كرة القدم وكأس العالم (بلايا وصايا)

عبدالله بن عبده نعمان العواضي

2022-06-10 - 1443/11/11 2022-11-16 - 1444/04/22
عناصر الخطبة
1/مشروعية الرياضة في الإسلام. 2/مفاسد لعب كرة القدم لدى اللاعبين. 3/مفاسد لعب كرة القدم لدى المشجعين. 4/مفاسد لعب كرة القدم لدى الاعتناء الرسمي والإعلامي. 5/وصايا.

اقتباس

والمسلم الذي يعتز بالانتماء إلى دينه يعرف ما أهدافه في هذه الحياة؟ وما المرمى الصحيح الذي يسجل فيه تلك الأهداف؟ وما الميدان الذي ينبغي أن يكون فيه؟ ومع أي فريق عليه أن ينضم إليه لتسعد روحه معه، حتى إذا انتهت مباراة الحياة الدنيوية، لقي بعدها الراحة الأبدية؟

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ )[آل عمران102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً )[النساء1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب70-71].

 

أيها المسلمون: أيام قليلة تفصلنا عن حدث عالمي أُنفقتْ لأجل إقامته مليارات الدولارات، واستُنفرِت له الجهود والقوى والطاقات، وتهيأ له كثير من الناس واستعدوا، وجهزوا لأجله أموراً كثيرة وأعدوا، وسافر بعضهم عن وطنه إلى مكان المهرجان، وترك أهله وأعماله لأجل حضور هذا الشأن، وبذل الأموال الوفيرة، وتحمل الأعباء الكثيرة للوصول إلى هدفه الذي يرنو إليه، ويسعى للحصول عليه.

 

وبات عدد من الناس يعدون الليالي والأيام؛ شوقًا إلى ذلك المنتظَر المحبوب، ويودّون لو أن الزمان يطوى طيًا فتكون الأيام ساعات، والليالي لحظات، حتى تشرق شمس ذلك اليوم السعيد؛ لينثروا تحت أشعة شمسه أفراحهم، وتنال بغيتَها أشواقُهم.

هذا الحدث العالمي المنتظر هو: مونديال كأس العالم 2022م.

 

عباد الله: إن الإسلام لا يحارب الرياضة، بل يدعو إليها، ويشجع عليها، إذا قامت على الضوابط الشرعية، ولم تخرج عن الحدود الإسلامية.

 

والرياضة مما يقوِّي بدن الإنسان، الذي تقوم به التكاليف الشرعية، وكلما كان الجسد المؤمن قويًا كان أقدر على القيام بالشرائع الإسلامية على أكمل وجه؛ ولهذا قال رسول الله -عليه الصلاة والسلام -: "الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ"(رواه مسلم).

 

والقوة في هذا الحديث عامة؛ فتشمل قوة الدين وقوة البدن وغيرهما، قال القاضي عياض -رحمه الله-: "القوة هنا المحمودة يحتمل أنها في الطاعة، من شدة البدن وصلابة الأَسْر، فيكون أكثر عملاً، وأطول قيامًا، وأكثر صياماً وجهاداً وحجّاً. وقد تكون القوة هنا في المُنَّةُ وعزيمة النفس، فيكون أقدم على العدو في الجهاد وأشدَّ عزيمة في تغيير المناكر، والصبر على إيذاء العدو واحتمال المكروه والمشاق في ذات الله، أو تكون القوة بالمال والغنى فيكون أكثر نفقة في سبيل الخير، وأقل ميلاً إلى طلب الدنيا، والحرص على جمع شيء فيها. وكل هذه الوجوه ظاهرة في القوة".

وقال ابن القيم-وهو يتحدث عن فائدة الرياضة للبدن لإفراغ فضلات الغذاء التي يضر بقاؤها صحة الإنسان-: "والحركة أقوى الأسباب في منع تولدها، فإنها تسخن الأعضاء، وتسيل فضلاتها، فلا تجتمع على طول الزمان، وتعوِّد البدن الخفة والنشاط، وتجعله قابلاً للغذاء، وَتُصَلِّبُ الْمَفَاصِلَ، وَتُقَوِّي الْأَوْتَارَ وَالرِّبَاطَاتِ، وَتُؤَمِّنُ جَمِيعَ الأمراض المادية، وأكثرَ الأمراض المزاجية إذا استعمل القدر المعتدل منها في وقته، وكان باقي التدبير صوابا".

 

وليست الرياضة التي تقوِّي البدن محصورة في كرة القدم؛ بل هناك رياضات أخرى كثيرة أباحها الإسلام أو دعا إليها، ومن ذلك: المصارعة والرمي وغيرهما؛ فقد صح عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه صارع رُكَانَةَ بن يزيد -وكان من أقوى رجال قريش، وكان لا يُصرع-، فصرعه رسولُ الله -عليه الصلاة والسلام-.

أخرج البيهقي وغيره عن سعيد بن جبير: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان بالبطحاء، فأتى عليه يزيد بن ركانة، أو ركانة بن يزيد، ومعه أعنز له، فقال له: يا محمد، هل لك أن تصارعني؟ فقال: ما تَسْبِقُنِي؟ قال: شاة من غنمي، فصارعه، فصرعه، فأخذ شاة قال ركانة: هل لك في العود؟ قال: ما تَسْبِقُنِي؟ قال: أخرى، ذكر ذلك مرارا، فقال: يا محمد، والله ما وضع أحد جنبي إلى الأرض، وما أنت الذي تصرعني فأسلم، ورد عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غنمه".

 

وقال رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "عَلَيْكُمْ بِالرَّمْيِ؛ فَإِنَّهُ خَيْرٌ لَعِبِكُمْ" وفي رواية: "مِنْ خَيْرِ لَهْوِكُمْ"(رواه البزار والطبراني في الأوسط بإسناد صحيح).

 

أيها المؤمنون: غير أن الرياضة في عصرنا –خاصة رياضة كرة القدم- قد نحت منحى آخر بعيداً عن جادة الصواب، وخرجت عن حد الاعتدال؛ فصارت ملهاة للشعوب، وغواية للشباب عن الأهداف السامية التي ينبغي أن يسعوا إليها، وأصبحت الأموال التي تبذل في سبيلها أموالاً كثيرة، لو أنفقت في مصالح الناس لخففت كثيراً من ضنك العيش، وشدة الحاجة.

 

وهذا اللهو الكبير بالرياضة هو ما عمل لأجله أعداء الإنسانية وتحقق لهم؛ فقد جاء في بروتوكولات حكماء صهيون قولهم: "إننا سنغرق العالم في جنون المباريات الرياضية؛ حتى لا يصبح للأمم ولا للشعوب اشتغال بالأشياء العظيمة؛ بل ينزلون إلى مستويات هابطة، ويتعودون على الاهتمام بالأشياء الفارغة، وينسون الأهداف العظيمة في الحياة؛ وبذلك يتمكن اليهود من تدمير الجوييم يريدون:(غير اليهود)".

 

وقالوا أيضًا عن الشعوب: "سنلهيها أيضاً بأنواع شتى من الملاهي والألعاب ومزجيات للفراغ والمجامع العامة وهلم جرا. وسرعان ما سنبدأ الإعلان في الصحف داعين الناس إلى الدخول في مباريات شتى في كل أنواع المشروعات: كالفن والرياضة وما إليهما. هذه المتع الجديدة ستلهي ذهن الشعب حتماً عن المسائل التي سنختلف فيها معه، وحالما يفقد الشعب تدريجاً نعمة التفكير المستقل بنفسه سيهتف جميعاً معنا لسبب واحد: هو أننا سنكون أعضاء المجتمع الوحيدين الذين يكونون أهلاً لتقديم خطوط تفكير جديدة".

 

والمسلم الذي يعتز بالانتماء إلى دينه يعرف ما أهدافه في هذه الحياة؟ وما المرمى الصحيح الذي يسجل فيه تلك الأهداف؟ وما الميدان الذي ينبغي أن يكون فيه؟ ومع أي فريق عليه أن ينضم إليه لتسعد روحه معه، حتى إذا انتهت مباراة الحياة الدنيوية، لقي بعدها الراحة الأبدية؟

 

أيها الإخوة الكرام: إننا إذا نظرنا بعين العقل والحق والإيمان إلى رياضة كرة القدم اليوم التي تجري بين الأندية، وتجري بين المنتخبات سنجد أن فيها مفاسد كثيرة؛ مفاسد دينية ومفاسد دنيوية كثيرة.

 

وسنعرض اليوم شيئًا يسيراً من تلك المفاسد؛ حتى يعلم الشباب العالقون في شباك تلك الساحرة أيّ هوة سحيقة هم واقعون فيها! وأيّ خسارة قد جنوها على أنفسهم في جنونهم بتلك الملهية الفاتنة!

وهذه المفاسد يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام: مفاسد تتعلق باللاعبين الممارسين لرياضة كرة القدم، ومفاسد تتعلق بالمشجعين، ومفاسد تتعلق بالعناية الرسمية والإعلامية المفرطة بهذا النوع من الرياضة.

فمن المفاسد المتعلقة باللاعبين: أن كرة القدم صارت معبوداً لبعض اللاعبين؛ فغدت أكبرَ همِّه الذي يعيش له، ومحبوبَ قلبه الذي لا ينفك عنه، ومعشوقَ نفسه الذي قد سلب عقله، فوقتُه مصروف إليها، وجهده محصور فيها، وهي المقدمة لديه، على طاعة الله وطاعة والديه، فهي المستديرة المديرة التي تديره في مربعات الوهم والضياع، والغفلة عن همِّ المسلم الأكبر، وهدفه الأسمى في هذه الحياة؛ ولهذا يسميها أهلها الساحرة؛ لأنها سلبت عقول عشاقها، فأضحوا في جنون رياضي مطبق.

 

ومن مفاسد كرة القدم المتعلقة باللاعبين: عقد مبدأ الولاء والبراء من أجلها؛ فالحب والولاء لمن كان مع الفريق لاعبًا أو مشجعًا أو متعاونًا؛ حتى ولو كان أعدى أعداء الله، والبغض والعداء لمن كان خصمًا لذلك الفريق ولو كان من أولياء الله -تعالى-.

والولاء والبراء في الإسلام -معشر المسلمين- مبدأ في الإسلام يقوم على حب الطاعة وأهلها، وبغض المعصية وأصحابها؛ قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)[المائدة51].

وقال سبحانه: (لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ)[المجادلة22].

 

ومن مفاسد كرة القدم المتعلقة باللاعبين: تضييع بعض شعائر الدين، وارتكاب بعض المخالفات الشرعية؛ فقد يكون زمن المباراة أو التدريب أو الاجتماع بالفريق في وقت الصلاة؛ فيؤدي ذلك إلى ترك الصلاة، أو تأخيرها، أو الإتيان بها بعد فوات وقتها، والله تعالى يقول: (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا)[النساء: 103]. وقال عمر -رضي الله عنه-: "وَلَا حَظَّ فِي الْإِسْلَامِ لِمَنْ تَرَكَ الصَلَاةَ".

 

وقد يكون اللعب في نهار صيام رمضان فيفطر بعض اللاعبين، ويقدم حب كرة القدم على حب طاعة الله -تعالى-؛ ولكن هناك لاعبون يستحقون الثناء في هذه القضية؛ لمحافظتهم على الصلاة في وقتها وصيامهم رمضان وهم في يمارسون ذلك النشاط الرياضي.

 

ومن المخالفات الشرعية في رياضة لعب كرة القدم: كشف الفخذين أثناء أداء هذه الرياضة؛ فقد مر النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- برجل وَهُوَ كَاشِفٌ عَنْ فَخِذِهِ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "غَطِّ فَخِذَكَ؛ فَإِنَّ فَخِذَ الرَّجُلِ مِنْ عَوْرَتِهِ"(رواه أحمد والترمذي، وهو صحيح).

 

أيها المسلمون: وأما مفاسد كرة القدم المتعلقة بالمشجعين فهي كثيرة، فمنها:

التعصب الأعمى للأندية والمنتخبات واللاعبين، مما يدعو إلى الكراهية والفرقة والقطيعة والاعتداء بين المسلمين، فكم نشبت بين المسلمين من شحناء بسبب الاختلاف في الفريق المفضل بينهم، وكم تراشقوا بالسباب والشتائم واللعن! وكم تقاطعوا وتهاجروا من أجل ذلك! بل كم حصل من عراك وقتال وجراح وإزهاق للنفوس على مدرجات ملاعب كرة القدم، وعلى خلفيات نتائج مبارياتها.

بل قد حصلت حوادث طلاق بين أزواج وزوجات بسبب الاختلاف في الولاء الرياضي!.

 

فهل هذه الأعمال المعوجة مما تدعو إليه العقول السليمة؟ وهل دين الإسلام دين المحبة والاتحاد بين المسلمين يقر هذا ويرضى به؟

قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا"(متفق عليه).

وقال: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى"(متفق عليه).

 

فهل كرة القدم تجعل المسلمين كذلك، أو تعكس القضية؟

بل من المؤسف: أن يوجد بعض المسلمين يحب بعض اللاعبين الكافرين أو الفاجرين حبًا شديداً، ويجعل لهم في قلبه مكانة عظمى، وفي حياته عناية خاصة، حتى يصبح يعلِّق صورهم، ويلبس مثل القميص الذي عليه اسم لاعبه المفضل ورقمه، ويتابع أحوال حياته الخاصة، ويحاكيه في بعض حركاته وأخلاقه.

 

فأين العناية والإكبار -يا شباب المسلمين- لعظماء ديننا في الماضي والحاضر، أليسوا أولى بهذه العناية والإجلال من أولئك؟.

قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ"(رواه أحمد وأبو داود، وهو صحيح).

وقال -عليه الصلاة والسلام- عن بعض أقاربه المشركين: "إِنَّ آلَ أَبِي فُلَانٍ لَيْسُوا بِأَوْلِيَائِي، إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ"(متفق عليه).

 

ومن مفاسد كرة القدم المتعلقة بالمشجعين: إضاعة الوقت في متابعة المباريات، والنشرات الإخبارية، والتقارير الصحفية، وأخبار اللاعبين، وتتبع أحوالهم الشخصية، وهذا يأخذ جزءاً كبيراً من الزمن، الذي كان الأولى بالمسلم أن يصرفه فيما ينفعه، وقد قال رسول الله -عليه الصلاة والسلام -: "احرص على ما ينفعك"(رواه مسلم).

 

بل إن بعض المشجعين والمهتمين بهذه الملهاة يضيِّع الصلاة، أو يؤخرها، أو يعق والديه، أو يضيع حقوق زوجته وأولاده بسبب انشغاله بكرة القدم!.

 

ولم يختلف العلماء في حرمة الشيء المباح إذا أدى إلى إسقاط فرض، أو ارتكاب محرم.

 

ومن مفاسد كرة القدم المتعلقة بالمشجعين: ما يحصل عقب فوز الفريق المفضل أو هزيمته من المشاعر المنحرفة والأفعال البعيدة عن الصواب؛ فهناك من المشجعين من إذا انتصر فريقه أشر وبطر وارتكب المحرمات؛ احتفالاً بالفوز، وأسرع إلى الاحتقار والضحك والتندر والسخرية بأخيه المسلم الذي غُلب فريقه؛ فيزيد أخاه المسلم ألمًا إلى ألمه، وهذا ليس من الأخوة الإسلامية التي جاء بها هذا الدين الحنيف.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا- وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ- بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ"(رواه مسلم).

 

وإذا هزم فريقُه اغتم اغتمامًا شديداً، وربما هجر الطعام، وذهب عنه المنام، وعاف الطيبات، وقد يصاب ببعض الأمراض ويسعف إلى المشفى، وبعضهم قد يفارق الحياة من شدة الحزن والقهر.

 

وبعضهم قد يعتدي على الممتلكات فيكسر ويخرب ما أمامه منها؛ فأي جنون هذا! وأي داء أدوى من هذا في إشغال الأمة، وتدميرها في مشاعرها، وأهدافها!.

 

عباد الله: وحين نعرِّج على ذكر المفاسد الآتية من الاعتناء الرسمي بكرة القدم؛ فإننا سنجد أن هذه الرياضة تُنفق عليها أموال كثيرة، وبالمسلمين حاجات شديدة لهذه الأموال في سدِّ رمقهم، وتحسين معيشتهم، ورفع مستواهم التعليمي والمهني، ولو اطلع الإنسان على الميزانية المالية لوزارات الشباب والرياضة في دول العالم الإسلامي لرأى شيئًا مهولا.

 

وانظروا-رحمكم الله-إلى الاحتفاء الإعلامي الكبير بكرة القدم ولاعبيها، وكم يأخذ الحديث عن ذلك من المساحة الزمنية في القنوات والإذاعات والصحف ووسائل التواصل الاجتماعي، فهل يأخذ الجانب الديني والعلمي هذه المساحة في تلك الوسائل؟

 

بل تأملوا في حال لاعبي كرة القدم الذين جُعل بعضهم نجومًا وهاجة، تُسلط عليهم الأضواء، ويلمّعون في الإعلام، وتُتابع أخبارهم، وتأتيهم الهدايا والعطايا، ويعيشون حياة خاصة تحفها الشهرة والاحتفال والعناية؛ فإذا ماتوا تحدث عنهم القاصي والداني، وصار الناس يتداولون فيما بينهم صورهم وذكرياتهم.

 

فقارنوا هذا بما يلقاه أهل العلم النبلاء في هذه المجتمعات التي أعلت أولئك، وخفضت هؤلاء؛ فليس للعالم تلك المكانة وذلك الاهتمام في ألسنة الإعلام والناس.

 

ورحم الله القاضي عبد الوهاب المالكي المتوفى سنة (422هـ) يوم قال:

وإنّ ترفُّعَ الوضعاءِ يوماً *** على الرفعاءِ من إحدى الرزايا

إذا استوتِ الأسافلُ والأعالي *** فقد طابت منادمةُ المنايا.

 

وقد بقي هذا العالم الكبير في بغداد زمنًا لم يلتفت إليه؛ فأصابه الفقر؛ فخرج منها لفقره، حتى قال:

بَغْدَادُ دَارٌ لأهلِ المَالِ طيبَةٌ *** وللمفاليسِ ذَاتُ الضَّنْكِ والضيقِ

ظللتُ حيرانَ أَمْشِي فِي أزقتِها *** كأنني مصحفٌ فِي بَيتِ زنديقِ

 

نسأل الله تعالى أن يرد شباب أمتنا إلى جادة الصواب.

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أما بعد: أيها المسلمون: وقتٌ يسير وتبدأ مبارياتُ كأسِ العالم، وتصوّب عيونُ مئات الملايين إلى ملاعب الدوحة، وتنشغل الأسماع والأبصار والعقول بأحداث كرة القدم هناك.

 

فنقول لكل مسلم: اشغل نفسك بما يعنيك، ودع عنك ما لا يعنيك؛ فما يجري في تلك الملاعب لا تهمك نتائجه، ولا تعنيك عواقبه؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ"(رواه الترمذي وابن ماجه، وهو صحيح).

 

ونقول لكل مسلم: لتكن همتك أرقى من أن تدنو إلى الانشغال الكبير بكرة القدم، ولتكن محبوباتك أسمى من أن تكون في هذه الرياضة، ولتكن نفسك محلِّقة في المعالي، وآفاق السمعة الطيبة بين صالحي عباد الله، والآثار النافعة التي ترفع قدرك عند الله.

قال الشاعر:

وإنْ خفتَ من دارٍ هواناً فوَلِّها *** سواكَ وعن دارِ الأذَى فتحوَّلِ

وما المرءُ إلاَّ حيثُ يجعلُ نفسَهُ *** ففي صالح الأخلاقِ نفسَك فاجْعَلِ

 

ونقول لكل مسلم: إن وقتك أثمن من أن تضيعه في متابعة أحداث تلك المباريات والتعليقات عليها، فوقتك حياتك، ومن علامات المقت إضاعة الوقت؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لرجل وهو يعظه: "اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك"(رواه الحاكم والبيهقي، وهو صحيح).

 

فإذا نازعتك نفسك للمشاهدة فتابع الملخصات للمباريات؛ حفاظًا على وقتك، وصونًا له من الإهدار.

 

ونقول لكل مسلم: إذا تابعت وغلبك هواك فاحذر تضييع الصلوات أو تأخيرها في وقت المباريات.

 

ونقول لك: إذا أردت أن تعرف قدر حب طاعة ربك في قلبك، وحبك لكرة القدم أيهما أغلب في نفسك؟ فانظر حالك في المباراة التي تجري في وقت الصلاة؛ فإذا تركت الصلاة لأجل المباراة، أو صليتها قبل وقتها، أو أخرتها عن زمنها؛ حتى لا تفوتك أحداث اللعب؛ فراجع إيمانك فأنت على خطر كبير؛ قال تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا)[مريم:59-60].

 

ونقول لكل مسلم: انظر بعين الإيمان إلى ما في أحداث كأس العالم من المفاسد على الدين والأخلاق وإلهاء المسلمين عن الأهداف السامية، وما فيها من ترويج للشرور المتنوعة، والنفقات المالية الكثيرة؛ حتى لا تنظر إليها بعين الانبهار والرضا والمتابعة؛ فتكون راضيًا بالمنكرات، شعرت أم لم تشعر؛ فقد أخبر رسول الله -عليه الصلاة والسلام- عن بعض المنكرات التي تكون على أيدي ولاة في زمان مستقبل الأمة بعده، وفي آخر ذلك قال: "فمن أنكر بلسانِه فقد بَرئ، ومَنْ كَرِهَ بقلبِه فقد سَلِمَ، ولكن مَنْ رضِيَ وتابَعَ"(رواه مسلم وأبو داود).

 

ونقول لكل مسلم سافر إلى أرض أحداث كأس العالم، وتجشم الصعاب، وأنفق وسينفق الأموال الكثيرة لأجل ذلك الحضور؛ أما كان الأولى بك أن تشد الرحال إلى بيت الله الحرام لتؤدي عمرة، وتنفق ذلك الجهد وذلك المال في الأرض المقدسة التي تطهر روحك، وتزيد رصيدك الحسناتي، أما كنت تخشى على دينك من واقع سيكون في ذلك المهرجان العالمي فيه اختلاط وتعرٍّ وسفور وسهولة لارتكاب المعاصي وتغيير المفاهيم؟ فعُدْ إلى رشدك، واتق الله ربك، فحفاظُك على دينك أغلى من كل شيء.

 

ويا شباب الإسلام: أنتم أمل أمة الإسلام، وعلى أيديكم يُعلى صرحها، وبجهودكم يمتد ويشتد عودها، وباستقامة طريقكم تعلو رايتها، وتستظل تحتها سعادةُ المسلمين وتقدمهم الحضاري؛ فلا تلهينكم كرة القدم عن سمو أهدافكم، وشرف هممكم، وإنجاز مشروعات حياتكم السامية.

 

ولا مانع أن تمارسوا رياضة كرة القدم في حدود الضوابط الشرعية، ولكن لا تجعلوها غاية عالية تنفقون لها نفيس الأوقات، وتعقدون عليها الصداقات أو العداوات.

 

رزقنا الله وإياكم الهمم العالية، في الوصول إلى الأهداف الراقية.

 

هذا وصلوا وسلموا على البشير النذير...

المرفقات

كرة القدم وكأس العالم (بلايا وصايا).pdf

كرة القدم وكأس العالم (بلايا وصايا).doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات