قصة يوسف -عليه السلام- (2)

ناصر بن محمد الأحمد

2015-01-01 - 1436/03/10
التصنيفات: شخصيات مؤثرة
عناصر الخطبة
1/دخول يوسف-عليه السلام- السجن وقيامه بالدعوة إلى الله 2/تقلب يوسف-عليه السلام- بين المحنة والمنحة 3/رؤيا ملك مصر وتأويل يوسف -عليه السلام- لها 4/خروج يوسف -عليه السلام- من السجن وتنصيبه ملكا على مصر 5/اجتماع يوسف -عليه وسلم- بأبويه وإخوانه بعد طول الفرقة 6/عفو يوسف -عليه السلام- غن إخوته 7/تعليق على قتل بعض المجرمين وإقامة الحد فيهم

اقتباس

أيها المسلمون: جعل الله -عز وجل- سبباً في إخراج يوسف من السجن، أن رأى الملك في منامه رؤيا أثارت اضطرابه، وأوجس منها خيفة، رأى في منامه سبع بقرات سمينات تأكلهن سبع بقرات هزيلات، ورأى أيضاً سبع سنابل خضراء، وسبع سنابل يابسة، فوجئ القوم برؤيا الملك، وظهر ارتباكهم، وتشاوروا فيما بينهم، ثم...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله ...

 

أما بعد:

 

نكمل لكم قصة نبي الله يوسف -عليه السلام-، كنا قد انتهينا في الجمعة الماضية عند موقف يوسف -عليه السلام-، مع امرأة العزيز، وأنه كانت تراوده عن نفسها، فعصمه الله -عز وجل-، واستجاب دعاءه، وصرف عنه كيد هذه المرأة، لكن الخبر انتشر في أرجاء المدينة، وصارت تهمة العار ملصقة بالعزيز وآل بيته، ورأوا أنه لا يكف ألسنة السوء عنهم إلا زج يوسف -عليه السلام- في السجن، لإلصاق التهمة به، رغم معرفتهم أنه برئ، وكانت حالة يوسف -عليه السلام- عند دخوله السجن مزيجاً من الحزن والفرح.

 

فأما الحزن، فلأنه سجن ظلماً، وما سينجم عن ذلك من سمعة سيئة عن من لم يكن مطلعاً على الحقيقة.

 

وكم في سجون العالم -أيها الإخوة- من أبرياء مظلومين، ادخلوا السجن إما خطأ أو ظلماً وعدوانا، فإنا نسلي هؤلاء، إن كانوا مسلمين، نسليهم بيوسف -عليه السلام-، وكيف أنه احتسب الأجر عند الله -عز وجل-! وصبر على ما أصابه، نسلي هؤلاء الأبرياء، كل من ظلم في قضية إما أنه أُدخل السجن بسببها أو لم يُدخل نسليهم بأن هناك يوم آخر، توفى كل نفس ما كسبت، يومٌ تقام فيه الموازين، ويأخذ كل ذي حق حقه، يقف الناس سواسية أمام الله -عز وجل-، فيُعرف الظالم في ذلك اليوم، ويفضح أمام الناس، ويأخذ المظلوم حقه.

 

نقول -أيها الإخوة- بأن يوسف -عليه السلام- حزن على دخوله السجن؛ لأنه كان مظلوماً، وفرح من جهة أخرى لخروجه من بيت سيدة العزيز، وابتعاده عن المكر والفتنة، وكان السجن فاتحة خير له، ورُب محنة -أيها الإخوة- خاتمتها منحه، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وصادف أن دخل معه السجن فتيان، من خدم الملك، وهما رئيس السقاة ورئيس الخبازين، بتهمة المؤامرة على الملك، فرأى كل واحد منهما رؤيا قصها على يوسف -عليه السلام-، فأخبرهما بما علمه الله -عز وجل- من علم المغيبات بما يوحى إليه، قال الله -تعالى-: (ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ * وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ)[يوسف: 35-37].

 

أيها المسلمون: اغتنم يوسف -عليه السلام- فرصة بقائه في السجن، ولم يقل: بأن هذا سجن لا يمكن أن يعمل فيه شيء، بل قام يدعو إلى الله -عز وجل-، حاول أن يهدي هؤلاء المسجونين معه، يهديهم إلى الله، وإلى العقيدة الصحيحة، قال تعالى: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)[يوسف: 39-40].

 

كم في هذا الموقف من درس عظيم لنا -أيها الإخوة- وهو أن الإنسان يجب أن يحاول في نشر الخير، وأن يبلغ دين الله -عز وجل-، وأن يعلم الناس الخير، أنى وجد، وفي أي ظرف كان، فربما كلمة حق تقولها -أخي المسلم- تخرج منك بإخلاص تهدي بها إنساناً ضالاً، وربما لا يكون تأثيرها إلا بعد سنوات، لا تحقرن -أخي المسلم- من المعروف شيئاً، هذا يوسف -عليه السلام- وهو في ظلمات السجن كلما سنحت له فرصة دعا إلى الله -عز وجل-.

 

أيها المسلمون: بعد تلك السنين التي قضاها يوسف في السجن، شاءت العناية الإلهية أن يخرج يوسف من سجنه، بل ويتربع في أعلى المناصب الدنيوية، وإذا أراد الله -عز وجل- شيئاً هيأ له الأسباب.

 

وهذه هي عاقبة الصبر -أيها الإخوة- الإنسان يخلق، وتخلق معه متاعبه، من مصائب وآلام وفقر، فقد حبيب، خسارة مال، وغير ذلك من مصائب الدنيا، فكل هذه الأمور تحتاج إلى الصبر للتغلب عليها.

 

ولو تأملنا حياة نبي الله يوسف -عليه السلام- رأيناها سلسلة من المتاعب التي انتهت بالمكانة المرموقة، والحياة الطيبة، تبتدئ حياة يوسف -عليه السلام- بانسلاخه عن أهله، وإلقائه في البئر، ثم إنقاذه والعيش بعيداً عن أهله، مع ما في ذلك من ألم مكبوت على فراق أهله، وكيد إخوته.

 

ثم تأتي مرحلة قاسية عليه، وهي زجه في السجن ظلماً وعدواناً، جزاء أمانته، ظل يوسف -عليه السلام- صامداً على مبادئه، صابراً على بلواه، مترقباً رحمة الله، منتظراً انفراج الأزمة، مؤمناً بالله وعدله، لم تزحزحه هذه المصائب عن إيمانه وثقته بالله -عز وجل-، وصدق الله إذ يقول: (إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)[يوسف: 90].

 

فيا من ابتلاكم الله -عز وجل- بأي نوع من الابتلاءات، سواء من ابتلى في أهله، أو ابتلى في ماله، أو بأي نوع أخر من مصائب الدنيا وهمومها وغمومها، ليس لكم إلا الصبر، فإنه؛ كما قال تعالى: (إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)[يوسف: 90].

 

والله لو احتسب الإنسان في كل ما يصيبه، فإن همومه وآلامه، تكون أجراً عند الله -عز وجل-، لو أخلص نيته لله -سبحانه وتعالى-، وهذا من عدل الله -عز وجل-، فإنه لا يمكن للمؤمن أن يلاقي غم الدنيا وغم الآخرة.

 

والدنيا كلها -أيها الإخوة- لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فإنها أيام قلائل، ثم تلقون الله -عز وجل-، فيثيبكم على صبركم.

 

كم في هذه اللحظات من عمر يوسف -عليه السلام- لعبر وعظات، لمن وفقه الله -عز وجل-: (إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)[يوسف: 90].

 

أيها المسلمون: جعل الله -عز وجل- سبباً في إخراج يوسف من السجن، أن رأى الملك في منامه رؤيا أثارت اضطرابه، وأوجس منها خيفة، رأى في منامه سبع بقرات سمينات تأكلهن سبع بقرات هزيلات، ورأى أيضاً سبع سنابل خضراء، وسبع سنابل يابسة، فوجئ القوم برؤيا الملك، وظهر ارتباكهم، وتشاوروا فيما بينهم، ثم أجابوا ملكهم بأن هذه أخلاط أحلام باطلة، أثارتها هواجس الملك، وهي لا تدل على شيء: (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ)[يوسف: 43].

 

أخبر الملك بعد ذلك بأن هناك فتىً في السجن يفسر الأحلام: (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ)[يوسف:46].

 

شرع يوسف -عليه السلام- في تفسير الرؤيا، وكانت تحمل في طياتها نزول الكوارث، ولم يكتف -عليه السلام- بذكر الفواجع التي سوف تنزل، بل وصف الحلول المناسبة للخروج من هذه الأزمة الخانقة التي ستعم البلاد، قال لهم: إن مصر سيأتي عليها سبع سنوات خصبة، فعليكم أن تزرعوا أرضكم قمحاً وشعيراً، وتواظبوا على زرعها عام بعد عام، فما تحصدونه ادخروه في سنابله، ولا تفرطوا فيه، وقتروا على أنفسكم فلا تخرجوا منه إلا القليل مما يقيم أودكم، ثم تأتي بعد هذه السنوات المخصبة، سبع سنين مجدبة قاحلة، تستهلكون فيها ما ادخرتم، ولا تبقون منه إلا القليل، ليكون بذراً لما تزرعونه، وبعد هذه السنين المجدبة، تأتي سنة خصبة يغاث فيها الناس بالمطر، وتجور الأرض بالغلات الوفيرة، قال تعالى: (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ)[يوسف: 47-48].

 

أيها الإخوة: لنا لفتة علمية حول قوله تعالى -فذروه في سنبله- هذه الآية -أيها الإخوة- تتفق مع ما وصل إليه العلم الحديث من أن ترك الحب في سنابله عند تخزينه وقاية له من التلف بالعوامل الجوية والآفات، وفوق ذلك يبقيه محافظاً على محتوياته الغذائية كاملة، فسبحان الله!(عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)[العلق: 5],

 

ونحن -أيها الإخوة- لكلامنا هذا لا نريد أن نبحث عن نظرية علمية في كتاب الله -عز وجل-، كما تكلف طائفة من المسلمين هذا المسلك؛ لأن القرآن -أيها الإخوة- لم ينزل ليكون كتاباً علمياً خاصاً بالنظريات العلمية، بل هو كلام الله -عز وجل-، أنزله سبحانه وتعالى وحياً على رسوله ليكون شرعاً للناس، يتعبدون الله -عز وجل- بتطبيق أحكامه.

 

والقرآن -أيها الإخوة- إضافة إلى هذا فهو معجز من عدة وجوه: فيه إعجاز لغوي، وفيه إعجاز بياني، ولا يخلو في بعض آياته أن تكون هناك إشارات لبعض الإعجاز العلمي، كما في هذه الآية.

 

أسأل الله -عز وجل- أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

 

أقول...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله ...

 

أما بعد:

 

تتمة لقصة يوسف -عليه السلام-: أن الملك سر بتفسير يوسف للرؤيا، وعرف أنه أدخل السجن ظلماً، فازداد ثقة به، وميلاً إليه، خصوصاً وقد آنس منه ذكاءً وفهما، عندها أخرجه الملك من السجن، وكلفه بوزارة المال، وولاه أمور مصر الاقتصادية، وجعله يتصرف في أرض مصر كما يريد، وهذا شأن الله في عباده الصالحين، يهب نعمته لمن يختاره منهم، ويثيبهم في الدنيا على الإحسان الذي صنعوه، ثم إن ثواب الله في الآخرة خير من ثواب الدنيا، للذين آمنوا وكانوا يتقون، قال تعالى: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ)[يوسف: 54-57].

 

أيها المسلمون: تحقق تأويل يوسف لرؤيا الملك، بمجيء السبع السنوات الخصبة، فرعاها يوسف بتدبيره، وخزّن الفائض من الغلات، وجاءت السنون السبع الأخرى المجدبة، فحصل جوع وقحط لا سيما في البلاد المجاورة، لعدم استعداد أهلها لمثل هذه السنة، وفي نهاية القصة جاء أخوة يوسف إلى مصر لجلب الرزق للجوع الذي أصاب بلادهم، فعندما دخلوا عليه عرفهم، بينما هم لم يعرفوه، إلى أن أخفى صاع الملك في رحل أخيه، وفي النهاية عرفوه، فرجعوا إلى والدهم وبشروه بالخبر، عندها أمر يعقوب أولاده بتحضير وسائل السفر، تسرعاً وشوقاً للقيا ولده يوسف.

 

وصلت أسرة يعقوب -عليه السلام- إلى مصر، فرأوا يوسف في استقبالهم، ولا نستطيع أن نصف مبلغ فرح وغبطة يعقوب بلقاء ابنه بعد فراق هذه السنين العديدة، سار الركب داخل مصر حتى بلغ دار الحكومة، فدخلوها، واجلس يوسف والديه بقربه على سرير الحكم زيادة في تكريمهما، وغمر يعقوب وأولاده شعور، بجليل ما هيأ الله لهم على يدي يوسف من التكريم، فحيوه تحية مألوفة عندهم من الانحناء له، على عادة أهل زمانهم، بما يحيون به الرؤساء الحاكمين، فأثار ذلك في نفس يوسف ذكرى حلمه وهو صغير، وقال لوالده: هذا تفسير ما قصصت عليك من رؤيا، حين رأيت في المنام أحد عشر كوكباً، والشمس والقمر ساجدين لي، قد حققه ربي: (فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)[يوسف: 99-101].

 

انظروا -أيها الإخوة- إلى دعاء يوسف -عليه السلام- في أواخر هذه الآيات، فهو بعد أثنى على الله -سبحانه وتعالى- بأنه قد أتاه من الملك وعلمه من تأويل الأحاديث، لم يطلبعليه الصلاة والسلامإلا ما يتمناه كل مسلم صادق مخلص: أن يموت على الإسلام، ويلحق بالركب الصالح: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)[يوسف: 101].

 

أيها المسلمون: نبي من أنبياء الله -عز وجل- الجنة مضمونة له، ومع ذلك يقول: (أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)[يوسف: 101].

 

قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].

 

وقال سبحانه: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[آل عمران: 85].

 

وماذا يريد الإنسان من هذه الدنيا؟ وما قيمة الدنيا لو قبض الإنسان على غير ملة الإسلام؟ أو ختم له بخاتمة سوء؟

 

نسأل الله السلامة والعافية، فهو في الآخرة من الخاسرين، فإن الأعمال بالخواتيم كما يقولعليه الصلاة والسلام.

 

أيها الإخوة: في القصة أيضاً لنا درس في التسامح والعفو عند المقدرة، العفو عن من أساء إليك، ومقابلته بالإحسان، فيوسف -عليه السلام- عندما آلت الأمور إليه، كان باستطاعته أن ينتقم من إخوانه، الذين كادوا له في أول الأمر؛ ولكن سمو نفسه، وكرم عنصره، وترفعه عن الانتقام، واحتساب الأجر عند الله -عز وجل- جعله يأبى أن ينزلق إلى هذا المنـزلق، الذي ينغمس فيه عادة الأشخاص العاديون، فعندما اعترف إخوانه بخطئهم بقولهم: (قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ)[يوسف:91].

 

أجابهم يوسف -عليه السلام- بهذا الجواب المفعم بالعطف الأخوي، والمسامحة، قائلاً: (قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ)[يوسف: 92].

 

فهل نستفيد من هذه القصة ونخرج -أيها الإخوة- بروح التسامح والمغفرة والعفو عن الناس؟الذي يسيئون إلينا، بعض الناس -هداهم الله-، حتى زوجته التي معه لا تسلم منه، لو زلت أو أخطأت ولو خطأً يسيراً، لكال الصاع صاعين، لا يمكن له أن يتنازل عن حقه، ولو بقدر أنملة، لا يمكن أن يعفو، فنقول لمن هذه حاله: أنه سيقف يوماً ما بين يدي مولاه، يكون محتاجاً أن يعفو الله عنه ويتجاوز له عن سيئاته وتقصيره، من منا لم يخطئ ولا يخطئ، من منا لا يمضي عليه يوم ولا ليلة إلا وحصل منه تقصير في حق الله -عز وجل-، فكم نحن بحاجة إلى عفو الله -عز وجل-؟ كم نحن في حاجة أن يسامحنا ربنا، ولا يفضحنا على رؤوس الأشهاد؟.

 

فحري بنا -أيها الإخوة- أنه في المقابل نتجاوز نحن عن زلات الآخرين تجاهنا لنلقى ذلك عند الله -عز وجل-: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء: 88-89].

 

أيها المسلمون: لعل بعضكم أو أغلبكم سمع عن طريق الأخبار أو عن طريق تناقل الناس للحديث عن أولئك الذين أقيم فيهم حد الإعدام، ممن روعوا الآمنين، وحاولوا الاعتداء على بيت الله الحرام، وإننا لنشكر الدولة على مثل هذه المواقف القوية، وضربها بيد من حديد لكل من تسول له نفسه الاعتداء على مقدسات المسلمين، أو أن يخل بأمن هذا البلد المبارك.

 

ولعل أن يكون في هذا عبرة لغيرهم ممن يفكر أن يقدم على مثل ما أقدموا عليه.

 

أيها الإخوة: إن إعدامهم هو الجزاء الحقيقي الذي يستحقونه، فإن الجزاء من جنس العمل، وعملهم كان التخريب والدمار وترويع المسلمين، ومحاربة الله ورسوله، والله -عز وجل- يقول في كتابه العزيز: (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[المائدة: 33].

 

وصلوا وسلموا...

 

 

المرفقات

-عليه السلام- (2)

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات