قصة نوح -عليه السلام-

ناصر بن محمد الأحمد

2015-01-22 - 1436/04/02
عناصر الخطبة
1/بداية دعوة نوح -عليه السلام- لقومه 2/تكذيب قوم نوح وإغراقهم بالطوفان ونجاة المؤمنين 3/غرق ابن نوح-عليه السلام- 4/بعض عبر وعظات قصة نوح-عليه السلام-

اقتباس

استجاب الله -عز وجل- لدعاء نوح، وأراد سبحانه قبل أن يهلك القوم أن يهيئ له وللمؤمنين أسباب النجاة، فأمره عز وجل أن يصنع السفينة، شرع نوح -عليه السلام- في صنع السفينة، وبدأ قومه يستهزؤون به، بأنه قد تحول من داع إلى الله إلى...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله ...

 

أما بعد:

 

تتمة للسلسلة التي بدأناها معكم في قصص القرآن، فسوف يتناول حديثنا في هذه الجمعة قصة نبي الله نوح -عليه السلام-.

 

فنوح -عليه السلام- أيها الإخوة- أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، وذلك بعدما تحولوا إلى عبادة الأصنام؛ لأنه كما ورد في صحيح البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلها على التوحيد.

 

وقد ذكر الله -عز وجل- في كتابه أسماء الأصنام التي كان يعبدها قوم نوح، مما جاء على لسان أشرافهم: (وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا)[نوح: 23-24]

 

وقد لبث نوح في قومه زمناً طويلاً، يدعوهم إلى عبادة الله، قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا)[العنكبوت: 14].

 

ولكن هذه المرة لم تؤت ثمارها فيهم، فلم يؤمن برسالته إلا القليل منهم، فقال نوح -عليه السلام- لقومه: إني محذركم من عذاب، ومبين لكم طريق النجاة، فاعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئاً، لأني أخاف عليكم إن عبدتم غيره أو أشركتم معه سواه، أن يعذبكم يوم القيامة عذاباً شديداً، قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ)[هود: 25-26].

 

وقال تعالى: (قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)[نوح: 2-4].

 

ولكن قوم نوح لم يستجيبوا لنصيحته، ولم يأبهوا لإنذار الله لهم، وأنكروا عليه أن يكون نبياً لهم، قال سبحانه: (فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ)[هود: 27].

 

وقال سبحانه: (قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[الأعراف: 60-63].

 

استمر نوح -عليه السلام- في دعوته محاولاً إقناع قومه بأسلوب هين لين، كما في قوله تعالى: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ * وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ)[هود: 28-31].

 

لم تؤثر هذه الكلمات في نفوس القوم، بل ردوا عليه في عناد: (قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ * وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[هود: 32-34].

 

وبعد أن ضاق نوح ذرعاً بقومه لجأ إلى ربه، مستغيثاً به مما يلاقي من قومه: (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا)[نوح: 5-12].

 

ثم تابع نوح -عليه السلام- مخاطبة قومه، لافتاً أنظارهم إلى قدرة الله -عز وجل- فوقهم، وأنه سوف يميتهم ثم يبعثهم يوم القيامة للحساب: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا * وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا)[نوح: 15-20].

 

أيها المسلمون: بعد كل هذا يتبين لنوح -عليه السلام- أن هؤلاء سوف لا ينفعهم دعوة الله -عز وجل-، وإن تركوا متمادين في ضلالهم، أضلوا غيرهم عن الحق، ونشروا آثامهم، وانتقل فسادهم إلى ذريتهم بالوراثة، عندها دعا عليهم بأن لا يترك على الأرض منهم أحد، قال تعالى: (وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا)[نوح: 26-27].

 

استجاب الله -عز وجل- لدعاء نوح، وأراد سبحانه قبل أن يهلك القوم أن يهيئ له وللمؤمنين أسباب النجاة، فأمره عز وجل أن يصنع السفينة، شرع نوح -عليه السلام- في صنع السفينة، وبدأ قومه يستهزؤون به، بأنه قد تحول من داع إلى الله إلى نجار، قال سبحانه: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ * وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ)[هود: 37-39].

 

انتهى نوح -عليه السلام- من صنع السفينة، وظهرت علامات بدء العذاب، وهي تفجر الماء من الأرض، فأمر الله -عز وجل- نوحاً أن يجمع من كل صنف من الأحياء والحيوانات زوجين، ليحملهما معه في السفينة: (حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ * وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ)[هود: 40-42].

 

أرسل الله -عز وجل- بعد ذلك بقدرته على كل شيء من السماء مطراً غزيراً لم تعهد الأرض قبله، وأمر الأرض بأن تتفجر فيها المياه، فاجتمع ماء السماء وماء الأرض، ليحصل جراء ذلك الطوفان العظيم، الذي قدره الله لهلاك الكافرين، والسفينة الصغيرة تسير وسط هذه الأمواج المتلاطمة، بحفظ الله -عز وجل- ورعايته، وهذا ما ذكره الله -سبحانه وتعالى- بقوله: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ  * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ)[القمر: 10-14].

 

وبذلك انتهت نهاية هؤلاء الكافرين، الذين لم يستجيبوا لأمر نبيهم، بل فضلوا الخضوع للأصنام من الخضوع لرب العباد.

 

أيها المسلمون: وفي وسط تلك الأمواج المتلاطمة تحركت عاطفة الأبوة عند نوح -عليه السلام-، وتذكر ولده؛ لأنه كان من الكافرين يدعوه أبيه، فناداه الأب ليركب معه في السفينة، لينجوا من الغرق؛ ولكن ظلمة الكفر طمست على بصيرته، وأصر على عصيانه، وظن أنه سيلجأ إلى جبل مرتفع، ولن يصل الماء إليه، قال سبحانه: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ)[هود: 42-43].

 

عباد الله: لقد ثارت الشفقة في قلب نوح على ولده، فسأل الله -عز وجل- بعد ما تحقق من هلاكه أن ينجيه الله، فأجاب الله -عز وجل- بأن ولده كافراً، وإن عقيدة البراء من الكفار هو من أساسيات التوحيد، والذي يجب عليه أن لا يتغلب شفقة الأبوة على حكم الله -عز وجل-، قال سبحانه: (وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ)[هود: 45-47].

 

أيها المسلمون: وبذلك هلك الكفار من تأثير الطوفان، بعدها أمر الله -عز وجل- الأرض أن تبلع ماءها، وأمر السماء أن تقلع من المطر، واستوت سفينة نوح -عليه السلام- ومن معه عند جبل يسمى الجودى، قال تعالى في وصف ذلك: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[هود: 44].

 

رست السفينة عند ذلك الجبل، أمر الله نوحاً أن ينزل من السفينة إلى الأرض، فهبط بأرض الموصل محفوفاً ببركات من الله، ومن آمن معه: (قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ)[هود: 48].

 

بارك الله ...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله ...

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: بعد أن عرضنا عليكم في الخطبة الأولى، وبشكل موجز، قصة نبي الله نوح -عليه السلام- فإنه يجب علينا -أيها الإخوة- ألا تمر القصة هكذا؛ لكن لا بد من الوقوف عند بعض جوانبها؛ لنأخذ منها العبرة والعظة، وهكذا يستفاد من قصص القرآن، كما قال سبحانه: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[يوسف: 111].

 

عباد الله: إن أول ما نحب أن نقف عنده هو ذلك الشرك الذي من أجله، بعث الله رسوله نوح -عليه السلام- إلى قومه، لقد كانت عبادة الأصنام والشرك منتشراً عند قوم نوح، ولخطورة هذه القضية، ولسوء عاقبة المشرك، بعث الله فيهم نوحاً، لكي يحذرهم من الخزي الذي سوف يحل بهم في الدنيا والآخرة، إذا لم يرجعوا إلى ربهم.

 

إن عاقبة الشرك -يا عباد الله- وخيمة، والله -سبحانه وتعالى- يغار على دينه، وقد يغفر الله كل ذنب من الإنسان إلا الشرك: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء)[النساء: 48].

 

فإن بعض الناس في زماننا هذا أن الشرك قد زال، ويتصورون أن الأصنام قد زالت وذهبت، وما عاد الناس يعبدونها منذ فتح مكة، وتكسير الرسول -صلى الله عليه وسلم- الأصنام التي كانت على الكعبة وفي جوفها، فنقول: -أيها الإخوة- إن عبادة الأصنام قد عادت من جديد، وصار الناس في هذا الزمان، يعبدون أصناماً عصرية حديثة، قدمها لنا الكهنة الجدد، بأساليب وأشكال جديدة، أشد خطراً، وأعظم تأثيراً من الأصنام التي كان يعبدها قوم نوح، إن أصنام قوم نوح كانت أصناماً حسية مصنوعة من الحجر أو الشجر، أما أصنامنا نحن، فأصنام معنوية ألعن بكثير من الأصنام الحسية.

 

أيها المسلم: إن كل شيء خضعت له فقد اتخذته صنماً لك، ومن أهم هذه الأصنام التي انتشرت في زماننا، والتي خضع الناس لها: القومية والوطنية، والاشتراكية، والديمقراطية والعلمانية والوجودية، وغيرها كثير، وفي كل يوم نسمع بأسماء جديدة لأصنام جديدة، ما أنزل الله بها من سلطان.

 

أيها المسلمون: إن الخضوع كما ذكرت لكم من الأصنام نوع من أنواع الشرك بالله، فالحذر الحذر -أيها الإخوة- من الوقوع فيها؛ لأن عاقبة الشرك -كما سمعتم- ما حل بقوم نوح، وخيمة وليس بين الله وبين أحد من عباده نسب -والله المستعان-.

 

قضية أخرى: لا بد من التنبيه عليها وهي درس عظيم يؤخذ من قصة نوح -عليه السلام- أيضاً وهو الأسلوب الذي تدرج فيه الشيطان مع قوم نوح.

 

إن الشيطان -يا عباد الله- لم يطلب من قوم نوح عبادة غير الله، دفعة واحدة، ولو فعل ذلك، لما استجاب له أحد؛ لكنه تدرج معهم، فأوحى إلى قوم نوح، بوجوب صنع تماثيل لأولئك الرجال الصالحين تخليداً لذكراهم؛ لأن وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسر هذه أسماء رجالٌ صالحون، فأوحى لقوم نوح بوجوب صنع أصناماً بصورهم، تخليداً لذكراهم، فاستجاب القوم لوحي الشيطان، وبعد جيل من الزمان، بعد انقراض من تبقى من العلماء، أوحى لمن جاء بعدهم من الجيل الثاني: إن آباءكم، ومن سبقوكم كانوا يعبدون هذه الأصنام، فاستجابوا لوحي الشيطان، ووقعوا في الشرك.

 

ومن أعاد النظر وتأمل منكم -يا عباد الله- في واقعنا، وجد أن جند الشيطان من شياطين الإنس تعلموا هذه الخطة نفسها، التي رسمها قائدهم الأول مع قوم نوح.

 

إن أعداءنا -يا عباد الله- إذا تأملنا طريقتهم، نلاحظ أنهم ما أفسدوا ديار المسلمين، ولا أفسدوا أخلاق المسلمين وسلوكهم وتصوراتهم إلا عن طريق التدرج، وأسلوب المرحلةُ بعد المرحلة، ودليلنا على ذلك أن ما تعانيه أمتنا من انحرافات في جميع المجالات، انحرافات في الأخلاق، وانحرافات في التصورات، وانحرافات في نظم الاقتصاد، وانحرافات في القضايا الاجتماعية، بل انحراف وبعد عن الإسلام في جميع شئونه.

 

لم يحدث كل هذا -يا عباد الله- دفعة واحدة، وإنما تم على مراحل، خذ على سبيل المثال: قضية المرأة، وكيف أوصل أعداؤنا المرأة في العالم الإسلامي من امرأة محافظة على نفسها وعلى بيتها، من امرأة صانعةٍ للرجال إلى ما تشاهدونه وتسمعونه بأنفسكم من حال المرأة، فهل وصلت المرأة إلى ما وصلت إليه دفعة واحدة؟

 

ولكنه كما ذكرت -أيها الإخوة- لقد تم على مراحل، فأول ما رفع أعداء الإسلام، رفعوا شعار تعليم المرأة، وعندما تقرر لهم ذلك، وضعوا المناهج التي يريدون، وجاءوا بمدرسين ومدرسات تربوا على أعينهم.

 

وعندما تقرر لهم ذلك، زينوا للنساء المسلمات أن يتخذن من المرأة الغربية -على ما هي عليه من انحراف- قدوة لهن، وعندما تقرر لهم ذلك أخذوا ينادون بخلع الحجاب؛ لأنه قيد، ولا أصل له في دين الإسلام.

 

وعندما تقرر لهم ذلك راحوا ينادون بالاختلاط ومساواة المرأة بالرجل، في السياسة والإرث وإدارة أعمال الدولة.

 

وعندما تقرر لهم ذلك، وضعوا القوانين التي لا ترتب على المرأة عقوبة إن زنت، وكلكم يقرأ، ما تطالعنا به المجلات في الآونة الأخيرة حول قيادة المرأة للسيارة، وما يدندن حولها، ولا ندري -والله- ما هي المرحلة التي تلي هذه؟ إن لم يتغمدنا الله -عز وجل- برحمته، ويحفظ لنا نساءنا وبناتنا؟

 

ولو تعرضت لأي قضية أخرى، مما عم فيها البلاء في ديار المسلمين، رأيت أنه ما تم ذلك إلا بالتدرج وعلى مراحل، فالربا وكيف انتشر بين المسلمين؟ عن طريق البنوك وغيره لم تفتح هذه البنوك -أيها الإخوة- في يوم وليلة، لم يقنع فيها غالب المسلمين إلا بعد مراحل طويلة جداً.

 

فأقول: هل لنا في قصة نوح -عليه السلام- عبرة وعظة؟ وهل نبهتنا هذه القصة وموقف الشيطان من قوم نوح؟

 

لكي ننتبه ونأخذ الحذر من شياطين الإنس، وما يكيدونه لنا ليل نهار.

 

أيها المسلمون: قضية ثالثة: تستحق الوقوف عندها، ونحن نعايش قصة نبي الله نوح -عليه السلام-، وهي: قضية الولاء والبراء، مسألة الحب في الله والبغض في الله، والتي -والله- قد نزعت من قلوب غالب المسلمين، الولاء للمؤمنين، والبراء من المشركين الكافرين أياً كانوا، إن المسلم في حياته قد يبتلى بقومه أو أصدقائه أو حتى أهله، وقد يكون هو مسلماً وأحد هؤلاء من الكفار، فماذا يكون موقفه؟ وما الواجب عليه؟

 

لقد بين الله -عز وجل- المنهج واضحاً في قصة نوح -عليه السلام-، لكل مسلم، وهو أن لا تأخذه العاطفة، أو يجره الشفقة، أياً كان ذلك القريب.

 

إن الرابطة -يا عباد الله- هي رابطة العقيدة، وغيرها من الروابط لا بد تقطع، قال سبحانه: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ)[المجادلة: 22].

 

وقصة نوح -عليه السلام- مع ابنه، والدرس الذي علمه الله -عز وجل- له، وهو التبري من ولده، تذكرني باستغفار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعمه أبي طالب بعد هلاكه، وقوله: "والله لاستغفرن له ما لم أُنه عنك" فأنزل الله: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ)[التوبة: 113].

 

وروى الإمام أحمد في مسنده، من حديث أبي بريده عن أبيه، قال: "كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن في سفر، فنزل بنا ونحن قريب من ألف راكب، فصلى ركعتين، ثم أقبل علينا بوجهه، وعيناه تذرفان، فقام إليه عمر بن الخطاب وفداه بالأب والأم، وقال: يا رسول الله مالك؟ قال: "إني سألت ربي -عز وجل- في الاستغفار لأمي، فلم يُأذن لي، فدمعت عيناي رحمة لها من النار".

 

فما دلالة هذا -يا عباد الله- لم يأذن لخاتم الأنبياء أن يستغفر لأمه آمنة، ويعاتب؛ لأنه كان يستغفر لعمه أبي طالب، ويعاتب نبي الله نوح -عليه السلام-؛ لأنه سأل ربه نجاة ابنه المشرك من الغرق؟

 

فنقول بعد هذا: ماذا يكون موقف بعض المسلمين -هداهم الله- أمام الله -عز وجل- وهم لا يؤاكلون ولا يشاربون ولا يجالسون، بل ولا يثقون إلا بالكفار بدين الله؟ سواء كانوا كفاراً أصليين من اليهود والنصارى، أو كفاراً من بيننا، ومن أقوامنا، ممن هم تاركين للصلاة، أو منكرين أمراً معلوماً من الدين بالضرورة؟

 

إن القضية -يا عباد الله- خطيرة، وليست المسألة مسألة إثم ومعصية، بل القضية قضية إسلام وكفر، إيمان وشرك، جنة ونار.

 

فنسأل الله -عز وجل- أن يبصرنا في ديننا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

 

اللهم من أراد بالمسلمين بسوء فاشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدبيراً عليه، يا رب العالمين.

 

اللهم آمنا في...

 

 

المرفقات

-عليه السلام-

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات