قصة هرقل

محمد بن عبدالرحمن العريفي

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: السيرة النبوية
عناصر الخطبة
1/ جهد النبي في الدعوة إلى الله 2/ الرسول يرسل رسله إلى الملوك 3/ كتاب رسول الله يصل إلى هرقل 4/ حوار هرقل مع أبي سفيان 5/ موقف هرقل من رسول الله.

اقتباس

لما تَيَقَّنَ هرقلُ أنَّ الإسلامَ حَقٌّ, وأنَّ هذا النبيَّ صادِقٌ, وأنَّه الذي أمرَهم موسى وعيسى باتّباعِه جعلَتْ تُنازِعُهُ نفسُهُ بين الدُّنيا والآخِرَة, ولو كانَ مُوفَّقاً لَفَهِمَ أنَّ قولَهُ -صلى الله عليه وسلم-: "أَسْلِمْ تَسْلَمْ" معناهُ أنَّكَ إذا دَخَلْتَ الإسلامَ فَسَتَسْلَمْ يَقيناً في الدنيا والآخرة, لكنَّه لم يُوفَّقْ لِفَهْمِ هذهِ العبارَةِ...

الخطبة الأولى:

 

الحمدُ للهِ الذي شَرَّفَ الإسلامَ على سائِرِ الـمِلَل, ونَسَخَ بهِ جميعَ الشرائعِ والنِّحَل, وكَبَتَ بهِ أهلَ الضلالةِ والزَّلَل, أحمَدُهُ -سبحانَهُ- على أنْ بعثَ إلينا رسولَهُ محمداً  -صلى اللهُ عليهِ وسلم-, فهدانا بهِ إلى الإسلام, وفضَّلَنا بهِ على سائرِ الأنام, وحرَّمَ علينا مُوالاةَ الكَفرةِ من أهلِ الكتابِ وعَبَدَةِ الأصنام.

 

وأشهدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَه, الذي خَصَّ نَفْسَهُ بالعِزَّةِ وخَصَّ بعدَ ذلكَ رسولَه والمؤمنين, ووعَدَ بالنصرِ والتمكينِ لمن نصَرَ الدين, ولمن تَقَرَّبَ إلى  اللهِ -تعالى- بالأعمالِ الصالحةِ وعَداوَةِ الكافرين, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُه, هو خيرُنا -صلى الله عليه وسلم- وهو قُرَّةُ أعيُنِنا وقائِدُ مَسيرَتِنا, وسيِّدُنا, صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آلهِ وصحبهِ, ومن سارَ على نَهجهِ, واقتَفى أثَرَهُ واستَنَّ بسنتهِ إلى يوم الدين, أما بعد :

 

أيها  المؤمنون: من حَقِّ دينِنا علينا أن نتكلمَ عن عظَمَتِه, فهو دينٌ قويٌ وإن ضَعُفَ أهلُه عن نُصرَتِهِ, ومن حَقِّ رسولِنا وقُرَّةِ أعيُنِنا محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- أن نتَذاكرَ أخبارَهُ, ونَهتدي بهديِهِ, لِنرى كيفَ تَعاملَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مع خُصومِهِ؛ حتى نَصرَ دينَه ونشرَ دَعوَتَه, حتى أظهرَ اللهُ -تعالى- الإسلامَ على جميعِ الأديان.

 

كانَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مُتَمَيِّزاً بدعوتِه وخَيريَّته مُنذُ بُعِثَ, وكانَ قبلَ ذلكَ مُتَمَيِّزاً بأخلاقِه وأمانَتِه, حتى لَقَّبَتْهُ قُرَيْشٌ في الجاهليةِ بالصادِقِ الأمين, وما قِصَّةُ بناءِ قُرَيشٍ الكعبَةَ ووَضْعِ النبيِّ  -صلى الله عليه وسلم- الحجَرَ الأسودَ  في مكانهِ إلَّا دليلٌ على يَقينِ قُريشٍ بأمانَتهِ وصِدقِه -عليه الصلاة والسلام-, ثم يَبعثُ اللهُ مُحمداً  -صلى الله عليه وسلم- نَبيَّاً, ويَعيشُ بـِهمَّةٍ تَنظُرُ إلى القِمَّةِ, لم تَكُنْ غايَتُهُ أنْ يُسلِمَ بنو هاشِمٍ, كلا, ولا أنْ يَنشُرَ الإسلامَ في مَكةَ أو المدينةِ أو جزيرةِ العرب, كلا, وإنَّما كانت غايَتُهُ أن يُعبِّدَ الدنيا كلَّها لربِّنا -جَلَّ جَلالُه-, كان يعيشُ -صلى الله عليه وسلم- بهذا الهمّ, وهو مُستَضعفٌ في شِعابِ مكةَ, كان أصحابُه يُعَذَّبونَ ويُقتلونَ ويُطارَدونَ ويُبَشِّرُهم بِنَصْرِ اللهِ -تعالى- للإسلام .

 

كانت قُريشٌ تحُاربُهم بكلِّ عُنفٍ, ومعَ ذلكَ ظهرَ الإسلامُ ولا يَزالُ إلى اليومِ هو الـمُنتَشر وإنْ ضَعُفَ أهلُه عن نُصرَتِه .

 

انظر إليهِ -صلى الله عليه وسلم- لما تَمكَّنَ لهُ الأمرُ في المدينةِ في السنةِ السادسةِ من الهجرة, وكتبَ معَ قريشٍ صُلحَ الـحُدَيْبِيَةِ, وهَادَنَهم على تَركِ الحربِ بينَهُ وبينَهم عشرَ سنين, جعلَ  -عليه الصلاة والسلام- يُرسلُ الكُتُبَ إلى الأمصارِ, يَدعوهم إلى الإسلامِ, كانَ يعلمُ  أنَّ أعظمَ قُوَّتينِ في عَصرهِ هما فارِسُ والرُّوم, فبدأَ بهما فأرسلَ كتاباً إلى كِسرى عظيمِ فارِس, وأرسلَ كتاباً إلى هِرقلَ عظيمِ الروم.

 

فتعالَوا نقفُ اليومَ بينَ يَدَي مَلكِ الروم هرقل؛ لنرى كيفَ وصلَ إليهِ كتابُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-؟ وكيفَ كانَ شُعورُهُ لما قرأَ الكتابَ؟ وما عَقيدةُ النصارى في محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-؟  وكيف قَدَّمَ ملكُ الرومِ مُلكَهُ على الهِداية؟!.

 

أيُّها المسلمون: أرسلَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إلى هِرَقْلَ بكتابٍ, وكانَ هرقلُ قد انتصرَ على أعدائِه, فمشى شُكراً للهِ -تعالى- من دِمَشْقَ إلى القُدْسِ وكانوا يسمونها إيلياء -أي بيتُ الله-, وكانَ هرقلُ إضافةً إلى مُلكهِ عالماً بين النصارى, وكانَ مُنَجِّماً حَزّاءً يَنظُر في النجوم, فقالَ لأصحابهِ يوماً: إني نظرتُ في النجومِ فرأيتُ أنَّ مَلِكَ الخِتانِ قد ظهَر, فقالوا له: ما يـَخْتَتِنُ في العالم إلّا اليهود, فإن شِئْتَ -يعني إن كنتَ خائِفاً من مُلْكٍ يَنشأُ لليهود- فإنْ شِئْتَ بَعَثْتَ إلى أمَرائِكَ في كلِّ مكانٍ, فَقَبَضوا على من كانَ عندَهم من اليهودِ فذَبَحوهم!, قال: لا, لا تَفعَلوا.

 

فبَينَما هم على ذلك ورسولُ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في الطريقِ مُقْبِلاً يسيرُ إلى إيلياءَ حامِلاً كتابَ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-, بينما هرقلُ معَ أصحابهِ إذْ دَخَلَ عليهِ رسولُ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-, فلمَّا وقفَ بينَ يَدَيْ هرقل, وعَلِمَ هرقلُ أنَّه قادمٌ من جزيرةِ العرب, قال لأصحابهِ: انظروا إليهِ أمـُخْتَتِنٌ هو أم لا؟, فلما كَشَفوا عنهُ فإذا هو مُختتن, فعلمَ أنَّ العربَ يَختتنون.

 

ثم قرأ هرقلُ الكتاب, فماذا كتبَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في الكتاب؟ انظر إلى العِزَّةِ التي يتعاملُ بها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مع هرقل, ما كانَ -صلى الله عليه وسلم- يعتمدُ على قُوَّةِ المسلمين وعدَدِهم وقوةِ أسلِحَتِهم, إنما يعتمدُ على قُوةِ اللهِ -تعالى- فهو الذي تَكَفَّلَ بِنُصْرَتِه, يَبعثُ -صلى الله عليه وسلم- الكتابَ وهو لم يَفتحْ مكةَ يبعثُهُ والكعبةُ حولَها أكثرَ من ثلاثمائةٍ وستينَ صنَماً تُعْبدُ من دونِ الله, يبعثُه وجُموعُ الـمُستضعفين المسلمين يُضطهدون في مكة, ومع ذلك يكتبُ -صلى الله عليه وسلم- الكتابَ بكلِّ عزةٍ ويُخاطبُ رجلاً عظيماً من عُظماءِ الأرض, فماذا كتبَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-؟, قُرِئَ الكتابُ على هِرقلَ وحولَه وُزَراؤهُ وكبارُ دَولَتِه يستمعون:

 

"بِسْمِ اللهِ الرَّحْـمَنِ الرَّحِيم, مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ: سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلاَمِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ -أي الفَلَّاحين- يعني عليكَ إثمُ قَومِكَ من الضُّعفاءِ والعامةِ الذين يَقتدون بك-, فإذا أسلَمْتَ دَخلوا في الإسلام, وإن أعرَضتَ اقتَدَوا بكَ وتَحمَّلْتَ آثامَهم", ثم كتبَ -عليه الصلاة والسلام- آيةً قولَه -تعالى-: (قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) [آل عمران: 64], أي نَتَّفِقُ نحنُ وإيَّاكم على قاعِدَةٍ, فما هي؟ قال -تعالى-: (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 64], انتهى الكتاب.

 

فتَحَّيَر هرقلُ وجعلَ يُقَلِّبُ الكتاب, وينظرُ فيه, ويتذكرُ ما كانَ قَرأ من كُتبٍ سابقةٍ مُقدَّسَةٍ عندَهم, من أنَّ نبيَّاً سَيُبعثُ بعدَ عيسى, وأنَّ له من الصفاتِ كذا وكذا, جعلَ يتأملُ في ذلك ورأى أنَّ من يُنقِذُهُ من حيرَتِه رجلٌ من العربِ يسألُه عن خبرِ هذا النبيّ, فالتَفتَ إلى رئيسِ شُرطَتِه, فقال له: قَلِّبْ الشامَ ظهراً لبَطن, حتى تأتِيَني برجلٍ من قومِ هذا الرجل -يعني النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-, وكانَ عربُ الجزيرةِ يأتونَ الشامَ للتجارةِ, مضى صاحبُ الشرطةِ يبحثُ فإذا بجمعٍ فيهم أبوسفيان وأصحابٌ له من أهلِ مكةَ جاؤوا بتجارةٍ إلى الشامِ في الـهُدنَةِ التي بينَهم وبينَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-.

 

هَجَمَ عليهم صاحبُ الشرطة, واستاقَهم إلى هرقلَ فأدخلَهم عليه, فلما دخلوا عليه أوقَفَهم بينَ يديه, وحولَه عُظَماءُ مَجلسهِ ومُستشاروه, ودعا بالتُّرجُمان وقال له: سَلهُم أيُّكم أقربُ نَسَباً بهذا الرجلِ الذي يزعمُ أنَّه نبي؟, وطلبَ أن يكونَ أقرَبُهم نسباً لأنَّ صاحبَ النسبِ القريبِ يَعرفُ ظاهِرَ الشخصِ وباطِنَهُ, ويَعرفُ مَنْشَأَهُ وحَياتَه, طلبَ هرقلُ أنْ يكونَ الـمُتحدِّثُ أقرَبَهم إليهِ نسباً, فقامَ أبوسفيان وقال: أنا أقربُهم إليهِ نسباً.

 

فقَال هرقلُ أدنوهُ مني, فأدنَوه منهُ حتى وقفَ بينَ يَدَيه, فقال: اجعلوا أصحابَهُ وراءَ ظَهرِه, فجعلوا أصحابَ أبي سفيان وراءَ ظهرِه, فقال هرقلُ للتُّرجُمان: قُلْ لهم إني سائِلٌ هذا الرجلَ مسائلَ فإن كَذَبَني فكَذِّبوه -يعني إذا كذَبَ علَيَّ فأشيروا إلَيَّ-.

 

قال أبوسفيان: فوَ اللهِ لقد علمتُ أنِّي لو كذبتُ ما رَدُّوا عليَّ, ولكني كنتُ امرءاً سيِّداً أتكرَّمُ عن الكذِبِ, وعرفتُ أنَّ أدنى ما يكونُ في ذلك -يعني أدنى ما يَلحَقُني من عاقِبَةِ كَذِبي- أن يَروُوهُ عني في مكةَ ويَذُمُّونَني ويَعيبونَ عليَّ أنِّي كذبتُ يوماً من الدَّهر.

 

سبحانَ الله!! انظر إلى الأخلاق حتى وإن كانَ أهلُها كفاراً لكنَّهم أصحابُ مُروءَة, قال أبوسفيان: فوَ الله لَولا الحياءُ أنْ يُؤثِروا عني كذباً لكذبت.

 

أيُّها المسلمون: ثمّ سأل هرقلُ أباسفيان مسائلَ تَنُمُّ عن معرفَةِ أهلِ الكتابِ برسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- وتَيَقُّنِهم من صِدقِه وأمانَتِه, وكانَ هرقلُ قد جمعَ بينَ الـمُلكِ والعِلمِ والدين.

 

قال أبوسفيان: فكانَ أوَّلُ ما سألَني عنه أن قال: أخبِرْني عن هذا الرجلِ الذي فيكم؟ يعني: أعطِني معلوماتٍ عامةً عنه.

 

قال أبوسفيان: فزَهَّدْتُ من أمرِه -يعني قلت: هذا رجلٌ ضعيفٌ مِسكينٌ هو ساحِرٌ كذَّاب-, قال هرقل: إني لم أطلُبْ منكَ أن تَشتُمَه -يعني أريدُ كلامَ عاقلٍ لا صُراخَ ولا شَتْم-, ثم عَلِمَ  هرقلُ أنَّه لو تركَ الأمرَ لأبي سفيان فسيَظَلُّ يَشْتُمُ فأرادَ أن يُوقِفَهُ على مسائلَ مُحدَّدَة, فقال أخبرني: كيفَ نَسَبُهُ فيكم؟, قال: هو فينا ذو نسب, قال هرقل: هل قال هذا القولَ فيكم أحدٌ قبلَه؟ -يعني: هل ادَّعى أحدٌ من قَومِكم قبلَه أنَّه نبي؟-, قال أبوسفيان: لا, قال: فهل كان من آبائِهِ مَلك؟, قال أبوسفيان: لا.

 

قال: فأشرافُ الناسِ يَتبَعونَهُ أم ضُعفاؤهم؟, قال أبوسفيان: بل ضُعفاؤهم -وأبوسفيان هنا أيُّها الفُضَلاءُ يَقصِدُ أكثرَ من تَبِعَهُ وإلَّا فقد تَبعَه أشرافٌ كأبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي-, قال هرقل: أيَزيدونَ أم يَنقُصون؟, قال: بل يَزيدون.

 

أيُّها المسلمون: أبو سفيان في ذلكَ الحينِ يقولُ: بلْ يَزيدون, وواللهِ إنَّك ترى هذا اليومَ مَن يَدخُلُ في الإسلامِ من النصارى والوَثَنيين والـهُندوس وغيرِهم لا يَزالونَ يَتَزايَدون يوماً بعدَ يوم, ثم قال هرقلُ: فهل يَرتَدُّ أحدٌ منهم سُخْطَةً لدينهِ؟ -أي: هل يَرتَدُّ أحدٌ من المسلمين سُخطةً على الإسلامِ وبُغضاً له ونَدَماً على الدخولِ فيه, بعدَ أن يدخلَ فيه؟-, قال أبوسفيان: لا.

 

قال: فهل كنتم تَتَّهِمونَه بالكَذِبِ قبلَ أن يقولَ ما قال؟ -يعني: في حياتِهِ السابِقَةِ قبل أن يقولَ أنا نَبيٌّ, هل كانَ يَكذبُ في مُعاملاتِ حياتِهِ وأخبارِه؟-, قال أبوسفان : لا, قال: هل يَغْدُرْ؟  -أي: هل يُعاهِدُكم على شيءٍ فَيَغْدُر-, قال أبوسفيان: لا.

 

ثمّ أراد أبوسفيان أن يُدخِلَ هنا تَنَقُّصاً للنبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: ونحنُ الآنَ في مُدَّةٍ -نحنُ في هُدْنَةٍ- لا نَدري ما هو فاعِلٌ! -أي قد يَغْدُرْ فيها- قال أبوسفيان: ولم تُمكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فيها شَيئاً غيرَ هذهِ الكَلِمةِ, فوَاللهِ ما التفتَ هرقلُ إليها, وإنما قال هرقل: وما يُخافُ من هذا - أي لماذا تخافونَ أن يَغدُرَ هذه المرّةِ وهو ليسَ من طَبعِهِ الغَدر؟-, قال أبوسفيان: إنَّ قَومي أمَدُّوا حُلَفاءَهم على حُلفائِه -يعني: نحنُ قد تحَالفْنا مع قَبيلةِ بَكْرٍ, وخُزَاعَةُ تَحالَفوا معَهُ فَبَكرٌ قَاتَلَتْ خُزاعَةُ ونحنُ ساعَدنا بَكراً على خُزاعةَ ونحنُ بَينَنا وبينَه عهدٌ ألَّا نَتَقاتل-, فلما قالَ ذلك أبوسفيان لهرقل قال هرقل: إن كُنتم بَدَأتم فأنتُم أغدَر.

 

ثم بعدَها انتهى هرقلُ من السؤالِ عن العقيدَةِ والأخلاق, سألَ عن القُوَّةِ العَسكَرِيَّةِ والحربِ.

 

قال هرقل: وهل قاتَلْتُموه؟, قال: نعم, قال: وكيف كانَ قِتالُكم إيَّاه؟, قال: الحربُ بَينَنا وبينَه سِجَال, يَنالُ مِنَّا ونَنالُ منه -يعني غَلبَنا في بَدرٍ, وغَلَبناه في أُحُد, وانسَحَبنا في الخندق, ونحن اليوم في هُدنة-.

 

قال: فماذا يأمُرُكم؟, قال: يقول: اعبدوا اللهَ وحدَه ولا تُشركوا بهِ شَيئاً واتركوا ما يقولُ آباؤكم, ويأمرُنا بالصلاةِ والصَّدَقَةِ والعَفافِ والصِّلَة.

 

فلما سمعَ هرقلُ هذهِ الإجاباتِ؛ أيقَنَ أنَّ محمداً -صلى الله عليه سلم- نبيٌّ مُرسل, وبدأ يعيدُ الأسئلةَ والإجابات لأبي سفيان ويَتَــثَــبَّتْ لِيَسمَعَها من حولَهُ من القَساوِسَةِ والرُّهْبان.

 

فالتفَتَ هرقلُ إلى التُّرجُمان وقال: قُلْ له: سألتُكَ: عن نسبهِ فقلتَ: أنَّه فيكم ذو نسب, فكذلكَ الرسلُ تُبعثُ في نسبِ من قَومِها.

 

وسألتُك: هل قال هذا القولُ أحدٌ من قبلِه؟, فذكرت أنْ لا,  فقلت: فلو كانَ أحدٌ قال هذا القولَ قبلَه لقلتُ رجلٌ يأتَسي بقولٍ قيلَ قبلَه -أي لقلتُ رجلٌ نظرَ في التاريخِ فسمعَ عن رجلٍ ادَّعى أنَّه نبيٌّ ففعلَ مثلَه-.

 

وسألتك: هل كان من آبائِه ملكٌ؟, فقلت لا, فقلت -أي استَنتجتُ في نفسي- لو كانَ من آبائِه ملكٌ لقلتُ رجلٌ يطلبُ مُلكَ أبيه.

 

وسألتك: هل كنتم تَتَّهِمونَه بالكذبِ قبلَ أن يقولَ ما قال؟, فذكرتَ أن لا, فعرفتُ أنه لم يكن ليَدَعَ الكذبَ على الناسِ ثم يكذبُ على اللهِ -تعالى-.

 

وسألتك: أشرافُ الناسِ يَتبعونَه أم ضُعفاؤهم؟, فذكرتَ أنَّ الضُّعَفاءَ اتَّبعوه, وكذلكَ أتباعُ الرُّسُل. قال: وسألتُك أيَزيدونَ أم يَنقُصون؟, فذكرتَ أنهم يزيدون, وكذلكَ أمرُ الإيمانِ حتى يَتِمّ -أي لا يَزال تَزدادُ أعدادُ المسلمين حتى تكونَ لهم الغَلَبَة-, وإذا نَظرتُم -أيُّها المسلمون- وَجَدتُم أنَّ عددَ الذين أسلَموا خلالَ ثلاثَ عَشرَةَ سنةٍ قضاها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في مكةَ يدعو إلى الإسلامِ لم يَتجاوَزوا مائةً وخمسةَ عشرَ رجلاً, ومع ذلكَ يقولُ هرقل: لا يَزالونَ يَزيدونَ حتى تكونُ لهم الغَلَبَة.

 

ثم قال هرقل: وسألتُك أيَرتَدُّ أحدٌ منهم سُخطةً لدينهِ بعدَ أن يدخلَ فيه؟ فذكرتَ أن: لا, فكذلكَ الإيمانُ إذا خالَطَتْ بَشَاشَتُهُ القُلوب. قال: وسألتك هل يغدُر؟ فذكرتَ أن لا, وكذلك الرسلُ لا تغدُر.

 

وسألتك: بماذا يأمرُكُم؟ فذكرتَ أنَّه يأمرُكم أن تعبدوا اللهَ ولا تُشركوا بهِ شيئاً ويَنهاكم عن عِبادةِ الأوثان وأنه يأمركم بالصلاةِ والصدقِ والصدقةِ والعفاف.

 

ثم قال هرقلُ بِكُلِّ ثِقَةٍ: فإن كان ما تقولُ حَقَّاً فسَيَملِكُ مَوضِعَ قَدَمَيِّ هاتَين.

 

اللهُ أكبَرُ! ومَلَكَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مَوضِعَ قَدَمَيِّ هرقل في العامِ الخامسِ عشر للهِجرة,ِ فتحَ القُدسَ القائِدُ الـمُظَفَّرُ الفاروقُ عمرُ ر-ضي الله عنه-, ومَلَكها المسلمون وحَكَموها.

 

قال هرقلُ: سيملكُ مَوضعَ قَدميَّ هاتين وقد كنتُ أعلمُ أنه خارج -يعني أعلمُ أنَّ نَبِيَّاً سيُبعَثُ ولم أكن أعلمُ أنَّه منكم, يعني منكم أيُّها العَرَبُ في مكةَ فقد يكونُ من العَرَبِ الغَساسِنةِ مثلاً-, قال: فلو أنِّي أعلمُ أني أخلُصُ إليهِ -أي لو أعلمُ أني أستطيعُ أن أصِلَ إليه سالِماً-؛ لَتَجَشَّمتُ لِقاءَهُ -أي تَكلَّفتُ لِألقاهُ-, ثم قال: ولو كنتُ عندَه لغَسَلتُ عن قَدَميه بالماء -يعني لخَدَمتُهُ خدمةً تامَّةً-.

 

ثم دعا هرقلُ بكتابِ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الذي بعثَ بهِ إليهِ فقالَ: اقرَؤوه, فجعلَ القارِئُ يقرأُ باللِّسانِ العَرَبِيِّ, فإذا فيهِ: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ: سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلاَمِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ وَ(يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لاَ نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)".

 

قال أبوسفيان: فلمَّا قُرِئَ الكتابُ فوَالله لقد رأيتُ وَجْهَ هرقل يَتَحادَرُ عَرَقاً مِن كَرْبِ الصَّحيفَةِ -أي: من شِدَّةِ وَقْعِ الكلامِ عَلَيه-, قال: فلما خُتِمَ الكتابُ كَثُرَ عندَهُ الصَّخَبُ وارتفعتْ الأصواتُ فأُمِرَ بنا فأُخرِجْنا.

 

فلمَّا خَرجنا قلتُ لأصحابي: لقد أَمِرَ أَمْرُ ابنِ أبي كَبْشَة -يعني لقد ظهرَ شأنُ هذا النبيِّ وسماه أبوسفيان بابنِ أبي كَبْشَةَ؛ لأنَّ العربَ إذا أرادت تَنَقُّصَ أحدٍ  نسبتهُ إلى جَدٍّ لا يُعرف, وأبوكَبشَة جَدٌّ من أجدادِ النبي -صلى الله عليه وسلم- غيرُ مشهور, فذكره  أبوسفيان تَنَقُّصاً فقال: لقد أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة إنَّهُ لَيَخافُه مَلكُ بني الأصفر, قال أبوسفيان: فما زِلْتُ مُوقِناً أنَّ دينَ محمدٍ سَيظهرُ حتى أدخلَ اللهُ عَلَيَّ الإسلام.

 

أيُّها المسلمون: ماذا كانَ حالُ هرقل بعد ذلك, وماذا فعل؟ وهل دخلَ في الإسلام أم لم يدخلْ؟.

 

لعلَّنا نقفُ على هذا في الخطبةِ الثانية, أقولُ ما تَسمعونَ وأستغفِرُ اللهَ الجليلَ لي ولكم من كُلِّ ذَنْبٍ فاستغفروهُ وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ على إحسانِه, والشكرُ لهُ على تَوفيقِهِ وامتنانه, وأشهدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ تَعظيماً لشأنِه, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُه الداعي إلى رِضوانِه, صلى الله وسلمَ وباركَ عليه وعلى آلهِ وصحبهِ وإخوانهِ وخِلَّانِه ومن سارَ على نَهجِهِ واقتَفى أثرَهُ واستَنَّ بسنتهِ إلى يوم الدين,

 

أما بعدُ:

 

أيُّها الإخوةُ الكرام: لما تَيَقَّنَ هرقلُ أنَّ الإسلامَ حَقٌّ, وأنَّ هذا النبيَّ صادِقٌ, وأنَّه الذي أمرَهم موسى وعيسى باتّباعِه جعلَتْ تُنازِعُهُ نفسُهُ بين الدُّنيا والآخِرَة, ولو كانَ مُوفَّقاً لَفَهِمَ أنَّ قولَهُ  -صلى الله عليه وسلم-: "أَسْلِمْ تَسْلَمْ" معناهُ أنَّكَ إذا دَخَلْتَ الإسلامَ فَسَتَسْلَمْ يَقيناً في الدنيا والآخرة, لكنَّه لم يُوفَّقْ لِفَهْمِ هذهِ العبارَةِ.

 

أشارَ هرقلُ إلى رَسولِ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: امْضِ بهذا الكتابِ إلى الناقور -وهو كبيرُ أساقِفَتِهم والناقور لهُ جَلالَةُ قدرٍ عندَهم-, قال: امضِ بهِ إليهِ, فمضى بالكتابِ إلى ذلكَ الناقور, فلمَّا قَرَأَهُ الناقورُ بَكَى, وقال: أشهدُ أنَّ هذا هو النبيُّ الذي أمرَنا عيسى باتِّباعِهِ, ثم خَلَعَ الصليبَ والمسوحَ التي تلبسُها النصارى, ولَبِسَ ثِياباً أُخَرَ وأقبلَ إلى هرقلَ وقال: يا أيُّها الملكُ أسْلِمْ, أشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ محمداً رسولُ اللهِ, فانطلقَ عليهِ الناسُ من حَولِ هرقل يَضربونَه حتى ماتَ تحتَ أرجُلِهم, فعلمَ هرقلُ أنَّهم فَعلوا ذلكَ بهذا الـمُعظَّمِ عندَهم فكيفَ سيفعلونَ بهِ إذا أسلمَ؟!.

 

فجرَّبَ طريقةً أخرى, أمرَ بالناسِ فجُمِعوا في مثلِ القلعةِ ومنَعهم من السلاحِ, فدخلَ الناسُ من دونِ سلاحٍ واجتمعوا بينَ يديهِ فقامَ إلى مَرتَفَعٍ وقال: أيُّها الناسُ! إنَّكم قد عَلِمتُم بهذا الكتابِ الذي وصَلَ إلينا فما رأيُكم أن ندخلَ في دينهِ؟.

 

سُبحانَ اللهِ! هذا أمرُ الإسلامِ لا يُؤخَذُ بمشورةِ الناسِ, إنما إذا تَبَيَّنَ الحقُّ وَجَبَ اتِّباعُه, لكنَّ هرقل شاوَرَهم, فلما سمعوا منهُ ذلك حاصوا حَيْصَةَ الحُمُر -أي تَفَرَّقوا عنهُ مثلَ الحُمُرِ الوَحْشِيَّةِ إذا هاجمها الأسَدُ-, حاصوا حَيصَةَ الحُمُرِ واضطربوا وتوجَّهوا إلى الأبوابِ؛ ليأتوا بأسلِحَتِهم لِقَتْلِه, فلما رأى ذلكَ عَلِمَ أنَّهم لن يُوافِقوهُ على الدين, وخافَ على نفسهِ ومُلكِه فقال: إني لم أرِدْ ذلكَ إنَّما أردتُ أن أرى صلابَتَكم في دينكم -أي لم أرِدْ أنْ تَدخلوا  الإسلام لكني أردتُ أن أعرفَ ثَباتَكم على دينِكم, فسَجَدوا له لما قال ذلك-, ووقَعَ بينَ هرقلَ والمسلمين حروبٌ بعدَ ذلك ولم يزلْ على نَصرَانِيَّتِه حتى مات.

 

أيُّها الأحبَّةُ الكرام: ختاماً؛ هذهِ العباراتُ التي تَكَلَّمَ بها هرقلُ هي معلوماتٌ عرفَها من شَرْعِ اللهِ الذي أنزلَهُ في الأديانِ السابِقَةِ, قال -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء: 25], فهم جميعاً جاؤوا بالتوحيدِ, و الرُّسُلُ قد يُكَذَّبونَ ثمَّ تكونُ لهم الغَلَبَةُ في النهاية.

 

أسألُ اللهَ -تعالى- أن ينفعَنا وإياكم بما سمِعنا, وأن يجعلَنا ممن ينصُر اللهُ -تعالى- بهم دينَه, وممن يُظهِرُ الله -تعالى- بهم شريعَته.

 

اللهم وفِّقنا لفعلِ الخيرات, وتركِ المنكرات, وحبِّ المساكين, اللهم وإن أردتَ بعبادِك فتنةً فاقبِضْنا إليك غيرَ خزايا ولا مَفتونين, اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمين وأخذُل الشركَ والمشركين, ودمِّرْ أعداءَك أعداءَ الدين.

 

اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ, كما صليتَ على إبراهيم وعلى آلِ إبراهيم, وبارك على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ كما باركتَ على إبراهيم وعلى آلِ إبراهيم إنَّكَ حميدٌ مجيد.

 

سبحانَ ربِّك رَبِّ العزَّةِ عمَّا يَصِفونَ وسلامٌ على المرسلينَ والحمدُ للهِ رَبِّ العالمين.

 

المرفقات

قصة هرقل

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات