه وفى وإن لم يعطه لم يفِ"، كأن العلاقة بينهما هي الدنيا، إن أعطى فهو هو، وإن لم يعط قُدح فيه وذم.

 

قال المروذي -رحمه الله-: "سمعت أبا عبد الله، يعني الإمام أحمد، يأمر بالكف عن الأمراء، وينكر الخروج عليهم إنكارا شديدا".

 

وأختم بأبيات من الشعر لعبد الله بن المبارك -رحمه الله- وأثر لعمرو بن العاص -رضي الله عنه-.

 

قال عبد الله بن المبارك:

إن الجماعة حبل الله فاعتصم *** منه بعروته الوثقى لمن دانا

قد يدفع الله بالسلطان معضلة *** في ديننا رحمة منا ودنيانا

لولا الخلافة لم تأمن لنا سُبل *** وكان أضعفنا نهما لأقوانا

 

وقال عمرو بن العاص يوصي ابنه في آخر حياته، لأن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- أدرك الفتنة التي حصلت بين معاوية وعلي، رضي الله عن الجميع، وعرف خطرها، وعرف آثارها، وكان مجتهدا -رضي الله عنه- فإن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد، هكذا هي عقيدة أهل السنة والجماعة فيما جرى بين الصحابة من قتال ونزاع، قال -رضي الله عنه-: "يا بني، احفظ ما أوصيك به: إمام عادل خير من مطر وابل، وإمام ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم".

 

وانتهى ما أردت التنبيه عليه، ولا يقل أحد هذا كلام فلان، هذا ليس بكلامي إنما كلام السلف -رحمهم الله-، وهذه قاعدة: إذا أردت النجاة، طبِّق ما يكون في المجتمعات الإسلامية وما يحصل أو ما قد يحصل -لا قدر الله- من شرور، طبق ما يجري على هذا الكلام الرزين من السلف الذين فهموا كلام الله -عز وجل- وفهموا سنة نبينا -صلى الله عليه وسلم-.

 

أسأل الله -عز وجل- بمنه وكرمه أن ينجي بلاد المسلمين من كل بلاء وفتنة، وأن يولي على المسلمين خيارهم.

 

 

المرفقات

السلف في فتن المسلمين المعاصرة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات