قصة يونس -عليه السلام- وفوائدها

خالد بن عبدالله الشايع

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ أهمية القصة القرآنية 2/ فوائد قصص الأنبياء 3/ تأملات في قصة يونس بن متى 4/ أبرز الدروس التربوية المستفادة من قصة يونس -عليه السلام- 5/ فضل دعوة ذي النون وأهمية الدعاء في حال الرخاء 6/ لمحة تربوية عظيمة في قصة موسى -عليه السلام-.

اقتباس

قال شيخ الإسلام ابنَ تيمية: "انظر إلى موسى –صلوات الله وسلامه عليه– رَمَى الألواحَ التي فيها كلام الله الذي كتبه بيده فكسرها، وجرَّ بلحيةٍ نبي مثله، وهو هارون، ولطَم عين ملك الموت ففقأها، وعاتب ربه ليلة الإسراء في محمد ورفعه عليه، وربه تعالى يحتمل له ذلك ويحبُّه ويكرمه ويدنيه؛ لأنه قام لله تلك المقامات العظيمة في مقابلة أعدى عدوٍّ له، وصدَع بأمره، وعالج أمتي القبط وبني إسرائيل أشد المعالجة، فكانت هذه الأمور كالشعرة في البحر. وانظر إلى يونس بن مَتّى حيث لم يكن له هذه المقامات التي لموسى غاضَب ربه مرة فأخذه وسجنه في بطن الحوت،...

 

 

 

الخطبة الأولى: 

 

الحمد لله...

 

أما بعد فيا أيها الناس: لقد أنزل الله كتابه للناس ليهتدوا بهديه، ويستضيئوا بنوره، ولقد أودع الله فيه الأخبار والأحكام والقصص، ونوَّع بينها، وغايَر بين أساليبها، حتى لا تملّها القلوب مع كثرة الرد.

 

 وكانت العبارة في القرآن عبارة جزلة من جوامع الكلم؛ بحيث إن المسلم كلما ردَّها ازداد منها فوائد وعلمًا وإيمانًا، وإن من الأساليب التي أودعها الله في كتابه أسلوبَ القصص؛ لأنه سهل على الفهم، مليء بالفوائد، محبَّب للقلوب.

 

 وإن من أعظم القصص الواردة في القرآن قصص الأنبياء كما قال تعالى: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [هود: 120]، وقال سبحانه: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) [يوسف: 3].

 

ولهذا سنمر سريعًا على قصة نبي من الأنبياء ذكره الله في كتابه، وأثنى عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، إنه نبي الله يونس بن متى -عليه السلام-، وقصته مذكورة في عدة سور من القرآن، فذُكرت في "يونس"، وفي سورة "الصافات"، وفي سورة "ن".

 

يقول تعالى: (فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) [يونس: 98]، وذلك أن يونس بن مَتَّى، -عليه السلام-، بعثه الله إلى أهل قرية "نينوى"، وهي قرية من أرض الموصل، من أرض العراق، فدعاهم إلى الله، فأبوا عليه وتمادوا على كفرهم، فخرج من بين أظهرهم مغاضبًا لهم، ووعدهم بالعذاب بعد ثلاث؛ لأنه لما دعا عليهم أجاب الله دعاءه، وقال: أنظرهم ثلاثة أيام ثم يأتيهم العذاب.

 

 فلما تحققوا منه ذلك، وعلموا أن النبي لا يكذب، خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم، وفرَّقوا بين الأمهات وأولادها، ثم تضرعوا إلى الله -عز وجل-، وجأروا  إليه، ورغت الإبل وفُصلانها، وخارت البقر وأولادها، وثغت الغنم وحُمْلانها، فرفع الله عنهم العذاب، قال الله تعالى: (فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) [يونس:98].

 

وأما يونس -عليه السلام-، فإنه ذهب فركب مع قوم في سفينة فَلَجَّجت بهم، وخافوا أن يغرقوا  فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم يتخففون منه، فوقعت القرعة على يونس، فأبوا أن يلقوه، ثم أعادوا القرعة فوقعت عليه أيضًا فأبوا، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضًا، قال الله تعالى: (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) [ الصافات:141]، أي: وقعت عليه القرعة.

 

 فقام يونس، -عليه السلام-، وقال: "أيها الناس! إني أن المقصود من هذا"، وتجرد من ثيابه، ثم ألقى نفسه في البحر، فأرسل الله -سبحانه وتعالى- من البحر الأخضر -كما قاله ابن مسعود- حوتًا يشق البحار، حتى جاء فالتقم يونس حين ألقى نفسه من السفينة، فأوحى الله إلى ذلك الحوت ألا تأكل له لحمًا، ولا تهشم له عظمًا؛ فإن يونس ليس لك رزقًا، وإنما بطنك له يكون سجنًا. ولُقِّب يونس بذي النون نسبة للحوت الذي التقمه.

 

وكان سبب خروجه منهم، أنهم لما استعصوا عليه وأبوا أن يتابعوه على الدين دعا عليهم، كما قال سبحانه: (وذا النون إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا) أي لقومه (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ)[الأنبياء: 87]، أي: نُضيق عليه في بطن الحوت. يُروَى نحو هذا عن ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وغيرهم، واختاره ابن جرير، واستشهد عليه بقوله تعالى: (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) [الطلاق:7].

 

وقد سجنه الله في الظلمات كما قال سبحانه (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء: 87]، قال ابن مسعود: "ظُلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل".

 

قال ابن مسعود، وابنُ عباس وغيرهما: "وذلك أنه ذهب به الحوتُ في البحار يَشُقُّها، حتى انتهى به إلى قرار البحر، فسمع يونسُ تسبيح الحصى في قراره، فعند ذلك قال: (لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ)"، وقال عوف: "لما صار يونس في بطن الحوت، ظن أنه قد مات، ثم حرك رجليه فلما تحركت سجد مكانه، ثم نادى: يا رب اتخذت لك مسجدًا في موضع ما اتخذه أحد".

 

وروى ابن أبي حاتم بسنده عن يزيد الرقاشي وهو ضعيف قال: سمعت أنس بن مالك -ولا أعلم إلا أن أنسًا يرفع الحديث إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يونس النبي -عليه السلام-، حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات وهو في بطن الحوت، قال: "اللهم، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين"، فأقبلت هذه الدعوة تحف بالعرش، فقالت الملائكة: يا رب صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة؟ فقال: أما تعرفون ذاك؟ قالوا: لا يا رب، ومن هو؟ قال: عبدي يونس. قالوا: عبدك يونس الذي لم يزل يُرفَع له عَمَلٌ متقبل، ودعوة مجابة؟ قال: نعم. قالوا: يا رب، أَوَلا  ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيَه من البلاء؟ قال: بلى. فأمر الحوت فطرحه في العراء".

 

اللهم استرنا بسترك، وجللنا بعافيتك، أقول قولي هذا ....

 

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد فيا أيها الناس: لا يزال الحديث موصولاً عن قصة يونس بن متى -عليه السلام-، وقد ذكر الله دعوته في بطن الحوت التي نجَّته من ذلك الغم.

 

وقد جاء الترغيب في الدعاء بهذه الدعوة عن سيد الأنبياء، فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح من حديث سعد بن أبي وقاص، قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكر لنا أول دعوة، ثم جاء أعرابي فشغله، حتى قَام رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فاتبعته، فلما أشفقت أن يسبقني إلى منزله ضربت بقدمي الأرض، فالتفت إليَّ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "من هذا؟ أبو إسحاق؟" قال: قلت: نعم، يا رسول الله. قال: "فمه؟" قلت: لا والله، إلا أنك ذكرتَ لنا أول دعوة، ثم جاء هذا الأعرابي فشغلك. قال: "نعم، دعوةُ ذي النون، إذ هو في بطن الحوت: (لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء: 87]، فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له".

 

ثم إن يونس بقي على الساحل حتى نبت جلده كما كان بعد أن أنبت الله عليه شجرة من يقطين وهو القرع، وسخَّر له ماشية تدرّ عليه، فلما صح أرسله الله إلى قوم يصل عددهم فوق المائة ألف، فآمنوا كلهم، فقيل هم قومه وقيل غيرهم. فآمنوا به كلهم.

 

فهذه قصة عظيمة تجلت فيها عظمة الله، وتصرُّفه في الكون، فمن الفوائد: سعة رحمة الله حيث عفا عن قوم يونس، بعد أن انعقدت أسباب العذاب، وصدر أمر الله بتعذيبهم بعد ثلاثة أيام، فلما جأروا إلى الله، رحمهم وعفا عنهم.

 

ومنها: تأديب الله لأنبيائه عند صدور الخطأ منهم، فينبغي للمسلم أن يخشى عقوبة الله مع انحطاط مرتبته، فيونس مع جلالة قدره لما غاضَب قومَه، وخرج منهم دون إذن من ربه؛ ظانًّا أن الله لن يضيق عليه حتى يرجع، سجنه الله في بطن الحوت، وقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى".

 

ومنها: فضل العبادة في وقت الرخاء فهي التي تنفع وقت الشدائد، فيونس لما سجن في بطن الحوت عرفت الملائكة صوته وشفعت له لكثرة عبادته بالرخاء. قال تعالى: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [يونس: 143- 144].

 

قال ابن القيم -رحمه الله- في مدارج السالكين: "فإنه يُعْفى للمحب ولصاحب الإحسان العظيم ما لا يُعفى لغيرهن ويُسامح بما لا يُسامح به غيره، وسمعتُ شيخَ الإسلام ابنَ تيمية –قدس الله روحه– يقول: انظر إلى موسى –صلوات الله وسلامه عليه– رَمَى الألواحَ التي فيها كلام الله الذي كتبه بيده فكسرها، وجرَّ بلحيةٍ نبي مثله، وهو هارون، ولطَم عين ملك الموت ففقأها، وعاتب ربه ليلة الإسراء في محمد ورفعه عليه، وربه تعالى يحتمل له ذلك ويحبُّه ويكرمه ويدنيه؛ لأنه قام لله تلك المقامات العظيمة في مقابلة أعدى عدوٍّ له، وصدَع بأمره، وعالج أمتي القبط وبني إسرائيل أشد المعالجة، فكانت هذه الأمور كالشعرة في البحر.

 

 وانظر إلى يونس بن مَتّى حيث لم يكن له هذه المقامات التي لموسى غاضَب ربه مرة فأخذه وسجنه في بطن الحوت، ولم يحتمل له ما احتمل لموسى، وفرقٌ بين من إذا أتى بذنب واحد، ولم يكن له من الإحسان والمحاسن ما يشفع له، وبين من إذا أتى بذنبٍ جاءت محاسنه بكل شفيع كما قيل:

وإذَا الحبيبُ أتى بِذَنْبٍ وَاحدٍ *** جَاءتْ مَحَاسِنُه بأَلْفِ شَفِيعِ».

 

ومنها سعت فضل الله، حيث يتفضل على العبد بعد توبته ويجود عليه أفضل من قبل الذنب، فهذا يونس كان نبيًّا في قومه، فلما أذنب وتاب، قبل الله توبته ورفع منزلته بأن جعله رسولاً، فأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون.

 

وفوائدها كثيرة نكتفي بهذا لضيق المقام، وهي ظاهرة للمتأمل..

 

اللهم ارزقنا الإنابة إليك، واغفر ذنوبنا وكفر سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار..

 

 

المرفقات

يونس -عليه السلام- وفوائدها

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات