كَسْب النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة

الشيخ عبدالعزيز محمد مبارك أوتكوميت

2023-03-03 - 1444/08/11 2023-03-29 - 1444/09/07
عناصر الخطبة
1/عمل النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة 2/اشتغال النبي صلى الله عليه وسلم بالتجارة 3/الشراكة التجارية والمضاربة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم 4/آداب البيع والشراء.

اقتباس

تدريب أبنائنا على التجارة، وسائر المهن الشريفة، وتقديمهم لمن يُعلّمهم مهنة، واستغلال أوقات فراغهم، والفائدة كما نقول عن المهنة في أمثالنا: "إذا لم تُغْنِ تَستُر"، والعجيب أن تجد من الآباء من يرفض أن يُعلِّم مهنته لأبنائه، وتجد من الأبناء من يرفضون تعلم المهن بدعوى الدراسة....

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسولُ الله.

 

نحمدك ربنا على ما أنعمت به علينا من نعمك العظيمة، وآلائك الجسيمة؛ حيث أرسلت إلينا أفضلَ رُسلك، وأنزلت علينا خيرَ كُتبك، وشَرعت لنا أفضلَ شرائع دينك، فاللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرِّضا.

 

أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون؛ تحدثنا في الخطبة الماضية عن رعي النبي -صلى الله عليه وسلم- للغنم، واستفدنا من الدروس والعِبَر أن رعي الغنم يُعلّمنا حُسْن الرعاية، والإحساس بالمسؤولية في تربية أبنائنا، وكل من تحت مسؤوليتنا، ونتعلم جلب كل ما ينفع الرعية، ودفع كل ما يضرُّها، وخلصنا إلى ضرورة عدم احتقار أي عمل إذا كان شريفًا ومشروعًا، نستغني به عن الناس، ونكف به مسألتنا.

 

وإذا كنا قد تحدثنا عن عمل النبي -صلى الله عليه وسلم- في رعي الغنم بالإجارة، فإن حديثنا اليوم عن عمل النبي -صلى الله عليه وسلم- في التجارة قبل البعثة، فكيف كانت تجارته -صلى الله عليه وسلم-؟ وما الدروس والعبر التي نستفيدها؟

 

عباد الله؛ نستطيع حصر اهتمام النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتجارة قبل البعثة في ثلاثة أحداث أساسية:

 

أولاً: خروجه مع عمِّه إلى الشام: سبق أن تحدثنا عن أول رحلة للنبي -صلى الله عليه وسلم- خارج الجزيرة -لما بلغ اثنتي عشرة سنة-، وكانت إلى الشام صحبة عمِّه أبي طالب الذي خرج تاجرًا إلى الشام، فلما تهيَّأ للرحيل، وأجمع المسير مال إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ورغب في المسير معه، فرقَّ له أبو طالب وقال: "والله لأخرجن به معي، ولا يفارقني، ولا أفارقه أبدًا".

 

ولكن ما علاقة هذا الخروج بالتجارة والنبي -صلى الله عليه وسلم- صغير السن؟ العلاقة تكمن في استئناس النبي -صلى الله عليه وسلم- بأعمال التجارة، وملاحظة المعاملات التجارية كيف تتمُّ، فهذا هو الهدف الذي يهمنا هنا- وإن لم يكتب للنبي -صلى الله عليه وسلم- أن يصل إلى الشام في هذه الرحلة - لنصيحة الراهب بَحيرى لأبي طالب بالرجوع بابن أخيه؛ لما رآه من علامات النبوة فيه.

 

لكن نستفيد منه تدريب أبنائنا على التجارة، وسائر المهن الشريفة، وجلبهم إلى جانب آبائهم للتعلم، أو تقديمهم لمن يُعلّمهم مهنة، واستغلال أوقات فراغهم، وكذا العطلة الصيفية لذلك، والفائدة كما نقول عن المهنة في أمثالنا: "إذا لم تُغْنِ تَستُر"، والعجيب أن تجد من الآباء من يرفض أن يُعلِّم مهنته لأبنائه، وتجد من الأبناء من يرفضون تعلم المهن بدعوى الدراسة، رغم أنه لا تعارض بين الأمرين.

 

ثانيًا: شراكته مع السائب بن أبي السائب في التجارة: وقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يتَّجر مع السائب بن أبي السائب قبل البعثة، وكان خير شريك له، فجاء يوم فتح مكة، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "مرحبًا بأخي وشريكي"(رواه أحمد: 15505)، ونفهم من هذا:

 

جواز أخذ الشريك في التجارة: وهو من باب التعاون على البر والتقوى، فيمكن أن يساهم أحدهم برأس المال، والآخر بعمله، وممكن أن يشتركا معًا في رأس المال وفي العمل، فالشركة موجودة عند العرب، ولما جاء الإسلام أقرَّها.

 

والثاني أن ينصح الشريك لشريكه ولا يخونه: قال السائب: أتيتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- أي: يوم الفتح- فجعلوا يثنون عليَّ ويذكروني، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أنا أعلمُكم"- يعني: به- قلت: صدقت بأبي أنت وأمي، كنت شريكي فنعم الشريك، كنت لا تداري، ولا تماري. (صحيح أبي داود برقم: 4836).

 

وهذا مدحٌ من السائب لأخلاقه -صلى الله عليه وسلم-: كنت لا تداري؛ أي: لا تخالف ولا تمانع في معاملاتك معي، ولا تماري؛ أي: لا تجادل، ولا تماطل، وهذا من حسن الخلق، وحسن معاملة الناس، وفيه: أن من صفات التاجر الحميدة: حسن المعاملة، وعدم المجادلة، والمخالفة مع الشركاء.

 

وهكذا كان السلف، فهذا أبو حنيفة يضرب لنا أروع الأمثلة في الصدق في التجارة وعدم الغش، ذكروا عنه -رحمه الله- أنه كان يبيع الحرير، وكان عنده ثوب فيه عيب، فركنه في جانب، فجاء خادمه وغلامه في غيبته وباع هذا الثوب بقيمته -كما لو كان سليمًا-، فلما جاء الإمام إلى الدكان، فلم يجد ذاك الثوب سأل عنه: أين هو؟ قال: بعته، قال: بكم؟ قال: بكذا، بسعره الأصلي، قال: هل أطلعْتَ المشتري على العيب الذي فيه؟ قال: لا، فتصدَّق بقيمة الثوب كله!

 

ما الذي حمله على ذلك؟ إنه الورع والصدق، وكان يمكن أن يتصدق بقيمة العيب الذي في الثوب؛ ولكن حمله الورع وتقوى الله على أن يتصدَّق بكامل قيمة الثوب.

 

فاللهم اجعلنا من التُّجار الصادقين الأمناء، وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى وآله وصحبه، ومن اقتفى.

 

أما بعد: رأينا في الخطبة الأولى استئناس النبي -صلى الله عليه وسلم- بالعمل التجاري في خروجه مع عمِّه، وفي الشراكة التجارية مع السائب بن أبي السائب، وفهمنا ضرورة التدريب على المهن من الصغر، وجواز الشركة في التجارة، وضرورة اختيار الشريك الأمين.

 

ومن أبرز تعامُلات النبي -صلى الله عليه وسلم- التجارية قبل البعثة، وهو الحدث الثالث:

ثالثًا: خروجه -صلى الله عليه وسلم- إلى الشام في تجارة خديجة:

 

قال ابن إسحاق: "وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرفٍ ومال، تستأجر الرجال في مالها وتُضاربهم إياه، بشيء تجعله لهم، وكانت قريش قومًا تجَّارًا، فلما بلغها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما بلغها، من صدق حديثه، وعظم أمانته، وكرم أخلاقه، بعثت إليه، فعرضت عليه أن يخرج في مالٍ لها إلى الشام تاجرًا، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار، مع غلام لها يقال له: ميسرة.

 

فقبله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منها، وخرج في مالها ذلك، وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام، فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ظل شجرة قريبًا من صومعة راهب من الرهبان -وكان اسم هذا الراهب نسطورا، وليس هو بَحيرى المتقدم ذكره- فاطلع الراهب إلى ميسرة، فقال له: من هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة؟ قال له ميسرة: هذا رجل من قريش من أهل الحرم، فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قطُّ إلا نبيٌّ؛ يريد: ما نزل تحتها هذه الساعة إلا نبي، ولم يرد ما نزل تحتها قط إلا نبي؛ لأن الشجرة لا تعمر في العادة هذا العمر الطويل.

 

 ونفهم من هذا الحدث ما يلي:

جواز شركة المضاربة: لأن خديجة -رضي الله عنها- كانت تُضارب الرجال في مالها، فهي امرأة لا تقوى على الخروج، وتحمل مشاقِّ السفر، ومجادلة الرجال، يوم كانت العفة والطهارة، وبما أن لها مالاً، فتحتاج إلى من يُحرِّك هذا المال، بشرط أن يكون هذا المُحَرِّك للمال أمينًا، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فتعطي هي رأس المال، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقدم الجهد والعمل مقابل جزء من الأرباح يتفق عليه مسبقًا، وهذا ما يُسمَّى بالمضاربة.

 

 • حسن أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- في التعاملات التجارية: وهذا ما نقله إليها غلامها ميسرة، فكان كالشاهد على أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم-، فنقل إليها سماحة النبي -صلى الله عليه وسلم- في البيع والشراء، وصدقه وأمانته، وهكذا كان هديه -صلى الله عليه وسلم- بعد البعثة، ومن ذلك قوله: "رحِمَ اللهُ عبدًا سمحًا إذا باعَ، سمحًا إذا اشتَرى، سمحًا إذا قَضى"(صحيح الترغيب:1742).

 

ونهى -صلى الله عليه وسلم- عن كثرة الحلف في البيع- ولو كان الحالف صادقًا- فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الحلفُ منفقةٌ للسلعةِ، ممحقةٌ للبركةِ"(رواه البخاري: 1981).

 

وعن أبي قتادة الأنصاري -رضي الله عنه- أنه سمِعَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إياكُمْ وكثرة الحلفِ في البيعِ؛ فإنه ينفق، ثمَّ يمحق"(رواه مسلم: 1607)، أما إذا كان كاذبًا، فيقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثةٌ لا يُكلِّمُهم اللهُ يومَ القيامةِ، ولا ينظُر إليهم، ولا يُزكِّيهم، ولهم عذابٌ أليمٌ"، قال: فقرأها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاث مرات، قال أبو ذَرٍّ: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ قال: "المسبل- الذي يُرخِي ثوبَه تكبُّرًا- والمنان -الذي يمن بمعروف صنعه للغير- والمنفق سلعته بالحلف الكاذب"(رواه مسلم: 106).

 

ونهى عن الاحتكار، واستغلال حاجة الناس في أوقات قلة الأقوات، وقلة العرض لرفع الثمن عليهم، واستغلال حاجتهم، فقال: "لا يحتكِرُ إلا خاطئٌ"(رواه مسلم: 1605)، ولم تكن التجارة أبدًا لتحول بينه وبين عبادته لربه- إذا حضر وقت العبادة- وهو الذي نزل عليه قوله -تعالى-: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[النور: 37، 38].

 

وبسبب هذه الأخلاق الرفيعة ربح النبي -صلى الله عليه وسلم- ربحًا مضاعفًا، وربح مرتين ببيع سلعة مكة في الشام، وبيع سلعة الشام في مكة، وحكى ميسرة لخديجة ما رآه من أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم-، مما رغَّبَها في الزواج به.

 

فاللهم اجعل نبينا قدوتنا في التجارة وغيرها، ويسِّر لنا من الأعمال ما يُرضيك وترضى به عنَّا، آمين.

 

المرفقات

كَسْب النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة.doc

كَسْب النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات