عناصر الخطبة
1/المقصود بالرفقة السيئة؟ 2/أسباب نشأة العلاقات السيئة بين الشباب وبعض مظاهرها 3/آثار الرفقة السيئة في الدنيا والآخرة 4/من قصص رفقاء السوء وأخبارهم 5/كيف نحمي شبابنا من رفقاء السوء؟اقتباس
فَإِيَّاكَ إِيَّاكَ أَيُّهَا الشَّابُّ وَرُفْقَةَ السُّوءِ؛ فَإِنَّهَا هَمُّ الدُّنْيَا وَعَذَابُ الْآخِرَةِ، رُفْقَةُ السُّوءِ نَارٌ تَحْرِقُ، وَجَحِيمٌ يَلْتَهِبُ، وَرِيحٌ خَبِيثَةٌ تَفُوحُ، وَغَوَايَةٌ وَضَلَالَةٌ وَفَسَادٌ، فَكُنْ مِنْهَا عَلَى حَذَرٍ، وَالْبَسْ لَهَا ثَوْبَ الْخَطَرِ قَبْلَ أَنْ تَعَضَّ أَصَابِعَ النَّدَمِ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
فَيَا عِبَادَ اللَّهِ: صَدَقَ مَنْ قَالَ: "اخْتَرِ الصَّدِيقَ قَبْلَ الطَّرِيقِ"، فَإِنَّ مِنَ الْأَصْدِقَاءِ وَالرُّفَقَاءِ مَنْ هُوَ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَسْتَوْجِبُ الشُّكْرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ نِقْمَةٌ وَبَلَاءٌ وَمُصِيبَةٌ وَدَاءٌ مِنَ الْأَدْوَاءِ! مِنْهُمْ مَنْ يَدُلُّكَ عَلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسُوقُكَ إِلَى طَرِيقِ جَهَنَّمَ -وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ-، وَحَدِيثُنَا الْيَوْمَ عَنِ النَّوْعِ الثَّانِي مِنَ الرُّفَقَاءِ؛ وَهُوَ الرُّفْقَةُ السَّيِّئَةُ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّنَا نَقْصِدُ بِالرُّفْقَةِ السَّيِّئَةِ كُلَّ رُفْقَةٍ اجْتَمَعَتْ عَلَى غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ وَتَعَاوَنَتْ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، كُلَّ رُفْقَةٍ تَأْمُرُ أَفْرَادَهَا بِالْمُنْكَرِ وَتَنْهَاهُمْ عَنِ الْمَعْرُوفِ، كُلَّ رُفْقَةٍ تُضَيِّعُ الْفَرَائِضَ وَالْوَاجِبَاتِ، وَلَا تَتَنَاهَى عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ؛ فَهَذَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ يُجَلِّي لَنَا شَيْئًا مِنْ أَوْصَافِهَا قَائِلًا: "لَا تُصَاحِبْ صَاحِبَ السُّوءِ؛ فَإِنَّهُ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ، لَا يَسْتَقِيمُ وُدُّهُ، وَلَا يَفِي بِعَهْدِهِ"(رَوْضَةُ الْعُقَلَاءِ).
وَلَا يَغُرَّنَّكَ مِنْ صَاحِبِ السُّوءِ مَظْهَرُهُ، فَقَدْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: "يَا بُنَيَّ! إِيَّاكَ وَصَاحِبَ السُّوءِ، فَإِنَّهُ كَالسَّيْفِ الْمَسْلُولِ؛ يُعْجِبُكَ مَنْظَرُهُ وَيَقْبُحُ أَثَرُهُ".
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ هُنَاكَ أَسْبَابًا عَدِيدَةً لِوُقُوعِ الشَّابِّ بَيْنَ رُفْقَةٍ سَيِّئَةٍ، وَلَعَلَّ مِنْ أَهَمِّهَا:
الْجَهْلُ بِتَعَالِيمِ الدِّينِ الَّتِي تَأْمُرُ بِصُحْبَةِ الْأَخْيَارِ وَتُحَذِّرُ مِنْ صُحْبَةِ الْأَشْرَارِ؛ كَقَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا"(حَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ)، وَالدِّينُ كَذَلِكَ يَأْمُرُهُ بِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَلَوْ لَزِمَهَا لَتَعَرَّفَ عَلَى الرُّفْقَةِ الطَّيِّبَةِ، وَلَتَجَنَّبَ الرُّفْقَةَ الْخَبِيثَةَ؛ فَإِنَّ "الْمَسْجِدَ بَيْتُ كُلِّ تَقِيٍّ"(حَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ لِغَيْرِهِ).
وَمِنْهَا: غِيَابُ الْإِرْشَادِ وَالتَّوْجِيهِ الْأُسَرِيِّ بِتَقْصِيرِ الْوَالِدَيْنِ فِي الْقِيَامِ بِمَسْئُولِيَّتِهِمَا الَّتِي وَضَعَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى عَاتِقِهِمَا حِينَ قَالَ: "وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، وَلَوْ حَذَّرُوا وَلَدَهُمْ مِنْ أَصْدِقَاءِ السُّوءِ لَمَا رَافَقَهُمْ.
وَمِنْهَا: الْفَرَاغُ وَالدَّعَةُ؛ فَإِنَّهُمَا إِنِ اجْتَمَعَا مَعَ قِلَّةِ الْوَعْيِ جَاءَتْ بِالْهَوَامِّ وَالطَّوَامِّ، وَصَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ قَالَ: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).
إِنَّ الشَّبَابَ وَالْفَرَاغَ وَالْجِدَةْ *** مَفْسَدَةٌ لِلْمَرْءِ أَيُّ مَفْسَدَةْ
وَمِنْهَا: الْبِيئَةُ الْفَاسِدَةُ؛ فَلَمْ يَجِدِ الشَّابُّ مِنَ الصَّالِحِينَ مَحْضِنًا صَالِحًا يَدُلُّهُ عَلَى الْخَيْرِ وَيُحَذِّرُهُ مِنَ الشَّرِّ، وَلَوْ وَجَدَهُمْ لَمَا الْتَفَتَ إِلَى غَيْرِهِمْ، بَلْ عَلَى الْعَكْسِ؛ فَلَرُبَّمَا وَجَدَ فِي بِيئَتِهِ الْقُدْوَةَ السَّيِّئَةَ فَأَغْرَتْهُ بِاتِّبَاعِهَا، لِذَا فَقَدْ أَشَارَ الْعَالِمُ عَلَى قَاتِلِ الْمِائَةِ نَفْسٍ قَائِلًا: "انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدِ اللَّهَ مَعَهُمْ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ، فَإِنَّهَا أَرْضُ سُوءٍ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ لِلرُّفْقَةِ السَّيِّئَةِ آثَارًا وَخِيمَةً عَلَى صَاحِبِهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَصَدَقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- حِينَ قَالَ: "مَنْ يَصْحَبْ صَاحِبَ السُّوءِ لَا يَسْلَمُ"، وَمِنْ تِلْكَ الْآثَارِ السَّيِّئَةِ:
التَّشَرُّبُ مِنْ طِبَاعِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ: يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السُّوءِ، كَمَثَلِ صَاحِبِ الْمِسْكِ وَكِيرِ الْحَدَّادِ، لَا يَعْدَمُكَ مِنْ صَاحِبِ الْمِسْكِ إِمَّا تَشْتَرِيهِ، أَوْ تَجِدُ رِيحَهُ، وَكِيرُ الْحَدَّادِ يُحْرِقُ بَدَنَكَ، أَوْ ثَوْبَكَ، أَوْ تَجِدُ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَلَا تَجْلِسْ إِلَى أَهْلِ الدَّنَايَا *** فَإِنَّ خَلَائِقَ السُّفَهَاءِ تُعْدِي
وَمِنْهَا: أَنَّهُ يُنْسَبُ إِلَى صَاحِبِهِ وَيُقَاسُ بِهِ؛ فَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ بِلَالٍ قَالَ: كَانَ فَتًى يُعْجِبُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَرَآهُ يَوْمًا وَهُوَ يُمَاشِي رَجُلًا مُتَّهَمًا فَقَالَ لَهُ:
لَا تَصْحَبِ الْجَاهِلَ *** إِيَّاكَ وَإِيَّاهُ
فَكَمْ مِنْ جَاهِلٍ أَرْدَى *** حَلِيمًا حِينَ آخَاهُ
يُقَاسُ الْمَرْءُ بِالْمَرْءِ *** إِذَا مَا هُوَ مَاشَاهُ
وَلِلشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ *** مَقَايِيسٌ وَأَشْبَاهُ
وَلِلْقَلْبِ عَلَى الْقَلْبِ *** دَلِيلٌ حِينَ يَلْقَاهُ
وَمِنْهَا: الصَّدُّ عَنِ الطَّاعَاتِ، وَتَسْوِيغُ الْمُوبِقَاتِ؛ لِذَا لَا غَرَابَةَ أَنْ تُحَدِّثَنَا الدِّرَاسَاتُ أَنَّ (82) مِنْ مُتَعَاطِي الْمُخَدِّرَاتِ كَانَتِ الْجُرْعَةُ الْأُولَى لَهُمْ بِسَبَبِ صَدِيقِ السُّوءِ، وَكَذَلِكَ فَإِنَّ مُرْتَكِبِي الْجَرَائِمِ مِنَ الشَّبَابِ يَرْتَكِبُونَهَا بِالتَّعَاوُنِ مَعَ رُفَقَاءِ السُّوءِ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَأْتِيَ رُفَقَاءُ السُّوءِ أَعْدَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ يَقُولُ اللَّهُ -تَعَالَى-: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)[الزُّخْرُفِ: 67]، يَقُولُ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "أَيْ: كُلُّ صَدَاقَةٍ وَصَحَابَةٍ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَإِنَّهَا تَنْقَلِبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَدَاوَةً إِلَّا مَا كَانَ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فَإِنَّهُ دَائِمٌ بِدَوَامِهِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِقَوْمِهِ: (وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 25]".
وَمِنْهَا: الْحَسْرَةُ وَالنَّدَامَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي)[الْفُرْقَانِ: 27-29]؛ فَكُلُّ مَنْ صَاحَبَ طَالِحًا وَجَارَاهُ عَضَّ يَدَيْهِ نَدَمًا وَأَسَفًا وَحَسْرَةً عَلَى مَا فَرَّطَ فِي جَنْبِ اللَّهِ، بَلْ يَزِيدُ عَطَاءٌ قَائِلًا: "يَأْكُلُ يَدَيْهِ حَتَّى تَبْلُغُ مَرْفِقَيْهِ، ثُمَّ تَنْبُتَانِ، ثُمَّ يَأْكُلُهُمَا، هَكَذَا كُلَّمَا نَبَتَتْ يَدَاهُ أَكَلَهُمَا تَحَسُّرًا عَلَى مَا فَعَلَ".
مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ: كَمْ مِنْ صَدِيقِ سُوءٍ قَدْ أَرْدَى صَاحِبَهُ وَأَلْقَاهُ فِي الْهَلَكَةِ وَالْبَوَارِ، فَفِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ)، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اَللهُ عَنْهُمَا-: "الْمُرَادُ: عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، كَانَ لَا يَقْدَمُ مِنْ مَقَرٍّ إِلَّا صَنَعَ طَعَامًا يَدْعُو إِلَيْهِ جِيرَتَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَيُكْثِرُ مُجَالَسَةَ الرَّسُولِ وَيُعْجِبُهُ حَدِيثُهُ، فَصَنَعَ طَعَامًا وَدَعَا الرَّسُولَ، فَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا آكُلُ مِنْ طَعَامِكَ حَتَّى تَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ"، فَفَعَلَ، فَبَلَغَ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ فَقَالَ: صَبَوْتَ يَا عُقْبَةُ! وَكَانَ خَلِيلَهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِيَأْكُلَ مِنْ طَعَامِي، فَقَالَ: لَا أَرْضَى أَبَدًا حَتَّى تَأْتِيَهُ فَتَبْزُقُ فِي وَجْهِهِ وَتَطَأُ عَلَى عُنُقِهِ، فَفَعَلَ"، فَقُتِلَ عُقْبَةُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقُتِلَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ يَوْمَ أُحُدٍ، فَهُمَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَصَدَقَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ إِذْ يَقُولُ: "صَاحِبُ السُّوءِ جَذْوَةٌ مِنَ النَّارِ".
وَصَاحِبْ خِيَارَ النَّاسِ تَنْجُ مُسَلَّمًا *** وَمَنْ صَحِبَ الْأَشْرَارَ يَوْمًا سَيُجْرَحُ
وَهَذَا أَبُو طَالِبٍ عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ خُطْوَةٌ وَاحِدَةٌ، لَوْلَا رُفْقَةُ السُّوءِ؛ فَلَمَّا "حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأَبِي طَالِبٍ: "يَا عَمِّ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةٌ أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ"، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيَعُودَانِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ، حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَهَذَا ثَالِثُهُمْ كَادَ أَنْ يَمُوتَ عَلَى الْكُفْرِ هُوَ الْآخَرُ بِسَبَبِ رَفِيقِ السُّوءِ لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَتْهُ عِنَايَةُ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَإِنْ حَرَمَهُ خَلِيلُهُ مِنْ خَيْرٍ كَثِيرٍ، فَلَمَّا وَلِيَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ الْمَدِينَةَ دَخَلَ عَلَيْهِ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: تَأَخَّرَ إِسْلَامُكَ أَيُّهَا الشَّيْخُ حَتَّى سَبَقَكَ الْأَحْدَاثُ، فَقَالَ حُوَيْطِبٌ: "وَاللَّهِ لَقَدْ هَمَمْتُ بِالْإِسْلَامِ غَيْرَ مَرَّةٍ، كُلُّ ذَلِكَ يَعُوقُنِي أَبُوكَ عَنْهُ وَيَنْهَانِي، وَيَقُولُ: تَضَعُ شَرَفَ قَوْمِكَ، وَدِينَ آبَائِكَ، لِدِينٍ مُحْدَثٍ، وَتَصِيرُ تَابِعَهُ؟!" قَالَ: فَأَسْكَتَ مَرْوَانَ وَنَدِمَ عَلَى مَا كَانَ قَالَ لَهُ. (رَوَاهُ الْحَاكِمُ).
وَلَا تَزَالُ رُفْقَةُ السُّوءِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَأَوَانٍ سَبَبَ التَّأَخُّرِ، وَالْهَلَاكِ، وَالذُّلِّ، وَالْبَوَارِ، وَالْهَوَانِ.
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:
عِبَادَ اللَّهِ: وَكَأَنِّي بِكُمْ تَتَسَاءَلُونَ وَقَدْ أَدْرَكْتُمْ خُطُورَةَ رُفَقَاءِ السُّوءِ فَتَقُولُونَ: وَكَيْفَ نَحْمِي شَبَابَنَا مِنْهُمْ؟ وَالْجَوَابُ:
أَوَّلًا: بِتَعْلِيمِ الشَّبَابِ الِاسْتِعَاذَةَ بِاللَّهِ مِنْ رُفْقَةِ السُّوءِ؛ فَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ يَوْمِ السُّوءِ، وَمِنْ لَيْلَةِ السُّوءِ، وَمِنْ سَاعَةِ السُّوءِ، وَمِنْ صَاحِبِ السُّوءِ"(حَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ)، فَاللُّجُوءُ إِلَى اللَّهِ هُوَ الْمُخْرِجُ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ.
وَثَانِيًا: التَّوْعِيَةُ وَالتَّبْصِيرُ؛ بِأَضْرَارِ الرُّفْقَةِ السَّيِّئَةِ وَمَا تَجُرُّهُ عَلَى صَاحِبِهَا مِنَ الْآفَاتِ، فَإِذَا أَدْرَكَ الشَّابُّ ذَلِكَ فَلَنْ تُعْيِيَهُ الْحِيَلُ فِي مُفَارَقَتِهِ.
إِذَا صَدِيقٌ نَكِرْتُ جَانِبَهُ *** لَمْ تُعْيِنِي فِي فِرَاقِهِ الْحِيَلُ
وَثَالِثًا: دَلَالَتُهُ عَلَى الرُّفْقَةِ الصَّالِحَةِ: بِاصْطِحَابِهِ إِلَى الْمَسَاجِدِ وَدُرُوسِ الْعِلْمِ، عَلَّهُ يَجِدُ بَيْنَهُمْ رَفِيقًا صَالِحًا، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "جَلِيسُ الْمَسْجِدِ عَلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ: أَخٌ مُسْتَفَادٌ، أَوْ كَلِمَةٌ مُحْكَمَةٌ، أَوْ رَحْمَةٌ مُنْتَظَرَةٌ"(حَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ)، وَإِلَّا فَالْوَحْدَةُ خَيْرٌ لَهُ.
إِذَا لَمْ أَجِدْ خِلًّا تَقِيًّا فَوَحْدَتِي *** أَلَذُّ وَأَشْهَى مِنْ غَوِيٍّ أُعَاشِرُ
وَأَجْلِسُ وَحْدِي لِلْعِبَادَةِ آمِنًا *** أَقَرُّ لِعَيْنِي مِنْ جَلِيسٍ أَحَاذِرُ
فَإِيَّاكَ إِيَّاكَ أَيُّهَا الشَّابُّ وَرُفْقَةَ السُّوءِ؛ فَإِنَّهَا هَمُّ الدُّنْيَا وَعَذَابُ الْآخِرَةِ، رُفْقَةُ السُّوءِ نَارٌ تَحْرِقُ، وَجَحِيمٌ يَلْتَهِبُ، وَرِيحٌ خَبِيثَةٌ تَفُوحُ، وَغَوَايَةٌ وَضَلَالَةٌ وَفَسَادٌ، فَكُنْ مِنْهَا عَلَى حَذَرٍ، وَالْبَسْ لَهَا ثَوْبَ الْخَطَرِ قَبْلَ أَنْ تَعَضَّ أَصَابِعَ النَّدَمِ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم