عناصر الخطبة
1/ عظمة النبي 2/ سنة الاستهزاء بأنبياء الله ورسله 3/ الاستهزاء بأتباع الرسل 4/ فوائد هذه الحادثة النكراء 5/ سبل لنصرة المصطفى 6/ ليس من النصرةاقتباس
إِنها سُنَّةُ اللهِ في رُسُلِهِ وَأَنبِيَائِهِ؛ ابتِلاءً لهم لِرِفعَةِ دَرَجَاتِهِم وَإِعلاءِ مَنَازِلِهِم، بَلْ إِنَّ تِلكَ السُّنَّةَ لَتَشمَلُ مَعَ الأَنبِيَاءِ أَتبَاعَهُمُ المُؤمِنِينَ؛ اختِبَارًا لهم وَامتِحَانًا لِقُوَّةِ إِيمَانِهِم، (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُترَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُم لا يُفتَنُونَ * وَلَقَد فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبلِهِم فَلَيَعلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعلَمَنَّ الكَاذِبِينَ)، وَفي مَوقِفِ القِيَامَةِ يَقُولُ الجَبَّارُ لِمَن خَفَّت مَوَازِينُهُم ..
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ).
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، مَا عَرَفَتِ البَشَرِيَّةُ وَلَن تَعرِفَ مُنذُ أَن أَهبَطَ اللهُ آدَمَ عَلَى الأَرضِ أَعظَمَ وَلا أَشرَفَ وَلا أَجَلَّ مِن محمدِ بنِ عبد الله، محمدُ بنُ عبد الله نَبيُّ الرَّحمَةِ وَالمَلحَمَةِ، محمدُ بنُ عبد الله خَاتَمُ أَنبِيَاءِ اللهِ وَرُسُلِهِ، محمدُ بنُ عبد الله سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، محمدُ بنُ عبد الله صَاحِبُ الحَوضِ المَورُودِ وَالمَقَامِ المَحمُودِ، وَحَامِلُ لِوَاءِ الحَمدِ وَالمَخصُوصُ بِالشَّفَاعَةِ العُظمَى، محمدُ بنُ عبد الله المَشرُوحُ صَدرُهُ، المَوضُوعُ وِزرُهُ، المَرفُوعُ ذِكرُهُ، المَغفُورُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، الشَّاهِدُ البَشِيرُ النَّذِيرُ، وَالدَّاعِي إِلى اللهِ بِإِذنِهِ وَالسِّرَاجُ المُنِيرُ، الصَّادِقُ المَصدُوقُ الرَّؤُوفُ الرَّحِيمُ صَاحِبُ الخُلُقِ العَظِيمِ، الهَادِي إِلى الصِّرَاطِ المُستَقِيمِ، محمدُ بنُ عبد الله أُسرِيَ بِهِ لَيلاً مِنَ المَسجِدِ الحَرَامِ إِلى المَسجِدِ الأَقصَى، ثم عُرِجَ بِهِ إِلى السَّمَاوَاتِ العُلَى، حتى وَصَلَ إِلى سِدرَةِ المُنتَهَى، وَبَلَغَ مَكَانًا سَمِعَ فِيهِ صَرِيفَ الأَقلامِ.
أَغَـرُّ عَلَـيـهِ لِلنُّبُـوَّةِ خَـاتَـمٌ *** مِنَ اللَّهِ مَشهُودٌ يَلُـوحُ وَيَشهَـدُ
وَضَـمَّ الإِلَـهُ اسمَ النَّبيِّ إِلى اسْمِهِ *** إِذَا قَالَ في الخَمسِ المُؤَذِّنُ: أَشهَـدُ
وَشَـقَّ لَـهُ مِـن اسمِهِ لِيُجِـلَّـهُ *** فَذُو العَرشِ مَحمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّـدُ
نَبيٌّ أَتَانَـا بَـعـدَ يَـأسٍ وَفَتـرَةٍ *** مِنَ الرُّسْلِ وَالأَوثَانُ في الأَرضِ تُعبَدُ
فَأَمسَى سِرَاجًـا مُستَنِيرًا وَهَادِيًـا *** يَلُوحُ كَمَـا لاحَ الصَّقِيلُ الْمهَنَّـدُ
وَأَنـذَرَنَـا نَـارًا وَبَشَّـرَ جَنّـَةً *** وَعَلَّمَنَـا الإِسـلامَ فَاللَّهَ نَحمَـدُ
وَمَهمَا أَطَالَ مُتَكَلِّمٌ أَو فَصَّلَ خَطِيبٌ أَو مَدَحَ شَاعِرٌ أَو وَصَفَ أَدِيبٌ، فَلَن يُوَفِّيَ نَبيَّ اللهِ حَقَّهُ، وَلَن يَبلُغَ بِرَسُولِ اللهِ قَدرَهُ. وَحِينَمَا تَأتي سَبعَ عَشرَةَ صَحِيَفَةً غَربِيَّةً فَتَهزَأُ بِهِ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، وَحِينَمَا يَسخَرُ كُفَّارٌ أَنجَاسٌ أَرجَاسٌ بِهَذَا الطَّاهِرِ المُطَهَّرِ المُبَرَّأِ وَيَجعَلُونَهُ مَادَّةً لِرُسُومٍ سَخِيفَةٍ وَعُرُوضٍ مُسِيئَةٍ، فَمَا ذَلِكَ مِنهُم ـ وَرَبِّ العِزَّةِ ـ بِمُستَنكَرٍ وَلا مُستَغرَبٍ، كَيفَ وَتِلكَ شِنشِنَةٌ مَعرُوفَةٌ مِنهُم وَلهم فِيهَا أَسلافٌ مِنَ المَاضِينَ، (قَدْ بَدَتِ البَغضَاءُ مِن أَفوَاهِهِم وَمَا تُخفِي صُدُورُهُم أَكبَرُ قَد بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُم تَعقِلُونَ). وَإِنَّهُ مَا بُعِثَ نَبيٌّ وَلا أُرسِلَ رَسُولٌ مِن لَدُنْ نُوحٍ إِلى محمدٍ عَلَيهِمَا الصَّلاةُ وَالسَّلامُ إِلاَّ كَانَ لَهُ نَصِيبٌ مِن إِيذَاءِ الجَاهِلِينَ وَعِنَادِ المُتَكَبِّرِينَ وَاستِهزَاءِ المُستَهزِئِينَ، قَالَ سُبحَانَهُ: (وَلَقَدِ استُهزِئَ بِرُسُلٍ مِن قَبلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنهُم مَا كَانُوا بِهِ يَستَهزِئُونَ)، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: (وَمَا يَأتِيهِم مِن رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَستَهزِئُونَ)، وَقَالَ تَعَالى: (وَمَا يَأتِيهِم مِن نَبِيٍّ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَستَهزِئُونَ)، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبلِهِم مِن رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَو مَجنُونٌ)، وَفي البُخَارِيِّ عَن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ الوَحيُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَوَّلَ مَا نَزَلَ انطَلَقَت بِهِ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنهَا إِلى ابنِ عَمِّهَا وَرَقَةَ بنِ نَوفَلٍ، وَكَانَ امرَأً تَنَصَّرَ في الجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكتُبُ الكِتَابَ العِبرَانِيَّ، فَيَكتُبُ مِنَ الإِنجِيلِ بِالعِبرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللهُ أَن يَكتُبَ، وَكَانَ شَيخًا كَبِيرًا قَد عَمِيَ، فَقَالَت لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابنَ عَمِّ، اسمَعْ مِن ابنِ أَخِيكَ، فقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا بنَ أَخِي، مَاذَا تَرَى؟ فَأَخبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: "هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَهُ اللهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيتَني فِيهَا جَذَعٌ، لَيتَني أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخرِجُكَ قَومُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَوَمُخرِجِيَّ هُم»؟! قَالَ: نَعَمْ، لم يَأتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثلِ مَا جِئتَ بِهِ إِلاَّ عُودِيَ". الحَدِيثَ.
وَهَكَذَا عُودِيَ الحُبِيبُ صلى الله عليه وسلم مِن أَوَّلِ مَا بُعِثَ بِالنُّورِ المُبِينِ، وَجَاءَ بِالهُدَى المُستَقِيمِ، وَاستُهزِئَ بِهِ وَسُخِرَ مِنهُ، (قَالَ الكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ)، (وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُنذِرٌ مِنهُم وَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ)، (وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسحُورًا)، (بَل قَالُوا أَضغَاثُ أَحلاَمٍ بَلِ افتَرَاهُ بَل هُوَ شَاعِرٌ فَليَأتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرسِلَ الأَوَّلُونَ)، (وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجنُونٍ)، (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيهِ الذِّكرُ إِنَّكَ لَمَجنُونٌ) (ثُمَّ تَوَلَّوا عَنهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجنُونٌ)، (وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزلِقُونَكَ بِأَبصَارِهِم لَمَّا سَمِعُوا الذِّكرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجنُونٌ)، (أَم يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيبَ المَنُونِ)، وَقَالَ سُبحَانَهُ: (وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذكُرُ آلِهَتَكُم وَهُم بِذِكرِ الرَّحمَنِ هُم كَافِرُونَ)، وَقَالَ تَعَالى: (وَإِذَا رَأَوكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً)، وَقَال تَعَالى عَنهُم: (بَلْ عَجِبتَ وَيَسخَرُونَ)، وَقَالَ سُبحَانَهُ: (وَإِذَا رَأَوا آيَةً يَستَسخِرُونَ)، وَقَالَ مُوَبِّخًا لهم: (أَفَمِن هَذَا الحَدِيثِ تَعجَبُونَ * وَتَضحَكُونَ وَلا تَبكُونَ * وَأَنتُم سَامِدُونَ).
وَهَكَذَا -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- كَانَ دَيدَنُ الكُفَّارِ المُكَذِّبِينَ المُعَانِدِينَ لِرُسُلِهِم، سُخرِيَةٌ وَاستِهزَاءٌ وَضَحِكٌ، وَاتِّهَامَاتٌ بَاطِلَةٌ وَادِّعَاءَاتٌ زَائِفَةٌ، قَالَ تَعَالى عَن نُوحٍ عَلَيهِ السَّلامُ: (وَيَصنَعُ الفُلكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيهِ مَلأٌ مِن قَومِهِ سَخِرُوا مِنهُ قَالَ إِن تَسخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسخَرُ مِنكُم كَمَا تَسخَرُونَ)، وَقَالَ تَعَالى: (كَذَّبَت قَبلَهُم قَومُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبدَنَا وَقَالُوا مَجنُونٌ وَازدُجِرَ)، وَقَالَ أُولَئِكَ القَومُ عَنهُ: (إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ)، وَقَالَ تَعَالى عَن فِرعَونَ لَمَّا جَاءَهُ مُوسَى: (قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرسِلَ إِلَيكُم لَمَجنُونٌ)، وَقَالَ تَعَالى عَنهُ: (وَفي مُوسَى إِذ أَرسَلنَاهُ إِلى فِرعَونَ بِسُلطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَو مَجنُونٌ)، وَقَالَ قَومُ هُودٍ عَلَيهِ السَّلامُ كَمَا حَكَى اللهُ عَنهُم: (إِن نَقُولُ إِلاَّ اعتَرَاكَ بَعضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشهِدُ اللهِ وَاشهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشرِكُونَ). وَأَمَّا قَومُ شُعَيبٍ عَلَيهِ السَّلامُ فَقَد قَالُوا لَهُ استِهزَاءً بِهِ وَسُخرِيَةً مِنهُ: (يَا شُعَيبُ أَصَلاَتُكَ تَأمُرُكَ أَن نَترُكَ مَا يَعبُدُ آبَاؤُنَا أَو أَن نَفعَلَ في أَموَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنتَ الحَلِيمُ الرَّشِيدُ).
نَعَمْ أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنها سُنَّةُ اللهِ في رُسُلِهِ وَأَنبِيَائِهِ؛ ابتِلاءً لهم لِرِفعَةِ دَرَجَاتِهِم وَإِعلاءِ مَنَازِلِهِم، بَلْ إِنَّ تِلكَ السُّنَّةَ لَتَشمَلُ مَعَ الأَنبِيَاءِ أَتبَاعَهُمُ المُؤمِنِينَ؛ اختِبَارًا لهم وَامتِحَانًا لِقُوَّةِ إِيمَانِهِم، (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُترَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُم لا يُفتَنُونَ * وَلَقَد فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبلِهِم فَلَيَعلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعلَمَنَّ الكَاذِبِينَ)، وَفي مَوقِفِ القِيَامَةِ يَقُولُ الجَبَّارُ لِمَن خَفَّت مَوَازِينُهُم: (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِن عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغفِرْ لَنَا وَارحَمْنَا وَأَنتَ خَيرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذتُمُوهُم سِخرِيًّا حَتَّى أَنسَوكُم ذِكرِي وَكُنتُم مِنهُم تَضحَكُونَ * إِنِّي جَزَيتُهُمُ اليَومَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُم هُمُ الفَائِزُونَ).
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَاصبِرُوا فَإِنَّ الأَمرَ بِيَدِ اللهِ مِن قَبلُ وَمِن بَعدُ، (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعضُهُم إِلى بَعضٍ زُخرُفَ القَولِ غُرُورًا وَلَو شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُم وَمَا يَفتَرُونَ * وَلِتَصغَى إِلَيهِ أَفئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرضَوهُ وَلِيَقتَرِفُوا مَا هُم مُقتَرِفُونَ).
الخطبة الثانية
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَكُلَّمَا استَهزَأَ الكَفَرَةُ بِالحَبِيبِ صلى الله عليه وسلم كَانَ في ذَلِكَ ارتِفَاعٌ لِصِيتِهِ وَذِكرِهِ عَلَيهِ السَّلامُ، وَمِن ثَمَّ انتِشَارٌ أَكبرُ لِدِينِ الإِسلامِ، وَكُلَّمَا استَهزَأَ الجَاهِلُونَ بِالحَبِيبِ صلى الله عليه وسلم كَانَ ذَلِكَ دَاعِيًا لِلمُسلِمِينَ لِلتَّمَسُّكِ بِهَديِهِ وَسُنَّتِهِ وَالعَضِّ عَلَيهَا بِالنَّوَاجِذِ.
وَإِنَّهُ لَمَّا نُشِرَتِ الرُّسُومُ السَّاخِرَةُ أَوَّلَ مَرَّةٍ قَبلَ سَنَتَينِ تَقرِيبًا حَصَلَ مِنَ المُسلِمِينَ حِيَالَهَا مَا يُثلِجُ الصَّدرَ وَيُبهِجُ النَّفسَ، وَبَدَا مِن رُدُودِ أَفعَالِهِم تِجَاهَهَا مَا أَثبَتُوا فِيهِ مَحَبَّتَهُم لِنَبِيِّهِم، وَكَانَ ممَّا دَعَا إِلَيهِ كَثِيرٌ مِنَ المُسلِمِينَ وَتَبَنَّاهُ عَدَدٌ مِنَ الغَيُورِينَ فِكرَةُ المُقَاطَعَةِ الاقتِصَادِيَّةِ، مُقَاطَعَةُ الدُّوَلِ التي استُهزِئَ فِيهَا بِرَسُولِ اللهِ، فَلا تُشتَرَى بَضَائِعُهُم وَلا يُلتَفَتُ إِلى سِلَعِهِم،؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ ضَغطًا اقتِصَادِيًّا عَلَيهِم لِيُحِسُّوا بِشَنَاعَةِ فَعلَتِهِم وَفَدَاحَةِ جَرِيمَتِهِم في حَقِّ نَبيِّ الإِسلامِ فَيَرجِعُوا، وَهَذَا الأَمرُ وَإِن كَانَ صَحِيحًا في الجُملَةِ نُصرَةً لِلحَبِيبِ وَغَيرَةً عَلَيهِ أَن يُنَالَ مِنهُ في خَلقِهِ أَو خُلُقِهِ أَو فِيمَا جَاءَ بِهِ إِلاَّ أَنَّهُ لَيسَ المَوقِفَ الوَحِيدَ الَّذِي يَجِبُ أَن نَفعَلَهُ، بَل إِنَّ ثَمَّةَ مَوَاقِفَ أُخرَى لِنُصرَتِهِ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ هِيَ أَهَمُّ مِنَ المُقَاطَعَةِ الاقتِصَادِيَّةِ، وَأَولى بِأَن يَقِفَهَا كُلُّ مُسلِمٍ، وَمَعَ هَذَا لا تَجِدُ مِنَ النَّاسِ فِيهَا إِلاَّ الفُتُورَ وَالبُرُودَةَ:
أَوُّلُهَا: المُقَاطَعَةُ الفِكرِيَّةُ وَالقَلبِيَّةُ لِلمُشرِكِينَ وَالكُفَّارِ، يَهُودًا كَانُوا أَو نَصَارَى، أَو شُيُوعِيِّينَ أَو بُوذِيِّينَ أَو غَيرَهُم، فَإِنَّ المُسلِمَ الَّذِي رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم رَسُولاً وَبِالإِسلامِ دِينًا المُسلِم الذِي أَحَبَّ اللهَ وَرَسُولَهُ لا يُمكِنُ بِحَالٍ أَن يُوَالِيَ مَن عَادَاهُمَا أَو يُحِبَّهُ أَو يَتَشَبَّهَ بِهِ، فَضلاً عَن أَن يَمدَحَهُ أَو يُعجَبَ بِمَا جَاءَ بِهِ، قَالَ سُبحَانَهُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الكَافِرِينَ أَولِيَاءِ مِن دُونِ المُؤمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجعَلُوا للهِ عَلَيكُم سُلطَانًا مُبِينًا)، وَقَالَ تَعَالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَولِيَاءَ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُم فَإِنَّهُ مِنهُم إِنَّ اللهَ لاَ يهدِي القَومَ الظَّالِمِينَ)، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُم هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبلِكُم وَالكُفَّارَ أَولِيَاءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ)، وَقَالَ سُبحَانَهُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُم أَولِيَاء تُلقُونَ إِلَيهِم بِالمَوَدَّةِ وَقَد كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِنَ الحَقِّ).
وَمِن أَهَمِّ الأُمُورِ في نُصرَةِ الحَبِيبِ صلى الله عليه وسلم، بَل هُوَ مَعنى شَهَادَةِ، أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ، وَاجتِنَابُ مَا نهى عَنهُ، وَأَن لاَّ يُعبَدَ اللهُ إِلاَّ بِمَا شَرَعَ، (مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَد أَطَاعَ اللهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرسَلنَاكَ عَلَيهِم حَفِيظًا)، (وَمَن يَعصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَد ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا)، (وَمَن يَعصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا).
إِنَّ عَلَى المُسلِمِينَ أَن يَدرُسُوا حَيَاتَهُ صلى الله عليه وسلم وَسِيرَتَهُ، وَأَن يَنشُرُوا عِلمَهُ وَيُحيُوا سُنَّتَهُ، وَأَن يَدعُوا إِلى هَديِهِ وَطَرِيقَتِهِ، وَأَن يَتَخَلَّقُوا بِأَخلاقِهِ وَيَتَّصِفُوا بما كَانَ عَلَيهِ، فَقَد قَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: «مَن رَغِبَ عَن سُنَّتي فَلَيسَ مِني». وَإِنَّكَ لَتَرَى في المُسلِمِينَ اليَومَ تَهَاوُنًا بِالسُّنَنِ وَتَقصِيرًا في الطَّاعَاتِ، بَل وَتَركًا لِلفُرُوضِ وَإِخلالاً بِالوَاجِبَاتِ وَإِضَاعَةً لِلصَّلَوَاتِ وَاتِّبَاعًا لِلشَّهَوَاتِ وَوُقُوعًا في الحَرَامِ وَالشُّبُهَاتِ، فَأَيُّ نُصرَةٍ لِلنَّبيِّ تُرجَى مِن مِثلِ هَؤُلاءِ؟! أَيُّ نُصرَةٍ تُرجَى ممَّن يَترُكُ صَلاةَ الفَجرِ وَيُؤثِرُ النَّومَ؟! أَيُّ نُصرَةٍ تُرجَى ممَّن يَتَهَاوَنُ بِصَلاةِ الجَمَاعَةِ وَيَهجُرُ المَسجِدَ؟! أَيُّ نُصرَةٍ تُرجَى ممَّن يَأكُلُ الرِّبَا وَلا يَسأَلُ عَن حِلِّ المُسَاهَمَاتِ وَالمُعَامَلاتِ مِن حُرمَتِهَا؟! أَيُّ نُصرَةٍ تُرجَى ممَّن لا يَتَوَرَّعُ عَن النَّظَرِ إِلى الحَرَامِ وَاستِمَاعِ الحَرَامِ في قَنَاةٍ أَو جَوَّالٍ أَو مِذيَاعٍ أَو صَحِيفَةٍ؟! وَهَبْ أَنَّكَ قَاطَعتَ سِلَعَ مَنِ استَهزَؤُوا بِالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَهَل قَاطَعتَ مَعَ ذَلِكَ فِكرَهَم وَعَمَلَهُم؟! هَلِ اجتَنَبتَ مَسَالِكَهُم وَطُرُقَهُم؟! هَلِ استَقَمتَ عَلَى الطَّرِيقَةِ في عَامَّةِ أَمرِكَ وَخَاصَّتِهِ أَم أَنَّ بَيتَكَ يَعُجُّ بِالمَعَاصِي وَالمُنكَرَاتِ وَإِضَاعَةِ الصَّلاةِ وَاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ؟!
فَيَا أَيُّهَا المُسلِمُونَ، عُودُوا إِلى رَبِّكُم، وَتُوبُوا إِلَيهِ مِن تَقصِيرِكُم، وَانصُرُوا نَبِيَّكُم وَحَبِيبَكُم بِالتَّمَسُّكِ بِدِينِكُم وَالعَمَلِ بِهِ في كُلِّ وَقتٍ وَحِينٍ، (لِتُؤمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكرَةً وَأَصِيلاً). اُنصُرُوا نَبِيَّكُم بِالدَّعوَةِ إِلى اللهِ عَلَى طَرِيقَتِهِ، اُدعُوا إِلى اللهِ بِأَلسِنَتِكُم وَأَموَالِكُم، اُدعُوا إِلى اللهِ بِتَمَسُّكِكُم وَثَبَاتِكُم، اُدعُوا إِلى اللهِ في بُيُوتِكُم وَمَنَازِلِكُم، اُدعُوا إِلى اللهِ في حِلِّكُم وَترحَالِكُم، اُنشُرُوا السُّنَّةُ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ، وَحَارِبُوا البِدعَةَ وَالرَّذِيلَةَ، وَاعلَمُوا أَنَّكُم سَتَلقَونَ نَبِيَّكُم صلى الله عليه وسلم عَلَى الحَوضِ يَنتَظِرُكُم، فَيُذَادُ أَقوَامٌ ذَاتَ الشِّمَالِ وَلا حَولَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ، فَيَقُولُ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ؛ شَفَقَةً مِنهُ وَرَحمَةً: «يَا رَبِّ أُمَّتي»، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لا تَدرِي مَا أَحدَثُوا بَعدَكَ، إِنهم كَانُوا يَمشُونَ القَهقَرَى بَعدَكَ. فَاحذَرُوا أَن تَكُونُوا مِن هَؤُلاءِ، فَإِنَّهُ –وَاللهِ- لَو كَانَ أَحَدٌ تَمَسَّكَ بِعَهدِ أَحَدٍ ثم تَرَكَهُ وَتَفَلَّتَ مِنهُ لَكَانَ ذَلِكُم عَيبًا عَلَيهِ وَنَقصًا في حَقِّهِ، فَكَيفَ بِمَن ذَاقَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، وَرَفَعَهُ اللهُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، وَعَاهَدَ اللهَ وَاستَقَامَ زَمَنًا، ثم هُوَ يَتَرَاجَعُ بَعدَ ذَلِكَ وَيَتَقَهقَرُ وَيَفتُرُ وَيَضعُفُ وَيَتَرَاخَى، وَيَسقُطُ وَيَترُكُ بَعضَ مَا كَانَ عَلَيهِ مِن خَيرٍ وَبِرٍّ وَمُحَافَظَةٍ عَلَى الصَّلاةِ وَحِرصٍ عَلَى تَطبِيقِ السُّنَنِ وَحُضُورٍ لِمَجَالِسِ العِلمِ وَالذِّكرِ، وَيَتَحَوَّلُ إِلى أَعمَالٍ وَتَصَرُّفَاتٍ لا تُرضِي اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسمَحُ لأَهلِهِ وَفي بَيتِهِ بِمُخَالَفَةِ الدِّينِ وَنَبذِ السِّترِ وَتَركِ التَّحَشُّمِ، وَيَستَبدِلُ بِمُصَاحَبَةِ أَهلِ الخَيرِ وَالسَّائِرِينَ إِلى الآخِرَةِ مَجَالِسَ الفُسَّاقِ وَأَهلِ الشَّرِّ وَالرَّاكِنِينَ إِلى الدُّنيَا؟!
فَالحَذَرَ الحَذَرَ، (قَد يَعلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُم لِوَاذًا فَلْيَحذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَن أَمرِهِ أَن تُصِيبَهُم فِتنَةٌ أَو يُصِيبَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ).
أَلا وَإِنَّ ممَّا يُعتَقَدُ أَنَّهُ مِنَ النُّصرَةِ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَيسَ كَذَلِكَ مَا تُملِيهِ الحَمَاسَةُ غَيرُ المَضبُوطَةِ عَلَى بَعضِ الغَيُورِينَ الجَاهِلِينَ، فَيَعتَدُونَ عَلَى رَعَايَا تِلكَ البِلادِ التي سُخِرَ فِيهَا مِنَ النَّبيِّ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ أَو يُفَجِّرُونَ فِيهَا أَو يُشعِلُونَ الحَرَائِقَ فَيُفسِدُونَ مَا لا يَجُوزُ لهم إِفسَادُهُ، وَقَد يَقتُلُونَ أَنفُسًا لا حَقَّ لهم في قَتلِهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ ممَّا يُرِيدُهُ أُولِئَكَ الكَفَرَةُ حِينَ نَشَرُوا تِلكَ الرُّسُومَ المُسِيئَةَ لِنَبِيِّنَا، مُرِيدِينَ بها استِفزَازَ المُسلِمِينَ وَإِخرَاجَهُم عَن حَدِّ الاعتِدَالِ وَإِبرَازَهُم بِمَظهَرِ الهَمَجِ أَوِ الإِرهَابِيِّينَ، الذِينَ لا يُفَرِّقُونَ بَينَ مَا يُصلِحُ وَبَينَ مَا فِيهِ الفَسَادُ. أَلا فَلْيُتَنَبَّهْ لِذَلِكَ، فَإِنَّ اللهَ لا يُصلِحُ عَمَلَ المُفسِدِينَ، (وَلاَ تَعتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبِّ المُعتَدِينَ). وَأَبشِرُوا وَأَمِّلُوا خَيرًا؛ فَإِنَّ الدِّينَ ظَاهِرٌ وَالحَبِيبَ مَكفِيٌّ وَمَنصُورٌ (هُوَ الَّذِي أَرسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَو كَرِهَ المُشرِكُونَ)، (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَد نَصَرَهُ اللهُ)، (إِنَّا كَفَينَاكَ المُستَهزِئِينَ).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم