قضايا الشباب (7) عقوق الوالدين وقطيعة الرحم

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

فَيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: أَرَأَيْتُمْ حَيَاةً تَسْتَقِيمُ بِلَا قَضَاءِ الْحُقُوقِ فِيهَا، وَأُسْرَةٍ تَسْتَقِرُّ وَتَسْتَرِيحُ دُونَ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ مِنْ ذَوِيِهَا؟

 

فَشَتَّانَ شَتَّانَ بَيْنِ عَيْشِ إِنْسَانٍ يُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ، وَعَيْشِ آخَرَ مُضَيِّعٍ أَوْ مُقَصِّرٍ، فَيَا سَعَادَةَ مَنْ قَامَ بِوَاجِبَاتِهِ، وَيَا شَقَاءَ مَنْ ضَيَّعَهَا.

 

إِنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا -مَعْشَرَ الْكِرَامِ- فِي الْحُقُوقِ الْبَشَرِيَّةِ أَوْجَبَ مِنْ حَقِّ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَرْحَامِ؛ فَبِهَذَا الْحَقِّ أَمَرَ الشَّارِعُ وَرَغَّبَ، وَعَنِ التَّقْصِيرِ فِيهِ نَهَى وَرَهَّبَ فَقَالَ -تَعَالَى-: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى)[النِّسَاءِ: 36]، وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)[مُحَمَّدٍ: 22-23]، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ؟ قَالَ: "أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أَبُوكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ -ثَلَاثًا-"، قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ..."(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

عِبَادَ اللَّهِ: وَمَعَ تَأَكُّدِ هَذَا الْحَقِّ وَحُرْمَةِ التَّقْصِيرِ فِيهِ إِلَّا أَنَّنَا نَجِدُ مِنَ الشَّبَابِ مَنْ يَعُقُّ وَالِدَيْهِ وَيَقْطَعُ صِلَةَ رَحِمِهِ، فَيَا لَلَّهِ كَمْ مِنَ الشَّبَابِ مَنْ أَسَالَ عُقُوقُهُ دَمْعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْخُدُودِ، وَجَرَّعَهُمَا أَلْوَانًا مِنَ التَّمَرُّدِ وَالصُّدُودِ، وَكَمْ شَبَابٍ أَذَاقُوا أَرْحَامَهُمْ أَوْجَاعَ الْقَطِيعَةِ، بَلْ وَصَلَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنْ يَصْنَعَ بِهِمْ أَعْمَالًا فَظِيعَةً، فَأَيْنَ أَيْنَ الْأَخْلَاقُ الْإِنْسَانِيَّةُ إِنْ لَمْ تَكُنْ لَدَى هَؤُلَاءِ أَخْلَاقٌ إِيمَانِيَّةٌ؟

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: وَالْمُتَأَمِّلُ فِي حَالِ بَعْضِ الشَّبَابِ -هَدَاهُمُ اللَّهُ- يَجِدُ مَظَاهِرَ عِدَّةً لِلْعُقُوقِ وَالْقَطِيعَةِ، فَمِنْ ذَلِكَ:

تَرْكُ طَاعَةِ الْوَالِدَيْنِ فِي أَوَامِرِهِمَا وَنَوَاهِيهِمَا، فَكَمْ مِنْ أُمٍّ أَوْ أَبٍ يَأْمُرُ ابْنَهُ الشَّابَّ بِأَمْرٍ أَوْ يَنْهَاهُ فَلَا يَجِدُ مِنْهُ الطَّاعَةَ وَالْإِذْعَانَ، بَلْ يُوَاجِهُهُ بِالْمُخَالَفَةِ وَالْعِصْيَانِ، هَذَا إِذَا لَمْ يَصِلْ إِلَى رَفْعِ صَوْتِهِ فَوْقَ صَوْتِ أُمِّهِ وَأَبِيهِ أَوْ لَعْنِهِمَا أَوْ سَبِّهِمَا، وَرُبَّمَا بَلَغَ بِهِ الْعُقُوقُ إِلَى ضَرْبِهِمَا أَوْ ضَرْبِ أَحَدِهِمَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَعَنَ اللَّهُ مَنْ سَبَّ وَالِدَيْهِ"(صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).

 

أَلَمْ يُدْرِكِ التَّارِكُ لِأَمْرِ وَالِدَيْهِ أَنَّ طَاعَةَ الْوَالِدَيْنِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ! فَقَدْ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ. فَقَالَ: "أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

وَمِنْ مَظَاهِرِ الْعُقُوقِ: تَرْكُ خِدْمَةِ الْوَالِدَيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ، خُصُوصًا عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالْكِبَرِ، فَكَمْ مِنْ شَابٍّ يَدَعُ وَالِدَيْهِ وَيَنْشَغِلُ بِشَهَوَاتِهِ وَأَصْدِقَائِهِ وَزَوْجَتِهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ وَالِدَيْهِ فِي أَشَدِّ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، دُونَ أَنْ يَرِقَّ لَهُ قَلْبٌ أَوْ يَلِينَ لَهُ عَلَيْهِمَا جَانِبٌ وَهُوَ يُرَى أَلَمَ الْحَاجَةِ يَقْصِمُ ظَهْرَيْ وَالِدَيْهِ، وَيُسِيلُ دُمُوعَهُمَا الْبَائِسَةَ، قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ)[الْإِسْرَاءِ: 23-24].

 

يَذْكُرُ بَعْضُ الْمُؤَرِّخِينَ أَنَّ كِلَابَ بْنَ أُمَيَّةَ خَرَجَ غَازِيًا، وَكَانَ أَبُوهُ قَدْ كَبِرَ وَضَعُفَ فَلَمَّا طَالَتْ غَيْبَةُ كِلَابٍ عَنْهُ قَالَ:

لِمَنْ شَيْخَانِ قَدْ نَشَدَا كِلَابًا *** كِتَابَ اللَّهِ لَوْ قَبِلَ الْكِتَابَا

إِلَى قَوْلِهِ:

فَإِنَّكَ وَابْتِغَاءَ الْأَجْرِ بَعْدِي *** كَبَاغِي الْمَاءِ يَتَّبِعُ السَّرَابَا

 

فَبَلَغَ ذَلِكَ عَمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَأَمَرَ بِإِقْفَالِ كِلَابٍ، فَلَمَّا جَاءَ دَخَلَ عَلَى عُمَرَ فَقَالَ لَهُ: "مَا بَلَغَ مِنْ بِرِّكَ بِأَبِيكَ؟ قَالَ: كُنْتُ أُوثِرُهُ وَأَكْفِيهِ أَمْرَهُ، وَكُنْتُ أَعْتَمِدُ إِذَا أَرَدْتُ أَنْ أَحْلِبَ لَهُ لَبَنًا أَغْزَرَ نَاقَةٍ فِي إِبِلِهِ وَأَسْمَنَهَا، فَأُرِيحُهَا فَأَتْرُكُهَا حَتَّى تَسْتَقِرَّ، ثُمَّ أَغْسِلُ أَخْلَافَهَا حَتَّى تَبْرُدَ، ثُمَّ أَحْلِبُ لَهُ فَأَسْقِيهِ. فَبَعَثَ عُمَرُ إِلَى أُمَيَّةَ فَجَاءَ يَتَهَادَى وَقَدْ ضَعُفَ بَصَرُهُ وَانْحَنَى فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ أَنْتَ يَا أَبَا كِلَابٍ؟ فَقَالَ: كَمَا تَرَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: فَهَلْ لَكَ مِنْ حَاجَةٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَشْتَهِي أَنْ أَرَى كِلَابًا فَأَشُمَّهُ شَمَّةً، وَأَضُمَّهُ ضَمَّةً قَبْلَ أَنْ أَمُوتَ، فَبَكَى عُمَرُ وَقَالَ: سَتَبْلُغُ فِي هَذَا مَا تُحِبُّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَمَرَ كِلَابًا أَنْ يَحْتَلِبَ لِأَبِيهِ نَاقَةً كَمَا كَانَ يَفْعَلُ، وَيَبْعَثَ إِلَيْهِ بِلَبَنِهَا. فَفَعَلَ، فَنَاوَلَهُ عُمَرُ الْإِنَاءَ وَقَالَ: دُونَكَ هَذَا يَا أَبَا كِلَابٍ. فَلَمَّا أَخَذَهُ وَأَدْنَاهُ إِلَى فَمِهِ قَالَ: لَعَمْرُ اللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي لِأَشُمُّ رَائِحَةَ يَدَيْ كِلَابٍ مِنْ هَذَا الْإِنَاءِ. فَبَكَى عُمَرُ وَقَالَ لَهُ: هَذَا كِلَابٌ عِنْدَكَ حَاضِرٌ قَدْ جِئْنَاكَ بِهِ. فَوَثَبَ إِلَى ابْنِهِ فَضَمَّهُ إِلَيْهِ وَقَبَّلَهُ، وَجَعَلَ عُمَرُ يَبْكِي وَمَنْ حَضَرَهُ، وَقَالَ لِكِلَابٍ: الْزَمْ أَبَوَيْكَ فَجَاهِدْ فِيهِمَا مَا بَقِيَا، ثُمَّ شَأْنَكَ بِنَفْسِكَ بَعْدَهُمَا".

 

أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْفُضَلَاءُ: وَأَمَّا قَطِيعَةُ الرَّحِمِ فَمَظَاهِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ لَدَى الشَّبَابِ؛ وَمِنْهَا:

تَرْكُ صِلَةِ أَرْحَامِهِ وَالسُّؤَالِ عَنْهُمْ، فَكَمْ مِنْ شَابٍّ يَصِلُ أَصْحَابَهُ، وَيَسْأَلُ عَنْهُمْ وَيَتَوَاصَلُ بِهِمْ وَلَا يَنْقَطِعُ عَنْ تَتَبُّعِ أَخْبَارِهِمْ، أَمَّا أَرْحَامُهُ فَبَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ خَنْدَقٌ مِنَ الْقَطِيعَةِ وَالتَّنَاسِي؛ فَلَا زِيَارَةَ وَلَا مُشَارَكَةَ لَهُمْ فِي أَفْرَاحِهِمْ وَأَتْرَاحِهِمْ، وَلَا سُؤَالَ عَنْ أَحْوَالِهِمْ وَأَخْبَارِهِمْ، وَنَسِيَ هَذَا الشَّابُّ الْقَاطِعُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

وَمِنْ مَظَاهِرِ قَطِيعَةِ الْأَرْحَامِ: التَّقْصِيرُ فِي الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ يَكُونُ فِي غِنًى وَأَرْحَامُهُ فِي فَقْرٍ فَلَا يَمُدُّ إِلَيْهِمْ يَدَ الْعَطَاءِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي قُوَّةٍ وَقُدْرَةٍ وَهُمْ فِي ضَعْفٍ وَعَجْزٍ فَلَا يُعِينُهُمْ كَمَا يَفْعَلُ الْمُحْسِنُونَ الْقَادِرُونَ الْأَقْوِيَاءُ، أَلَمْ يَبْلُغْ هَذَا الْبَخِيلَ بِإِحْسَانِهِ قَوْلُ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

أَيُّهَا الْكِرَامُ الْأَخْيَارُ: لَعَلَّكُمْ تَتَسَاءَلُونَ: مَا الَّذِي أَوْصَلَ بَعْضَ الشَّبَابِ إِلَى أَنْ يَرْكَبُوا مَرْكَبَ الْعُقُوقِ وَالْقَطِيعَةِ الْمُهْلِكَ؟

 

فَنَقُولُ: هُنَاكَ أَسْبَابٌ أَدَّتْ إِلَى ذَلِكَ، فَمِنْهَا: ضَعْفُ الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ، وَقِلَّةُ الْإِيمَانِ بِهِ؛ إِذْ لَوْ كَانَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ خَوْفٌ عَظِيمٌ مِنَ اللَّهِ وَإِيمَانٌ قَوِيٌّ بِهِ لَمَا عَصَاهُ فِي حُقُوقِ وَالِدَيْهِ وَأَرْحَامِهِ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِالْبِرِّ وَالصِّلَةِ، وَنَهَى عَنِ الْعُقُوقِ وَالْقَطِيعَةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ- وَذَكَرَ مِنْهُمْ-: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ..."(صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ)، وَقَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

وَمِنْ أَسْبَابِ الْعُقُوقِ وَالْقَطِيعَةِ: مُجَالَسَةُ أَهْلِ السُّوءِ، فَكَمْ مِنْ شَابٍّ كَانَ بَارًّا بِوَالِدَيْهِ، وَصُولًا لِأَرْحَامِهِ فَلَمَّا جَالَسَ رُفَقَاءَ الشَّرِّ غَيَّرُوا فِيهِ الْبِرَّ إِلَى عُقُوقٍ، وَالصِّلَةَ إِلَى قَطِيعَةٍ، "وَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارِنِ يَقْتَدِي".

 

إِنَّ عَقَقَةَ الْوَالِدَيْنِ، وَقُطَّاعَ صِلَةِ الرَّحِمِ غَفَلُوا عَنِ الْآثَارِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى مَعْصِيَتِهِمْ هَذِهِ: فَقَدْ غَفَلُوا عَنِ الْعُقُوبَةِ الْمُعَجَّلَةِ؛ إِذْ جَزَاءُ عُقُوقِ الْآبَاءِ عُقُوقُ الْأَبْنَاءِ، وَقَطْعُ الصِّلَةِ مِثْلُهَا؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "بَابَانِ مُعَجَّلَانِ عُقُوبَتُهُمَا فِي الدُّنْيَا: الْبَغْيُ وَالْعُقُوقُ"(صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).

 

قِيلَ: كَانَ جَرِيرٌ الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ مِنْ أَعَقِّ النَّاسِ بِأَبِيهِ، وَكَانَ ابْنُهُ بِلَالٌ أَعَقَّ النَّاسِ بِهِ، فَرَاجَعَ جَرِيرٌ بِلَالًا فِي الْكَلَامِ، فَذَكَرَ لِأَبِيهِ كَلَامًا سَيِّئًا، فَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِ أُمُّهُ وَقَالَتْ: يَا عَدُوَّ اللَّهِ، تَقُولُ هَذَا لِأَبِيكَ؟! فَقَالَ لَهَا جَرِيرٌ: دَعِيهِ؛ فَوَاللَّهِ لَكَأَنِّي أَسْمَعُهَا وَأَنَا أَقُولُهَا لِأَبِي!!.

 

وَلَعَلَّهُمْ غَفَلُوا أَوْ تَغَافَلُوا عَنِ الْإِثْمِ الْكَبِيرِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى هَاتَيْنِ الْمَعْصِيَتَيْنِ: فَقَدْ ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْكَبَائِرُ فَقَالَ: "الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ..."(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَبْغَضُ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: "الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ". قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: "ثُمَّ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ"(صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).

 

وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "صِلُوا أَرْحَامَكُمْ؛ فَإِنَّ فِي صِلَةِ الرَّحِمِ مِنْسَأَةً فِي الْأَجَلِ، وَزِيَادَةً فِي الْعَدَدِ، وَاتْرُكُوا الْبَغْيَ وَالْعُقُوقَ؛ فَفِيهِمَا هَلَكَتِ الْقُرُونُ قَبْلَكُمْ".

عَلَيْكَ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ كِلَيْهِمَا *** وَبِرِّ ذَوِي الْقُرْبَى وَبِرِّ الْأَبَاعِدِ

 

نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَ شَبَابَنَا إِلَى الْبِرِّ وَالصِّلَةِ، وَأَنْ يَجْعَلَهُمْ مِنَ الْبَرَرَةِ الْوَصَلَةِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.

 

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ.

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْكَبِير الْمُتَعَالِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ الْأَمِينِ الْمِفْضَالِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ ذَوِي الْمَنَاقِبِ وَطَيِّبِ الْخِصَالِ؛ أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ اتِّصَافَ بَعْضِ الشَّبَابِ بِالْعُقُوقِ وَالْقَطِيعَةِ مَرَضٌ خَطِيرٌ يَحْتَاجُ إِلَى وَسَائِلَ دَوَائِيَّةٍ تُذْهِبُهُ عَنْهُمْ، فَمِنْهَا:

تَعْرِيفُهُمْ تَعْرِيفًا كَافِيًا بِعِظَمِ حَقِّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَثَمَرَةِ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ فَإِنَّ الْعِلْمَ بِالشَّيْءِ وَثَمَرَتِهِ يُعِينُ عَلَى أَدَائِهِ، وَكَمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْآيَاتِ، وَفِي سُنَّةِ رَسُولِهِ الْكَرِيمِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْبَيِّنَاتِ، وَفِي الْوَاقِعِ مِنَ الْعِبَرِ وَالْعِظَاتِ الَّتِي تُبَيِّنُ عِظَمَ هَذَيْنِ الْحَقَّيْنِ:

فَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ حَقَّ الْوَالِدَيْنِ بِتَوْحِيدِهِ فَقَالَ: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)[الْإِسْرَاءِ: 23]، وَجَعَلَ الصِّلَةَ مِنْ أَسْبَابِ دُخُولِ الْجَنَّةِ فَقَالَ: (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) إِلَى قَوْلِهِ: (أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا)[الرَّعْدِ: 21-23]، وَجَعَلَ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-رِضَا اللَّهِ حَاصِلًا لِلْوَلَدِ بِرِضَا وَالِدَيْهِ عَنْهُ وَسُخْطَهُ بِسُخْطِهِمَا عَلَيْهِ؛ فَقَالَ: "رِضَا اللَّهِ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ، وَسُخْطُ اللَّهِ فِي سُخْطِ الْوَالِدَيْنِ"(حَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ لِغَيْرِهِ).

 

وَعَدَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَجْرَ الْإِحْسَانِ إِلَى الرَّحِمِ مُضَاعَفًا فَقَالَ: "الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ: صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ "(حَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ).

 

وَمِنَ الْوَسَائِلِ الْمُعِينَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالصِّلَةِ: مُجَالَسَةُ الصَّالِحِينَ، وَالِاقْتِدَاءُ بِهِمْ، وَقِرَاءَةُ أَخْبَارِ الْبَارِّينَ وَالْوَاصِلِينَ؛ فَقَدْ قِيلَ فِي الْمَثَلِ: "أَبَرُّ مِنَ الْعَمَلَّسِ" فَقَدْ كَانَ رَجُلًا بَارًّا بِأُمِّهِ، يَحْمِلُهَا عَلَى عَاتِقِهِ، وَيَحُجُّ بِهَا عَلَى ظَهْرِهِ كُلَّ سَنَةٍ، فَضَرَبُوا بِهِ الْمَثَلَ، لِيَتَأَسَّى بِهِ الْبَنُونَ فِي بِرِّ الْأُمَّهَاتِ. فَقِيلَ:

وَضَرَبُوا الْأَمْثَالَ بِالْعَمَلَّسِ *** فِي الْبِرِّ كَيْ بِهِ الْبَنُونَ تَأْتَسِي

 

وَ"بَلَغَ بِالْفَضْلِ بْنِ يَحْيَى مِنَ الْبِرِّ بِأَبِيهِ أَنَّهُ لَمَّا حُبِسَا مَعًا مُنِعَا الْحَطَبَ وَالزَّمَانُ شِتَاءٌ، وَكَانَ الْفَضْلُ يَقُومُ حِينَ يَأْخُذُ يَحْيَى مَضْجَعَهُ مِنَ اللَّيْلِ فَيَأْخُذُ قُمْقُمًا مَمْلُوءًا مَاءً وَيَرْفَعُهُ إِلَى الْقِنْدِيلِ وَيَبِيتُ سَاهِرًا حَتَّى يُصْبِحَ وَقَدْ سُخِّنَ الْمَاءُ فَيَتَوَضَّأُ بِهِ يَحْيَى، هَذَا مَعَ ضَعْفِهِ، وَقِلَّةِ صَبْرِهِ عَلَى الشَّقَاءِ".

 

أَيُّهَا الشَّبَابُ: عَلَيْكُمْ بِالْبِرِّ وَالصِّلَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْعُقُوقَ وَالْقَطِيعَةَ؛ فَالْبِرُّ وَالصِّلَةُ نَجَاةٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْعُقُوقُ وَالْقَطِيعَةُ خَسَارَةٌ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، وَلَا إِخَالُكُمْ -أَيُّهَا الشَّبَابُ الطَّمُوحُ- إِلَّا تَطْمَحُونَ إِلَى النَّجَاةِ وَالْفَوْزِ الْكَبِيرِ.

 

نَسْأَلُ اللَّهَ لِشَبَابِنَا التَّوْفِيقَ لِلْبِرِّ وَالصِّلَةِ، وَأَنْ يُعِيذَهُمْ مِنْ كُلِّ أَسْبَابِ الْعُقُوقِ وَالْقَطِيعَةِ.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

 

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

 

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.