كلامك عنوانك

توفيق الصائغ

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: أخلاق وحقوق
عناصر الخطبة
1/أزمة الأمة في الأخلاق 2/مشكلة الانفصام بين الدين والأخلاق والرد على ذلك 3/تعزيز النبي -صلى الله عليه وسلم- للأخلاق الحسنة 4/خطر فقدان الأخلاق الحسنة في حياة الأمة 5/أهمية الأخلاق الحسنة وثمراتها 6/تطبيق النبي -صلى الله عليه وسلم- للأخلاق الحسنة وإرسائه لقواعدها 7/تخلق الأنبياء والملائكة والجن الصالحين بالأخلاق الحسنة 8/حث القرآن على بلوغ مرتبة الكمال في الأخلاق الحسنة 9/خطر اللسان وشواهد ذلك 10/الحرص على حفظ اللسان ووسائل ذلك 11/ألفاظ سيئة يجب الحذر منها 12/ضابط المعروف المعتبر شرعا

اقتباس

إن حسن الكلام، وطيب الكلام، واحدة من العبادات التي يتقرب بها العبد إلى الله: "الكلمة الطيبة صدقة". إن الكلمة الطيبة الحسنة، دليل وعلامة على إيمان صاحبها، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت". إن الكلمة الحسنة التي تخرج من رجل حسن؛ لأن...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله.

(تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) [الفرقان:61-62].

أحمده سبحانه وأشكره، وأستعينه وأستغفره.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه ومختاره من خلقه وخليله، أشهد أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وأزال الله به الغمة، تركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلوات الله وتسليماته وتبريكاته عليه، وعلى أهل بيته.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].

 

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].

 

إخواني: كان إبراهيم أمة، وكان محمد-صلى الله عليه وسلم- أمة.

 

والرجال المباركون، يجعل الله -عز وجل- فيهم من الطاقات، والقدرات والبركات، ما لو تفتتت إلى رجال آخرين لكان في العدة عشرات، أو مئات، أو ربما بالآلاف.

 

هذه المقدمة أريد بها: أن أثبت أن في الأمة رجالا يحملون فكرا نيرا، ويحملون مشاريع هادفة، يعملون في هذه المشاريع، ليعود الأجر مصبوبا عليهم، فيكون عدة الواحد منهم لو فتت إلى آلاف الرجال أو مئاتها.

 

بينما أمتنا تعاني من أزمة ضمن حزمة أزماتها، وسلسلة مضايقها، وهي أزمة الأخلاق.

 

انبرى البعض لمشروع يطوف بين المملكة والخليج، ويتعدى ذلك إلى الإقليم، ليثير حراكا شبابيا، من أجل تعزيز القيم والأخلاق.

 

إن أحد أكبر مشكلاتنا في الشرق: أن ثمة انفصام بين الدين عند البعض وبين الأخلاق.

 

ولم تكن الأخلاق شيئا منفصلا عن الدين أبداً، وإنما هي شيء من أس الدين، ولبه وأساسه، وهل بعث النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إلا ليتمم مكارم الأخلاق؟!

 

إنه صلى الله عليه وآله وسلم الذي يعزز هذه القيمة، ويرفعها؛ لتتساوى مع سائر العبادات البدنية، ربما تفوقها فضلا وأجرا وذخرا عند الله -عز وجل-: "إن المؤمن ليبلغ بحسن الخلق، درجة الصائم القائم".

 

يحدث النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أحظى الناس، وأكثرهم حظا، وأوفرهم بمعيته، وبالقرب منه، فيشير إلى أهل الأخلاق العالية، وأهل القيم النبيلة: "إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ".

 

إذاً، من أين أتى هذا الانفصام، وهذا التأخرفي القيم والأخلاق الذي تشتكي منه الأمة أفرادا وجماعات في سائر مناحيها؟

 

والأمة إذا ما أتيت من قبل أخلاقها وقيمها ومبادئها، فكبر عليها أربع لوفاتها.

 

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن هما ذهبت أخلاقهم ذهبوا

 

إننا نستطيع أن نستعيض النقص العلمي والتقني بالاستيراد، لكن نقص القيم، والفقر في الأخلاق والمثل، لا نستطيع أبداً أن نستوردها؛ لأن استيراد القيم والأخلاق، له ضريبة مضاعفة، تعود على مجتمعاتنا، وعلى قيمنا، وعلى سلوكأفرادنا.

 

"كلامك عنوانك" نعم كلامك هو عنوانك، الذي ينبئ عن شخصيتك، وهل المرء إلا بأصغريه: لسانه وفؤاده؟!.

 

لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤادُه *** فلم يبقَ إلا صورةُ اللحم والدم

 

إن حسن الكلام، وطيب الكلام، واحدة من العبادات التي يتقرب بها العبد إلى الله: "الكلمة الطيبة صدقة".

 

إن الكلمة الطيبة الحسنة، دليل وعلامة على إيمان صاحبها، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت".

 

إن الكلمة الحسنة التي تخرج من رجل حسن؛ لأن كلامك هو عنوانك، دليل على سلامة الإسلام في نفسك، واستقامة الدين في باطنك: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده".

 

الكلام الطيب لا يبقى حيز السفل، لا يبقى في الأرض، إنما يرتقي إلى عاليات العاليات، وربما وصل إلى سدرة المنتهى، مصداق قول الله -تعالى-: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)[فاطر:10].

 

أما النابي من الأقوال، والفاحش من العبارات، فإنما يبقى سفلي أرضي مع السفل، الانحطاط والانحدار في الأخلاق!.

 

إن الكلام الطيب، سبب لدخول الجنة، ومفتاح لولوج الجنة، ثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا" قِيلَ : لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "لِمَنْ أَطَابَ الْكَلامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَبَاتَ قَائِمًا وَالنَّاسُ نِيَامٌ".

 

وجاءه رجل، فقال: "يا رسول الله أخبرني بشيء يوجب الجنة؟" قال: "طِيبُ الْكَلامِ، وَبَذْلُ السَّلامِ، وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ".

 

أروع الأمثلة في القرآن مضروبة، للكلمة الطيبة التي ينبغي أن تكون عنوانا علي وعنوانا عليك: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا)[إبراهيم: 24-25].

 

وفي الخبر: "إن من البيان لسحرا".

 

إن الكلام الطيب يحيل وجه الحياة، حتى من حسن إلى أحسن، ويحيل الأمور إلى غير صورها، ليفتح مغاليق القلوب، تقول:

 

هذا مُجاجُ النحلِ تمدحُهُ *** وإن تعِبْ قلت ذا قَيْء الزنابير

مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما *** سحر البيان يُري الظلماء كالنور

 

صلاح الكلام صلاح لسائر الأمور، وإذا صلح لسان العبد صلحت سائر جوارحه.

 

وهل اللسان إلا ناطق لما تمليه عليه الجوارح، وبما يمليه عليه الجنان؟!

 

وكما في الأثر: "إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ، قَالَ سَائِرُ الْجَسَدِ لِلِّسَانِ: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا، إِنَّمَا نَحْنُ بِكَ، إِذَا اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا".

 

حسن الكلام، طيب الكلام، هو النجاة يوم القيامة؛ عن عقبة بن عامر: أنه سأل النبي -عليه الصلاة والسلام- فقال: "ما النجاة؟" قال: "أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابكِ على خطيئتك".

 

ما إن ندمت على السكوت مرة *** ولقد ندمت على الكلام مرارا

 

يموت الفتى من عثرة بلسانه *** وليس يموت المرء من عثرة الرجلِ

 

كان هذا تنظيرا، والتطبيق أن ننتقل الآن سويا في رحلة سماوية، في رحلة نخترق فيها حجب التاريخ، لنوافي النبي -عليه الصلاة والسلام-، كيف كان تطبيقه صلى الله عليه وآله وسلم؟

 

أسألكم -يا أيها القراء-: قرأتم صحيح البخاري ومسلم والسنن والمسانيد، والموطآت والزوائد؟! هل رأيت في عبارة النبي -صلى الله عليه وسلم- عبارة واحدة تخدش الحياء؟!

 

هل رأيتم في كلام النبي -عليه الصلاة والسلام- حسنا؟

 

ليس في كلامه حسن، ولكن كلامه الأحسن دائما صلى الله عليه وسلم.

 

يتخير أطايب الكلام كما ينتقي أحدنا أطايب الطعام، وأطايب الثمر، صلى الله وسلم وبارك على صاحب البيان.

 

اسمع إلى هذه التجربة،ليست وليدة يوم، وليست وليدة لحظة؛ لأن بعضنا إذا مدح بالغ في المدح، فلم يعد يرى سيئات الممدوح، وإذا ذم أسقط الآخر، فلم يعد يرى له حسنة من الحسنات.

 

وعينُ الرِّضا عن كلَّ عيبٍ كليلةٌ*** وَلَكِنَّ عَينَ السُّخْطِ تُبْدي المَسَاوِيَا

 

أنس لا يحدثنا عن تجربة سوهلة، أو لحظة، أو سفرة، أو سنة، إنما يتحدث عن تجربة عشر سنين، عقد من الزمان، فيقول صلى الله عليه وسلم: "خدمت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عشر سنين، فما قال لي يوما قط: أف" صلى الله عليه وسلم.

 

عطروا أفواهكم، متعوا أسماعكم بالصلاة والتسليم عليه.

 

عشر سنوات يا أنس لم تسمع هذه الكلمة المكونة من حرفين، خارجة من في رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟!

 

أما إنه الكمال، الكمال البشري الذي دونه كل كمال.

 

أنس في الحديث الآخر، يقول: "لقد خدمت النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين، والله ما مست يدي حريرا، ولا ديباجا قط، كان ألين من كف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والله ما قال لي لشيء فعلته: لمَ فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله، لمَلم تفعله؟".

 

لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- آية في حسن الكلام، وكان كلامه عنوانا عليه، دخل المدينة فكان أول ما وقر في سمع عبدالله بن سلام، وهو يدين بدين اليهود يوم ذاك، أول ما وقر في سمعه أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام" قال: فعلمت أنه نبي.

 

"كلامك عنوانك".

 

لقد أرسى النبي -صلى الله عليه وسلم- قواعد الحياة والممات والحياة الأخرى في هذه الكلمات الرائعات: "لم يكن صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحشا، ولا بذيئا ولا صخابا في الأسواق، صلى الله عليه وسلم".

 

أقبل عليه الأقرع بن حابس من قبل نجد، وهو رجل معروف بشدته وغلظته، فهش في وجهه النبي -صلى الله عليه وسلم- وبش، وقال كلاما طيبا، فلما خرج، قالت عائشة: "يا رسول الله هششت في وجهه، وبششت، وقلت وقلت؟ يا رسول الله أليس هو الذي قلت فيه بئس أخو العشيرة هو؟ فقال: "مه يَا عَائِشَةُ مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشًا، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ".

 

هكذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلم أصحابه، طيب الكلام، يعلم أصحابه انتقاء العبارات، يعلم أصحابه أن من العبارات ما يفتح مغاليق القلوب، وما يصنع صنيع السحر.

 

بالله لفظُك هذا سالَ من عسلٍ *** أم قد صببتَ على أفواهِنا العسلا؟

 

وإذا انتقلت إلى أنبياء الله السابقين، فستجد ذلك أيضا، هذا موسى وهارون يبعثهم الله -سبحانه وتعالى- إلى فرعون، أقسى الناس قلبا، ومع ذلك يزودهما بوصية هي من أجمع الوصايا: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)[طه: 44].

 

إذا كان كلامك عنوانك، فإنه لا ينبغي أن تتحدث بما يحلو للمقابل وللآخر، وإنما تتحدث ما يحلولك؛ لأنما تتكلم به من كلام يدل عليك.

 

وعيسى النبي الكريم -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- دخل عليه رجل، فأغلظ عليه القول، فرد عليه السلام في أدب، ثم قال عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: "كل ينفق من بضاعته".

 

إبراهيم حين جاءه الأضياف، قالوا: (سَلَامًا) فحياهم بتحية كانت أبلغ من تحيتهم، تحية لا تنقطع، وإنما ممتدة عامة شاملة، فقال: (سَلَامٌ)[الذاريات:25].

 

الكلام الطيب، هو هدي الملائكة المكرمين، الذي لا يعرفون فحشا من القول، إنما حديثهم التسبيح والتهليل والتكبير.

 

خطابهم للمولى -عز وجل- خطاب التعظيم، والتفخيم والإجلال: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ)[غافر: 7].

 

إذاً حديثهم أجمل الحديث، دائر بين التسبيح والتهليل، والتحميد والتكبير، ودائر حتى بين الاستغفار لنا، والاستشفاع عند المولى لنا.

 

حتى الجن تتأدب في الخطاب، حين تكون الجن من الجن المسلمين، الجن قالوا: (وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا)[الجن: 10].

 

إنه جمال الأدب وجلاله، حين لا تنسب الشر إلى الله -عز وجل-، مع أن المقادير كلها من عند الله إلا أنها تأدبت، فنسبت الخير صراحة إلى الله، ولم تنسب إليه الشر، تأدبا.

 

هذا حال الجن، إذا صلحت، أما إذا شطت وشطنت، فيكون حالها كحال إبليس الذي قال أسوأ منطق في حضرة المولى -جل وعز-: (أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ)[ص:76].

 

قال-ويا لجرأة ما قال-: (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا)[الإسراء:61].

 

لكن كلامه كان عنوانا عليه، وينبغي أن يكون كلامك عنوانك عليك.

 

إذا، جاء القرآن بالتهذيب، وجاءت الوصايا الجامعة: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[الإسراء:53].

 

لا يريد القرآن لك رتبة الحُسن، ولكن يريد لك رتبة الأحسن.

 

كما أن القرآن يهدي للتي هي أقوم: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ)[الإسراء:53].

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا)[الأحزاب:70].

 

(وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً)[البقرة:83].

 

(قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى)[البقرة: 263].

 

(فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا)[الإسراء:28].

 

وجاءت الوصايا النبوية تطعم هذه الوصايا القرآنية، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أمسك عليك هذا" قال الصحابة: يا رسول الله وإنا لَمُؤَاخَذُونَ بما نتكلم به؟ قال صلى الله عليه وسلم: "وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟!".

 

أكثر ما يوقع بالناس، ويوردهم الموارد، وينزل بهم إلى المهالك؛ حصائد الألسن؛ كما قال الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "إنه ليسير على بعض النفوس أن تتحرز عن الحرام، تتحرز عن الزنا الصريح، وعن الربا، وعن الرشوة، ثم تقع في الكبائر، حين تغتاب مسلما، أو تنتقص آخرا، أو تنم في مسلم آخر".

 

"امسك عليك هذا".

 

ويقول عليه الصلاة والسلام : "من يضمن لي ما بين فكيه وبين رجليه؛ أضمن له الجنة".

 

إن كلمة واحدة كفيلة أن تفتح لك أبواب الجنة الثمانية، وكلمة واحدة -والعياذ بالله- كفيلة أن تهوي بالإنسان في النار سبعين خريفا، يلقي بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا تهوي به في النار أبعد ما بين المشرقين، أو سبعين خريفا، كما قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.

 

وهل أورد المنافقين المهالك إلا كلمات أطلقوها؟!

 

في غزوة غزاها النبي -عليه الصلاة والسلام- قالوا فيما بينهم، فيما يتسامر به المتسامرون -بزعمهم- في حديث الركب –بزعمهم- قالوا: "ما رأينا -يشيرون إلى الصحابة- مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء".

 

كما يلمز بعض أفراد المجتمع اليوم بعض المتدينين، وهذا خط أحمر ليس؛ لأن المتدينين لهم قداسة، ليس لأن لهم فيتو أو حصانة، أو أنهم أجساد نورانية، لا ينبغي الاقتراب منها، لا، إنما لأن الكلام فيهم لا يمكن فصله عن الكلام عن ذاتهم، وعن مهمتهم، فيكون من هذا القبيل الخطر، وإلا فإذا تكلمت في إنسان بشخصه، فتلك قضية أخرى، أما بوصفه، فتلك قضية القضايا: "ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء".

 

والمشكلة أن هذه العبارة ذاتها تتكرر اليوم، فمما يتسامر به الناس: "لا تأخذ سيارة بعد مطوع!" ما هي القضية مع المطوع أو المتدين؟

 

إن كان عند قضية مع زيد تحديدا، أو مع عمرو تحديدا، فلتكن قضيتك محصورة!أما أن تلبسها لبوس المتدين، أو المطوع، أو الحاكم، أو المفتي، فتلك قضية القضايا: "ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولأجبن عند اللقاء".

 

كلمة دوت وهم في طريقهم يسيرون، فأنزل الله فيها قرآنا: (لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ)[التوبة: 66] -عياذا بالله-.

 

ينبغي للإنسان أن يحبس لسانه.

 

وكما قال ابن مسعود –رضي الله عنه-: "يا لسان قل خيرا تغنم، أو امسك عن شر تسلم".

 

والله الذي لا إله إلا هو ليس شيئا أحوج بطول حبس من اللسان.

 

إذا أردت أن يكون كلامك عنوانا عليك، فاستعن بالله، فهو المعين جل جلاله، لذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستعين على حسن المنطق، ويستعيذ من شر اللسان بالدعاء.

 

ومن مأثور الدعاء المحفوظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي، ومن شر بصري، ومن شر لساني".

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والمواعظ والذكر الحكيم.

 

أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه قد أفلح المستغفرون.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد له على إنعامه، والشكر له على تفضله وامتنانه، ولا إله إلا الله تعظيما لشانه، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه محمد وعلى آله وصحابته وإخوانه.

 

أما بعد:

 

أسلفت لكم أن القرآن يهدي للتي هي أقوم، وأن الله -عز وجل- حين يربينا بالقرآن، ويؤدبنا النبي العدنان بالسنة -صلى الله عليه وآله وسلم-، فإنما يريد لنا الرتبة العلا الرفيعة.

 

لذلك ينبغي أن نطيب الكلام، وأن ننتقي أطايب الكلام، كما ينتقى أطايب الثمر.

 

كثيرات هي المفردات الشائعة في مجتمعاتنا التي ينبغي أن نعلن البراءة منها، من اليوم وصاعدا.

 

إن السباب والشتائم، أصبحت أداة مناداة اليوم في بعض المجتمعات، فلا يناديه إلا باللمز، ولا ينبهه إلا بالطعن، وهذا لا ينبغي للمسلم.

 

حتى في اختيار العبارات، ينبغي أن يختار الألطف من العبارات، والأحسن، وهذا أدب قرآني، قال الله -تعالى-: (لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا)[البقرة:104].

 

العبارتان قد تؤدي نفس المؤدى،إلا أن إحدى العبارتين؛ تحمل مع المعنى الصحيح، ما يتوهم منه معنى فاسدا، فنهانا القرآن عن إحدى العبارتين، وأرشدنا إلى العبارة التي لا تؤدي إلا إلى معنى صحيحا سليما، ومرادا شرعيا، لا يمكن أن يجد الشيطان منه ثغرة ليلج، فيفسد بين الناس: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ)[الإسراء: 53].

 

أحد أكبر المداخل الشيطانية التي يبحث من خلالها للدخول في صف الجماعة المؤمنة، لتمزيق وحدتها، ولتشتيتها وتفريقها، هو: مخرجات اللسان، لذلك ينبغي أن نلاحظ ذلك في كل مخرجاتنا.

 

ينبغي أن يلاحظ ذلك الإعلاميون والأدباء، والصحفيون والكتاب، في مخرجاتهم وأدبياتهم؛ لأن لهذه الأدبيات أثرت في تعامل الناس، ثقافة تشيع بين الناس بسبب أنهم استمرؤوها في الأول، ثم أصبحت بعد ذلك في عداد المعروف.

 

وهذه من المعاريف المنكرة شرعا؛ لأن المعروف المعتبر شرعا، هو الذي تتعارف عليه النفوس، ويقره الوحي: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ).

 

وشريطة ذلك: (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)[الأعراف:199].

 

أسأل الله -عز وجل- أن يؤدبني ويؤدبكم بسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وأن يتمم مكارم أخلاقنا.

 

اللهم إنا نسألك أن تهدينا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وأن تصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.

 

 

 

المرفقات

عنوانك

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات