اقتباس
وفي هذا الخضم المتماوج، المتضارب، يزيغ البصر، ويطيش العقل، ويحار الفكر، عند كثير من المسلمين، كما لو كان أحدهم في (مزاد علني) تعرض فيه كثير من السلع المزوقة، بأسعار مغرية، لا يدري أيها يقتني. حتى لا تكاد تميز في مقام التحليل، بين متدين، ودخيل. ومرد ذلك إلى ضعف التأصيل، وقوة التضليل. وناتج ذلك فهم خداج، ورأي، ومزاج، لا يستند إلى دليل. وفيما يلي حزمة من القواعد ..
الحمد لله وحده. والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد:
تجتاح الأمة العربية في الأشهر الراهنة، جملة من الأحداث المتسارعة، ويتمخض الجديدان؛ الليل والنهار، عن تغييرات واسعة، لم تدر بخلد المراقبين، ولا طافت بخيال المحللين، فكيف بالسذج الغافلين!
معظم أبناء هذا الجيل العربي، فتحوا أعينهم على أوضاع ملزمة، وأنماط مفروضة، لم يشهدوا ولادتها، ولم يشاركوا في صياغتها، بل كان حظهم منها تجرع مرارتها، وتحسِّي سمومها. واعتبر ذلك فيمن سلخ ثلاثة عقود، أو أربعة من عمره، في بلاد الشام، أو مصر، أو ليبيا، مثلاً، لا يبصر إلا القمع، ولا يسمع إلا النفاق.
تلحق كثير من أبناء الجيل دهشة إزاء المستجدات المتلاحقة، فيلهثون خلف وكالات الأنباء، وتقارير المراسلين، ويسمرون أعينهم في شاشات الفضائيات، يستطعمونها الصوت والصورة. ويصاحب ذلك إيحاءات ذكية، وإسقاطات فنية، تحمل توجهات مختلفة، لدهاقنة السياسة، الممتطين عربات الإعلام.
وفي هذا الخضم المتماوج، المتضارب، يزيغ البصر، ويطيش العقل، ويحار الفكر، عند كثير من المسلمين، كما لو كان أحدهم في (مزاد علني) تعرض فيه كثير من السلع المزوقة، بأسعار مغرية، لا يدري أيها يقتني. حتى لا تكاد تميز في مقام التحليل، بين متدين، ودخيل. ومرد ذلك إلى ضعف التأصيل، وقوة التضليل. وناتج ذلك فهم خداج، ورأي، ومزاج، لا يستند إلى دليل.
وفيما يلي حزمة من القواعد، والتنبيهات، لمواجهة المستجدات، تصوب النظر، وتسدد الرأي، وتعصم من الخطأ والزلل:
أولاً: الاعتصام بمحكمات الكتاب والسنة:
ما زال المحدثون يعقدون كتاباً، أو باباً، في مصنفاتهم بعنوان: (الاعتصام بالكتاب والسنة)، كما صنع البخاري وغيره. ويروون فيه أحاديث في تعظيم النصوص، والتمسك بالآثار، والتمسيك بالكتاب، وذم التفرق، والأهواء، والتحذير من الفتن.
لقد أودع الله تعالى كتابه الكريم جملة من القواعد المحكمة، والثوابت الراسخة، المبنية على السنن الكونية، للتعاطي مع المتغيرات، والتعامل مع مختلف الأفراد والجهات. فيجب على الناظر في الوقائع، ومستجدات الأحوال، استدعاؤها، وتنزيل هذه المحكمات على النوازل والحادثات. ومن أمثلة هذه المحكمات، التي توجه موارد النظر، وتجلي المشتبهات:
وقال:(وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) [النساء: 89]
وقال: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة: 109] وقال: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) [القلم: 9]
وكثير من (الإسلاميين) يقع في قطيعة غير مقصودة، عند احتدام الأمور، فيصغي إلى التحليلات، والآراء الصادرة من قوم لم يتضلعوا من الوحيين، ولم يستنيروا بفهم السلف الصالح، ويحتفي بأقوالهم، ولا يكلف نفسه إمعان النظر، واستنباط المخزون العلمي، والإيماني، الذي تربى عليه، وظل يربي الآخرين عليه!
ومن أحسن الأمثلة لهذا الاستدعاء الإيماني، إذا ادلهمت الخطوب، ما سطره يراع شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، حين هجم التتار على بلاد الشام، فنظَّر ما جرى، على ما أودع الله سورة الأحزاب، من المحكمات، والدلالات.
ثانياً: الولاء لله ورسوله والمؤمنين:
إن من أجلى صور التعبير العلمية، والعملية لحقيقة الإيمان، تحرير الولاء لله ولرسوله، وللمؤمنين، والانحياز لأهل الإيمان، ومجانبة أهل الكفر والفسوق والعصيان. فلا بد من وضوح في الخطاب؛ فلا يلتبس بدعاوى جاهلية، وصدق في (المودة) فلا تلقى لغير مستحقها، واستجابة لطلب (النصرة)؛ فلا خذلان، ولا تشكيك في رابطة الإيمان. وتكاد تكون قضية الولاء والبراء أشهر قضية في القرآن، بعد قضية التوحيد، كما يتضح من جملة النصوص التالية:
قال تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ.وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) [المائدة:55، 56]
وقال: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ [آل ع ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) [آل عمران: 28]
وقال:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ) [آل عمران: 118]
وقال: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا.الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ) [النساء: 138، 139]
وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا) [النساء: 144]
وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ) [المائدة: 51 - 52]
وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) [المائدة: 57]
وقال: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الأنفال: 72]
وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [التوبة: 23]
وقال: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) [التوبة: 71]
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ. إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ) [الممتحنة: 1 - 2]
فلا يسوغ بحال، الانخراط مع أهل البدع المغلظة، والأهواء الباطنية، بدعوى الوطنية، فإن ذلك مما يبطئ نصر الله. ولا يحل الثناء على رؤوس الضلال، وأئمة الكفر، تحت مظلة (المصالح المرسلة)، وهي في الواقع ملغية. فتجد بعض المتحدثين من الإسلاميين يصف النصارى بقوله (إخواننا الأقباط)، وربما خلع عليهم وصف الإيمان! وتجد بعض المنظمين لشعارات المظاهرات يطلقون شعاراً يحمل اسم رأس من رؤوس الضلال! (إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ) [الجاثية: 19]، وإنما يرتبون أمورهم لتوفير (مخرج طوارئ) لو جاءت الأمور على غير ما يشتهون. وإذا لم يقل المرء الحق، فلا أقل من أن يصمت عن قول الباطل. وليس من لازم هذا التقرير بخس الناس حقوقهم، أو تعريضهم للظلم، أو حتى استعداءهم. كلا! فأهل الإسلام أرعى الناس للذمة، وأحفظهم للحق، وأرحمهم بالخلق.
ثالثاً: التمييز بين باب الثوابت العقدية، وباب السياسة الشرعية:
ليس مقتضى الحفاظ على الثوابت العقدية، السابق ذكرها، الإعاقة، والجمود، وعدم القدرة على التفاوض، والمدافعة. فقد مر بالنبي صلى الله عليه وسلم أحوال مختلفة، أعمل فيها باب السياسة الشرعية، دون المساس بالثوابت العقدية. ومن أمثلة ذلك من السيرة النبوية :
1- عقد وثيقة المدينة مع قبائل يهود، بعد الهجرة، لتحمل الديات، وغيرها.
2- إبرام صلح الحديبية، وما تضمنه من شروط بدت مجحفة بادئ الأمر.
3- اقتراح النبي صلى الله عليه وسلم على الأنصار، أن يعرض على الأحزاب نصف ثمرة المدينة، ليرجعوا عنهم.
كما شهد التاريخ الإسلامي، عبر القرون، جملة من المناورات، والمفاوضات، والاتفاقات السياسية، مع أعداء الدين، تحقيقاً لمصلحة، أو دفعاً لمفسدة. ومن أشهرها (صلح الرملة) الذي أبرمه السلطان المجاهد صلاح الدين الأيوبي، رحمه الله، مع الصليبيين، وأبقى بأيديهم (عكا) عشرات السنين.
رابعاً: التمييز بين الشرع والقدر:
يسكن بعض المتدينين شعورٌ مُحبط، مُقعد، ناشئ عن فهم خاطئ للعلاقة بين الشرع والقدر! فيكتفي أحدهم بمراقبة الأحداث، وتقديم التحليلات الظنية، و(شهود القدر)، كما هي طريقة الجبرية، دون أن يصاحب ذلك (قيام بالشرع)! وكأنما اطلع على الغيب، أو اتخذ عند الرحمن عهداً! والواجب على المؤمن النظر للمستقبل بعين الشرع، والنظر إلى الماضي بعين القدر، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ)رواه مسلم:4/ 2052 وربما صاحب كثيراً من مواقف هؤلاء، تلوُّم، وتحسر، مع عجز، وترك للاستعانة.
خامساً: التمييز في الحكم على الشيء قبل حصوله، وبعد حصوله:
ينبغي للفقيه الحاذق التمييز في فتياه، في الحكم على المسألة، قبل حصولها، وبعد حصولها. كما لو أفتى محرماً بلزوم فدية الأذى، إن هو قلَّم أظفاره، مراعاةً لقياس الفقهاء التقليم على حلق الشعر، بجامع (التَّرفُّه)، وردعاً للمتساهل. لكن إذا وقع الأمر وجاءه سائل، وقع في المحظور، لم يقوَ أن يلزمه بأمر لم يستبن دليله. وكذلك الحال في المستجدات السياسية؛ فقد يرى الناصح الشفيق المنع من التظاهرات، حقناً للدماء، ودفعاً لمفاسد أشد، ثم يتجاوزه الحال، ويجري قدر الله بما شاء، فلا يكون صواباً أن يظلَّ يوزع التهم، وينكأ الجراح، ويركن إلى الذين ظلموا، بدعوى أن الآخرين لم يأخذوا بقوله، ولم ينصاعوا لفتياه.
وقد جرى في الأحداث الأخيرة توظيف لفتاوى، ومقالات لبعض المجتهدين، من جانب الطغاة، والمجرمين، الذين لا يقيمون حرمة للدين، شهروها في وجوه المعترضين، وضربوا أهل الإسلام بعضهم ببعض. فلا يصح أن يستدرج الفقيه الموفق إلى مثل هذه المآزق، ويستحيل أداة رخيصة في يد الظالمين. بل عليه أن يقدر الحال، ويتعامل مع الموقف، وفق المعطيات المستجدة، وينصر أولى الطائفتين بالحق، أو يعتزل، إن اشتبه عليه الأمر، وبدا له أنه (فتنة).
اللهم أرنا الحق حقاً، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله مشتبهاً علينا فنضل،واجمع كلمة المسلمين على الحق المبين، وانصرهم على عدوهم.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم