عناصر الخطبة
1/ مفهوم كظم الغيظ 2/ فوائده وثمراته 3/ السبيل لتحصيله 4/ صور له من السيرة النبوية وتاريخ المسلمين 5/ ما لا يُحمد من كظم الغيظ.اقتباس
وأما الغيظ فإنه أول بداية الغضب، فمن اغتاظ فكتم غيظه لم يغضب، وإن أخرج غيظه غضب، قال القرطبي -رحمه الله- في التفسير: "الغيظ هو أصل الغضب، فإذا لم يكظم غيظه في قلبه خرج هذا الغيظ إلى جوارحه فتولد منه الغضب".
الخطبة الأولى:
أما بعد: فيا عباد الله: لغتنا العربية المحبوبة الحبيبة إذا ورد فيها ثلاثة أحرف: الكاف، والظاء، والميم؛ فإن هذه الكلمة تدل على الإمساك بالشيء، إذا بنيت هذه الأحرف تولد منها (الكَظْم)، ونحن نقصد من الكظم ما يضاف إليه، وهو كظم الغيظ، فالكظم هو الإمساك بالشيء، كظمت الشيء: أمسكت به.
وأما الغيظ فإنه أول بداية الغضب، فمن اغتاظ فكتم غيظه لم يغضب، وإن أخرج غيظه غضب، قال القرطبي -رحمه الله- في التفسير: "الغيظ هو أصل الغضب، فإذا لم يكظم غيظه في قلبه خرج هذا الغيظ إلى جوارحه فتولد منه الغضب".
وكظم الغيظ -عباد الله- له فوائد كثيرة وثمرات متعددة، ونحن البشر بحاجة إلى كظم غيظنا، ولا سيما في هذا الزمن الذي كثر فيه اختلاط الناس بالناس.
فمن فوائد كظم الغيظ أن العبد ينال صفة المتقين، وينال جنات النعيم، قال -تعالى-: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)، ما صفاتهم؟ (الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران:134].
ومن فوائد كظم الغيظ أن العبد ينال به خيرا عظيما؛ لأنه يتصف بصفة الصبر، قال -عز وجل-: (وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ) [النحل:126].
ومن فوائد كظم الغيظ أن عورة من كظم غيظه تُستر، جاء عند الطبراني بإسناد حسنه الألباني -رحمه الله- من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: "ومن كف غضبه ستر الله عورته".
ومن فوائد كظم الغيظ أن العبد في ذلك اليوم المخوف الذي يحزن فيه كثير من الناس قد ملأ الله -عز وجل- قلبه رجاء لما عند الله من النعيم،كما جاء في حديث ابن عمر عند الطبراني المذكور آنفا، قال -عليه الصلاة والسلام-: "ومن كظم غيظه ولو شاء أن ينفذه لأنفذه ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة".
ومن فوائد كظم الغيظ أن الجرعة الواحدة من كظم الغيظ التي يمسكها العبد في قلبه ليس لها حد في الثواب، جاء عند ابن ماجة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من جرعة أعظم عند الله أجرا من جرعة غيظ كتمها عبد ابتغاء ثواب الله".
ومن فوائد كظم الغيظ أن العبد إذا كظم غيظه قهر شيطانه وقهر شيطان من أغاظه، عند البزار، وحسّنه ابن حجر -رحمه الله- في الفتح، عن أنس -رضي الله عنه- أنه قال: مر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأناس يصطرعون، يعني يصرع بعضهم بعضا، فقال: ما هذا؟ قيل إنهم يصطرعون وهذا فلان لا يصرعه أحد، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "ألا أدلكم على ما هو أعظم من هذا؟"، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "رجل كلمه رجل فكظم غيظه فغلب وغلب شيطانه وغلب شيطان صاحبه".
ومن فوائد كظم الغيظ أن من كظم غيظه يكون محبوبا عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك يمتلئ قلبه إيمانا، قال -صلوات ربي وسلامه عليه- من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- في المسند وحسنه ابن كثير -رحمه الله- في التفسير، قال -صلى الله عليه وسلم-: "وما من جرعة أحب إلي من جرعة غيظ كظمها عبد، ما كظمها إلا ابتغاء وجه الله إلا ملأ الله قلبه إيمانا".
ومن فوائد كظم الغيظ أن من كظم غيظه ينال جائزة إذا بعث يوم القيامة، وذلك بأن تعرض عليه الحور العين فيختار منها ما يشاء، عند الترمذي قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه بعثه الله -عز وجل- على رؤوس الخلائق يختار من الحور العين ما شاء".
إذاً؛ هذه ثمرات جليلة لكظم الغيظ، فلو قال قائل: كيف السبيل لكظم غيظنا؟ ما هو السبيل إلى نيل هذه الثمرات؟ فيقال: العلاج يكمن في أمور:
أولا: ليعلم من لم يكظم غيظه، أن ما ذكر من فوائد قد فاتته وفاته خير عظيم.
ثانيا: أن يتذكر أن كظم الغيظ الذي هو بداية الغضب هو وصية النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولذا عند البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: لما أتاه رجل فقال: يا رسول الله، أوصني، قال: "لا تغضب"، فكررها مرارا، فقال: "لا تغضب"، زِيِد في غير البخاري وحسنها الألباني -رحمه الله-: "لا غير، ولك الجنة".
ثالثا: أن يغير العبد من هيئته الجسمية والبدنية إذا اغتاظ، يعني إن كان قائما فيجلس، إن كان قاعدا فليضطجع، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في المسند، من حديث أبي ذر -رضي الله عنه-: "إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإذا ذهب عنه الغضب، وإلا فليضطجع".
رابعا: أن يتوضأ العبد إذا بدأ معه الغيظ، النبي -صلى الله عليه وسلم- قال، كما في المسند وسنن أبي داود: "إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ".
خامسا: أنه إذا غضب يقول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، في الصحيحين من حديث سليمان بن صرد -رضي الله عنه- قال: استب رجلان عند النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى إن أحدهم احمر وجهه وانتفخت أوداجه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "والله إني لأعلم كلمة لو قالها هذا لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم".
سادسا: أن يتذكر العبد أن هذا هو طريق وسبيل النبي -صلى الله عليه وسلم-، فعلينا أن نستن به -صلوات ربي وسلامه عليه-، لأنه استن بمن قبله، ولذلك يعقوب -عليه السلام-: (ابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) [يوسف:84]، أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالاقتداء به في آخر السورة: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي) [يوسف:111]، والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أصابه أذىً من أحد تسلى بقصص الأنبياء قبله، في الصحيحين أن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: لما قسم النبي -صلى الله عليه وسلم- غنائم حنين على أشراف العرب، لكي يؤلفهم، قال رجل: والله هذه قسمة ما عُدِل فيها، فغضب النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: "رحم الله موسى! لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر".
ما هي هذه النماذج الساطعة العظيمة في سيرته -عليه الصلاة والسلام- في كظم الغيظ؟ يقول أنس -رضي الله عنه- كما في الصحيحين: "كنت أمشي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم وعليه بُرْدٌ نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه جبذة شديدة حتى رأيت صفحة عنق النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد أثرت بها حاشية الرداء، فقال هذا الأعرابي: "مر لي من مال الله يا محمد، فالتفت النبي -صلى الله عليه وسلم- فضحك وأمر له بعطاء".
لما اشتد عليه ما اشتد من أذى قومه، كما جاء في الصحيحين من حديث عائشة -رضي الله عنها-، أتاه جبريل فقال: يا محمد، هذا ملَك الجبال أرسله الله -عز وجل- إليك لتأمره في قومك، فناداه ملك الجبال وقال: يا محمد، إن الله -عز وجل- قد سمع قول قومك لك وما ردوا به عليك، فإن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت. والأخشبان: هما الجبال المحيطان بمكة، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "لا، أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا".
الخطبة الثانية:
أما بعد: فيا عباد الله، من علاج الغيظ، وهو العلاج الأخير المذكور في هذه الخطبة، أن يقتدي المسلم بالسلف، رحمهم الله، فإن السلف اقتدوا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما اقتدى صلوات ربي وسلامه عليه بالأنبياء قبله، فعلينا أن نقتفي أثر هؤلاء، يقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "من كان تقيا لم يفش غيظه، ولولا القيامة لكان ما ترون"، يقول -رضي الله عنه-: أدع أشياء ليس عجزا، ولكن لأن هناك يوما عظيما شديد العذاب.
له قصة ذكرها البخاري -رحمه الله- في صحيحه، وهي أن عيينة بن حصن أتى إلى ابن أخيه الحر بن قيس، وهذا الحر كان يدنيه عمر -رضي الله عنه- من مجلسه لأنه -رضي الله عنه- كان يدني العلماء- فقال: يا ابن أخي، إن لك وجها عند هذا الأمير، ألا تأذن لي عنده؟ قال بلى، فأذن له، فدخل عيينة على عمر فقال: هيه يا ابن الخطاب! لا تعطينا الجزل، ولا تحكم فيها بالعدل. فغضب عمر -رضي الله عنه-، فقال الحر بن قيس، وهو من القراء، وانظروا إلى فائدة وثمرة احتكاك الأمراء بالعلماء، قال: يا أمير المؤمنين، إن الله -عز وجل- أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- فقال: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف:199]، وهذا من الجاهلين. فقال الحر: والله ما جاوزها عمر حين تلوتها، وكان وقافا عند كتاب الله -رضي الله عنه-.
أنموذج آخر من السلف: أبو ذر -رضي الله عنه- كان له عبد، فقام هذا العبد فكسر رجل شاة، فقال أبو ذر -رضي الله عنه-: من كسرها؟ قال أنا، عمدا، لكي أغيظك فتضربني فتأثم، وهو عبد مملوك، فقال أبو ذر -رضي الله عنه-: "والله لأغيظن من سلطك عليّ! أنت حر لله". فأعتقه -رضي الله عنه-.
نموذج آخر: عدي بن حاتم -رضي الله عنه-، أتاه رجل فوقع فيه بالسب والشتم، فلما توقف، قال: "يا هذا، إن كان عندك شيء فقل به قبل أن يأتي شباب الحي؛ فإنهم إن أتوا وأنت تسب سيدهم لم يرضوا بذلك".
نموذج آخر ذكره ابن كثير -رحمه الله- في البداية في سيرة عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-:
أتاه رجل فكلمه واشتد عليه كلامه، فهمّ عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- أن يوقع به، ثم قال: "أردتَّ أن يستفزني الشيطان بعز السلطان فأنال منك اليوم ما تناله مني غدا يوم القيامة؟ انصرف، لا حاجة لنا في مقاولتك".
ونحن بحاجة شديدة -عباد الله- إلى كظم غيظنا في مثل هذا العصر، ومن كظم غيظه فإنه يحتاج إلى مجاهد شديدة، ولكن من جاهد نفسه مجاهدة شديدة فإن كظم الغيظ يعتبر له عادة كما نقلنا من هذه الآثار ومن هذه القصص، ثم لو أتاه ما يهيج غضبه استطاع بيسر دون عناء ومشقة أن يكظمه، وإذا كظمه من غير ما يكون هناك تعب انتقل إلى صفة الحلم.
ولكن، لتعلموا أن كظم الغيظ لا يكون محمودا إلا إذا كان له قدرة، أما إذا كان الرجل عاجزا، ولو كانت عنده قدرة لاستشفى من غيظه، فهذا ليس بمحمود، إنما المحمود من كانت له القدرة، أما من ترك التشفي عجزا منه، فاسمع إلى ما قاله ابن قدامة المقدسي -رحمه الله- في مختصر منهاج القاصدين، قال -رحمه الله-: "الكاظم إذا كظم غيظه لعجز عن التشفي فإن هذا الغيظ يرجع إلى باطنه فيحتقن حتى يصبح حقدا، وعلامة ذلك دوام بغضه للشخص، واستثقاله، والنفور منه".
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم