عناصر الخطبة
1/ أهم القواعد النبوية في الحياة الزوجية 2/ صور منكرة من المغالاة في المهور وحفلات الزواج 3/ خير النكاح أيسره 4/ وجوب إقامة العدل في الأسرة 5/ أهمية التعاون بين الزوج والزوجة.اقتباس
يا لها من قاعدة! من الذي تُرضَى سجاياه كلُّها؟! ومن له الحسنى فقط؟! من هو الرجل الذي يدّعي أنه قد اكتملت فيه الصفات وليس عنده جانبٌ من جوانب النقص؟! ومن هي المرأة التي تدّعي أنها كاملة مُكمَّلة؟! لا يوجد شيء من ذلك, إنما الحياة مبنية على هذا النوع من التعامل, إذا كان في الزوج نوعٌ من الأخلاق التي قد لا تُرضى؛ فعنده من الأخلاق الكثيرة التي تُرضَى؛ فتُغطي هذه الحسنات على تلك الزلة أو على ذلك الخطأ, وفي الوقت ذاته قد يوجد في المرأة نوعٌ من الأخلاق التي لا يرضاها الرجل، لكن سيجد فيها أخلاقًا كثيرة تَسُدّ هذا الخلل, وهكذا تسير سفينةُ الحياة الزوجية مبنيةً على المودة والتفاهم والتنازل عن بعض الأشياء,...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين.. أما بعد:
أيها الأحبة: كنا في الخطبة الماضية قد استعرضنا جملةً من القواعد القرآنية في الحياة الزوجية, وفي هذا اليوم ننتقل إلى الشارح لهذا القرآن العظيم؛ إلى سُنة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-؛ حيث التطبيق في أبهى صوره, وأنصع حالته, حينما يأمر بشيء فقد كان أسبق الناس إليه, وحينما ينهى عن شيء فقد كان أبعد الناس منه -صلوات الله وسلامه عليه-.
وإن حديثًا حول هذا الموضوع لا ينبغي أبدًا أن تفوت الإشارة معه إلى ما قاله الفاروق -رضي الله عنه-, كما في الصحيحين في قصة إيلائه -صلوات الله وسلامه عليه- من نسائه، وحينما تسامع الناسُ بأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طلّق نساءَه ولم يكن الخبر كذلك، قال عمر -رضي الله عنه- في قصةٍ طويلة: "والله إن كنا في الجاهلية ما نَعُد للنساء أمرًا! حتى أنزل الله فيهن ما أنزل، وقسَم لهن ما قسَم".
وفي هذا إشارة أن كل مسلم يبخس المرأةَ حقوقها التي أعطاها الله إياها ففيه شُعبةً من شُعب الجاهلية شاء أم أبى.
القاعدة الأولى:
أيها الأحبة: حينما تُذكر هذه القواعد فإن أول ما نقف معه هو قوله -عليه الصلاة والسلام- في حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه- عند أبي داود وصححه ابن حبان: «خير النكاح أيسَرُه» (سنن أبي داود ح: 2117، صحيح ابن حبان ح: 4072).
تأملوا أيها الأحبة في هذه الجملة الجامعة؛ فإنها تبتدئ منذ بدأ مراسمُ خطبة النكاح، وانتهاءً بالدخول وانتقال المرأة إلى بيت الزوجية, انظروا ما الذي أحدثه الناسُ اليوم -ومنذ أزمان- في شأن التهيؤ لبيت الزوجية! كلَّفوا أنفسهم أمورًا كثيرة عادت بالثِقل والوبال على الزوج وأهل الزوج، وربما أثّر ذلك سلبًا على الحياة الزوجية بعد ذلك.
تبتدئ قصةُ الشاب وهو يحمل طموحَه لتكوين أُسرةٍ جديدة، يبتدئ الهمّ معه بقضية المهر, وليت الأمر يقتصر على ذلك؛ بل ثمة شيءٌ يسبق المهر, وثمة شيءٌ يقارن حفلة الزواج التي أُحيطت اليوم بما لم تُحَطْ به مِن قبل من آصارٍ وأغلال.
يحدّثني أحدُ الإخوة فيقول: في زواج أختي تكلَّفْنا فقط في شأن ما يُعرف بالمعجنات والحلويات اثني عشر ألف ريال! ناهيك عن بقية التكاليف المتعلقة بالدفّافة ومن معها! وكُلفة العشاء الذي أتي به من مطعم أو من فندقٍ رائق! إلى غير ذلك من التكاليف والآصار.
فلما حدّثت أحدَ الإخوة قبل أسبوع بهذه القصة قال: خذ هذه: إحدى النساء اللاتي أعرفهن -لأنها موظفة- أرادت أن تُظهر زواج ابنتها وكأنها امرأةٌ ليست من الناس, فوضعت قرابة خمسة وعشرين ألف ريال فقط فيما يتعلق بهذه الأمور التي هي أمور ثانوية -من الحلويات والمعجنات ونحوها-.
وفي بعض البيئات - التي وسّع الله على أهلها - تتضاعف الأرقام بشكلٍ مرعبٍ ومُخيف, يحدّثني أحدُ الإخوة فيقول: والله لقد دخل ابني المدرسة وأنا لا أزال أُسدِّد قيمة مهر زواجي الذي بلغ ما يُقارب ربع مليون ريال! بالله عليكم من يطيق هذا المبلغ من عموم الناس؟! وأي حياة سيهنئ بها الزوجُ وهو يتعامل مع امرأةٍ شعر بصورةٍ أو بأخرى أنها بِيعت له ولم تُزف إليه؟!
إن المسلم العاقل لا يرفض الاحتفاء بشيء من ذلك, لكن أن ترتفع التكاليفُ إلى هذا المستوى؛ فذاك شيء ينبغي للعقلاء أن يتنادوا إلى منعه أو التخفيف منه, مع بقاء أصل الإكرام والاحتفاء حسب العُرف الذي لا تمنعه الشريعة.
أيها الأحبة: إن علاقة الزواج أقدس وأشرف من أن تُكلَّل أو تُحاط بمثل هذه التكاليف الباهظة! إن نبينا -صلى الله عليه وسلم- أعطانا بشارة عظيمة في هذه القاعدة النبوية الجليلة: "خير النكاح أيسره".
ألسنا نسعى إلى أن يكون النكاح موفّقًا وسعيدًا يحفّه الخير؟ فهاكم بشارة نبيكم "خير النكاح أيسره"، فلماذا نأتي نحن ونضع أمثالَ هذه التكاليف التي إذا تأمل العاقل وجدَ أن مصدَرها ممن ليس بيده الأمر؟
ولسنا هنا نطالب بإسقاط راية المشورة بين الرجل وأهل بيته! كلا, لكن المحزن: أن تذهب إمرةُ الرجل هنا ومشورتُه ورأيُه، فيُسلَّم الأمرُ إلى النساء اللاتي في الغالب لا يُقدّرن قيمةَ ما يُنفَق, واللاتي في الغالب ينظرن إلى: ما الذي صنع فلان, أو آل فلان؟ فنصنع مثلهم أو نتفوق عليهم! هنا ينبغي للرجل العاقل الحازم أن يكون له موقف, وإلا فما قيمة أن يكون للرجل قِوامةٌ, وأن يكون هو رب البيت؛ إذا انفلتت أمثال هذه الأمور؟!
ثم إنك لتعجب من ترقيع بعض الناس لمثل هذه التصرفات حينما يُحدَّث بهذا فيقول: ماذا أصنع؟ أوّل أولادي صنعتُ به هكذا! ولابد أن يسير بقيّةُ الأولاد على هذا النحو!! أوّل بناتي تزوجت هكذا لابد أن نصنع بالبقية هكذا, سبحان الله, من الذي أوحى إليك بأن تجعل زواجَ أوّل ولدٍ أو أوّل بنتٍ بهذه الصورة؟!
وفي الجملة يا عباد الله: هذه أيام فرح, وهذه مناسبات سعادة لسنا نطالِب بتحجيم السعادة فيها، ولكن وِفق مراد الله, ووِفق مراد رسوله -عليه الصلاة والسلام-, ووِفق موازين العدل ومراعاة المصالح والمفاسد.
لقد أعجبني أحدُ الرجال حينما خطَب منه أحدُهم فقال له: يا هذا! أنا لدي -ولله الحمد- عدة بنات، وأنت تخطب أوّل بناتي، ولا أريد أن أَسُن أمرًا أجِدُ مرارَته أو أتحمّل تَبِعتَه فيما بعد, مذهبي في أمور الزواج أن يكون مختصرًا, فإن أعجبك هذا مضينا, وإلا فأسأل الله أن يوفقك ويرزقك زوجةً صالحة.
قال الشاب: وكأن هذا الرجل قد وقع على جرح داخلي! فقلتُ في قلبي: ذلك ما كنا نبغي، وهذا الذي نريد.
لكن بعضَ الآباء, أو الأزواج, أو الرجال والأولياء أحيانًا هو الذي يبادر -بتوصيةٍ من أهل البيت- بأنه نريد أن يكون الزواج الأول في قصرٍ, أو أن يكون الزواج كبيرًا, وأن تُحضِر كذا وكذا, وتفعل كذا -في شروطٍ يُقيّد بها الشابُ المسكين- وربما قبِلَها على مضض! خشية فوات هذه البنت, أو لغير ذلك من الأسباب.
فاتقوا الله يا عباد الله! وكونوا عونًا على تحقيق هذه الخيرية فـ"خير النكاح أيسره", يسّروا أمرَ المهر, يسّروا أمرَ الزواج, يسِّروا مناسبات الزواج, يسّروا قدْر ما تستطيعون؛ فإن تفشي ظاهرةَ تأخّر الزواج في المجتمع نذيرُ خطرٍ وشؤمٍ وبلاءٍ على الأمة والمجتمع, وفيها من تعطيل المصالح ما لا يعلمه إلا الله, ماذا يعني أن تنتشر ظاهرة تأخُّر الزواج إلى ما بعد الثلاثين في مجتمعنا حتى أصبحت أمرًا معتادًا؟!
وإذا نظرت رأيتَ الشاب يُقلّب كفيه أمامك ليُعلن لك أنه غير قادر على تحمُّل هذه التكاليف, وهذا يعني أن على العقلاء دورًا عظيمًا, وعلى الرجال دورًا عظيمًا, فيا مرحبًا ويا أهلًا، وقُبلة رأسٍ على كل رجلٍ يُسهّل أمرَ الزواج.
وأختم بهذا الموقف لأحد الرجال العقلاء، حينما جاء الشابُ يخطب موليَتَه، فقال له: أيها الشاب! كل ما في ذهنك من تكبير شأن الزواج والقول بأن هذه هي الفرصة الأولى وربما تكون الأخيرة في العمر، وهي فرحةٌ قد لا تتكرر، وأريد أن أكبّر الزواج وكذا, وكذا؛ كل هذه التكاليف التي ستأخذ منك مالًا كثيرًا أنا أضعها في حسابك لتستفيد منها وتنتفع بها بعد دخولك.
القاعدة الثانية:
أيها المسلمون: ومن القواعد النبوية التي دلت عليها سُنة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحياة الزوجية، قوله -عليه الصلاة والسلام- فيما رواه مسلم: «لا يفرك مؤمنٌ مؤمنة، إن كره منها خُلقا رضي منها خُلقًا آخر» (صحيح مسلم ح: 1469).
يا لها من قاعدة! من الذي تُرضَى سجاياه كلُّها؟! ومن له الحسنى فقط؟! من هو الرجل الذي يدّعي أنه قد اكتملت فيه الصفات وليس عنده جانبٌ من جوانب النقص؟! ومن هي المرأة التي تدّعي أنها كاملة مُكمَّلة؟! لا يوجد شيء من ذلك, إنما الحياة مبنية على هذا النوع من التعامل, إذا كان في الزوج نوعٌ من الأخلاق التي قد لا تُرضى -خلُقٌ أو اثنان أو ثلاثة- فعنده من الأخلاق الكثيرة التي تُرضَى؛ فتُغطي هذه الحسنات على تلك الزلة أو على ذلك الخطأ, وفي الوقت ذاته قد يوجد في المرأة نوعٌ من الأخلاق التي لا يرضاها الرجل -خُلقٌ أو خُلقان- لكن سيجد فيها أخلاقًا كثيرة تَسُدّ هذا الخلل, وهكذا تسير سفينةُ الحياة الزوجية مبنيةً على المودة والتفاهم والتنازل عن بعض الأشياء, وعلى تقدير جوانب التميز عند كل واحدٍ من الطرفين.
القاعدة الثالثة:
ومن القواعد التي دلت عليها السُنة النبوية في الحياة الزوجية: "قاعدة العدل".
ولا أجد أنصع ولا أجمل ولا أحلى من ذلك الموقف الذي وقع لنبينا -صلى الله عليه وسلم- في أواخر أيامه الشريفة، قبل أن يموت ويغادر هذه الحياة, فإن النبي -عليه الصلاة والسلام- لما اشتد به المرضُ تشوّف أن يُمرّض في بيت حبيبته عائشة -رضي الله عنها-, فكان ينادي ويقول: أين أنا غدًا, أين أنا غدًا.
ففهمت نساؤه أنه يستبطأ يوم عائشة -رضي الله عنها-, فلما علمْن ذلك تنازلن عن حقوقهن في تلك الليالي؛ فمُرّض -صلوات الله وسلامه عليه- في بيتها, ومات في حِجْرها, بين سَحْرها ونَحْرها, يزداد عجَبُك حينما تقرأ هذا الخبر ونبيك -صلى الله عليه وسلم- لا يجب عليه القَسْم بين نساءه كما يجب على بقية الناس, بل القَسْم في حقه مستحب كما قال أكثر أهل العلم، قال الله عز وجل: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ)[الأحزاب:51].
هذا حكم الله فيه, ومع ذلك لم تَطِب نفسُه -صلوات الله وسلامه عليه- أن يغادر هذه الحياة إلا وهو يعطي درسًا عظيمًا في العدل بين الزوجات, فأين أولئك المعدِّدون الذين ضربوا أسوء الأمثلة في الظلم! وفي التفرقة بين الزوجات بدون وجه حق، وبدون سببِ شرعي! أما إذا كان ثمة موجبٌ لنوعٍ من العقوبة الشرعية للزوجة كهجْرٍ ونحوه فهذا شأنٌ آخر, والحديث في هذا يطول جدًا، إلا أن الذي يجب أن يقال للزوج هاهنا: إن لم تحاسَب في الدنيا على تقصيرك فاستعد ليومٍ تقف فيه بين يدي الله عز وجل ليسألك عن عدلك بين زوجاتك! وعن تعاملك معهن!
بارك الله ليّ ولكم في القرآن والسُنة, ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة, أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم ليّ ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب, فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين...أما بعد:
القاعدة الرابعة:
فمن القواعد العملية في السُنة النبوية للسعادة الزوجية: هي قضية التعاون بين الزوج والزوجة في شأن البيت وأموره.
يقول الأسود بن يزيد -أحد سادات التابعين- سائلًا أمنا عائشة -رضي الله عنها-: ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصنع في بيته؟ قالت: "كان يكون في مهنة أهله" (البخاري ح: 676).
ويقال: "كان في مَهنة أهله"، تعني خدمةَ أهله, "حتى إذا حضرت الصلاةُ خرج إلى الصلاة"، تُفسر رواية الإمام أحمد أنواع هذه الخدمة، فتقول عائشة -رضي الله عنها-: "كان يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته" (المسند ح(24749), وفي رواية لأحمد أيضاً قالت: "كان بشراً من البشر، يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه"(المسند ح(26194).
هذا فيما يتعلق بخدمته -صلى الله عليه وسلم- لأهله, أما إعطاؤه فرصة للزوجة لتخدمه، حتى ولو كان هذا الأمر مما يباشره الرجل عادة بنفسه، فيدل له ما في الصحيحين من حديث عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "كنت أطيب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت" (البخاري ح: 1539، مسلم ح: 1189).
وفي الصحيحين من حديث عائشة -رضي الله عنها- أيضاً قالت: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصغي إليَّ رأسه وهو مجاور في المسجد فأرجله وأنا حائض" (البخاري ح: 2028، مسلم ح: 297).
ولما كان معتكفًا -صلوات الله وسلامه عليه- كان يُصغي برأسه من المسجد إلى غرفتها من أجل أن تُرجّل شعره, إن هذا التبادل في الخدمة بين الزوج وزوجه إنه لمظهرٌ من مظاهر إعلان المحبة, وإعلان التعاون الذي لا يزيد هذه الحياة إلا قوةً ووثوقًا.
فاتقوا الله يا عباد الله، وتأملوا في سيرة محمد -صلى الله عليه وسلم-, وربكم يقول: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[الأحزاب:21].
اللهم ارزقنا اتباع السنة ظاهرًا وباطنًا...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم