قصة قارون وقصة الرجلين

مسفر بن سعيد بن محمد الزهراني

2022-10-10 - 1444/03/14
التصنيفات: الأمم السابقة
عناصر الخطبة
1/ قارون أبطرته النعمة ونسي فضل الله عليه 2/ حرص قارون على المال والاستزادة منه 3/ موسى والمؤمنون من قومه ينصحون قارون 4/ رفضه النصيحة والخسف به وبداره الأرض 5/ قصة الأخوين وتجادلهما في نعمة الله تعالى

اقتباس

هذه قصة أخرى لرجل من قوم موسى عليه السلام آتاه سعة في الرزق وبسطة في العيش حتى فاضت خزائنه بالأموال، واكتظت صناديقه بها، حتى ضاق الحفظة ذرعًا بمفاتيحها، وأثقلهم حملها، وناء العصبة أولو القوة -أي الجماعة الكبيرة من الناس الأقوياء- بها، إنه قارون أحد قوم موسى وعشيرته، وبينهما صلة رحم، اجتمعت له أسباب السعادة في الدنيا، وكان يعيش ..

 

 

 

الحمد لله يعطي من يشاء ممن يحمده ويشكره، ويسلب المال والنعم ممن يشاء ممن يكفر به ويتكبر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- واحمدوه واشكروه على نعمه، ولا تفكروا بها ولا تجحدوها، واستعينوا بما وهبكم الله -عز وجل- من نعم على أداء ما فرض عليكم وما خلقكم لأجله من عبادته سبحانه، واحذروا من معصيته -عز وجل-.

عباد الله: هذه قصة أخرى لرجل من قوم موسى -عليه السلام- آتاه سعة في الرزق وبسطة في العيش حتى فاضت خزائنه بالأموال، واكتظت صناديقه بها، حتى ضاق الحفظة ذرعًا بمفاتيحها، وأثقلهم حملها، وناء العصبة أولو القوة -أي الجماعة الكبيرة من الناس الأقوياء- بها، إنه قارون أحد قوم موسى وعشيرته، وبينهما صلة رحم، اجتمعت له أسباب السعادة في الدنيا، وكان يعيش في قومه عيشة البذخ والترف، فكان يلبس الملابس الفاخرة ولا يخرج على قومه إلا في زينته، ويسكن القصور، واستكثر من الخدم والعبيد والحشم، ويستمتع من الحياة بما يشبع نهمه ويروي ظمأه، ويريد أن يصل إلى الغاية في النعيم إن كان للنعيم غاية.

والمال منذ الأزل زينة الحياة الدنيا وبهجتها، ومن استحوذ عليه طغى وتكبر، وربما يستحقر الناس ويسخر البعض منهم لخدمته، فإذا تكلم طأطؤوا رؤوسهم لسماع كلامه، وإذا نادى استبقوا لتلبية ندائه.

وقارون لن يكون بدعًا في الحياة، وإنما كغيره من الناس الذين تبطرهم النعمة وينسون فضل الله -عز وجل- عليهم أو ينكرونه أو يجحدونه، بغى على قومه وتجبر عليهم.

وليت كل من أغناه الله أن يعرف أن المال لا يخضع الرقاب ولا يستذل العباد، وإنما الناس عبيد الإحسان، فإذا أحسن الغني إلى الفقير وأفاض عليه من خيره الذي أتاه استمال قلبه، ودفع الله بهذا الإحسان الكثير من الشر، وجلب الكثير من الخير، فرضي الله عنه، ويزيده من فضله، ويجزيه خير الجزاء في الآخرة، فينال الحسنيين: حسن الحديث عنه في الدنيا، وحسن الجزاء في الآخرة.

رأى القوم أن قارون سادر -أي مستمر- في طغيانه وبغيه، لا هم له إلا أن يستكثر من المال وإن تضور غيره جوعًا، وأن يكتسي من اللباس ما يزّين به، وإن رأى العُري فاشيًا، هذا مع غرور واستهتار وبطر، أي كفران للنعمة واستكبار.

فلما رأوا منه ذلك نقموا عليه، وحاولوا أن يثيروا فيه روح الخير وينصحوه بأن لا يغتر بالمال، وقالوا: إنا لا نريد أن تنفض يدك من الدنيا وزينتها وتتجافى عن مباهجها وتنأى بنفسك عن الاستمتاع بها، وإنما نريد لك الخير بأن تفصد إلى الطيب من الرزق والحلال من المتاع، وخذ فيه ما تشاء على أن لا يشغلك ذلك عن الفقراء، ولا ينسيك المحتاجين، فأحسن إليهم كما أحسن الله إليك ليحفظ الله عليك نعمته، ويزيد في مالك، ويضفي عليك من خيره وبركته.

ولكن أنى للطاغية أن تجدي فيه النصيحة!! فقد أشرب قلبه حب المال، فقد كان جافيًا في رده عليهم إذ قال: لست بحاجة إلى نصحكم، فأنا أرجحكم عقلاً، وما أوتيت هذا المال إلا لأني به أجدر وأحق، فاحتفظوا بالنصيحة لأنفسكم، وقوموا بها أموركم، أما أنا فخير منكم مقامًا، وأكثر عرفانًا وعلمًا، وأراد أن يزيد في إيلامهم وتحسرهم فخرج على قومه في زينته متكبرًا متغطرسًا، فرآه المستضعفون المحتاجون من قومه يرفل في الثياب الجميلة، ويركب المراكب والخدم يحيطون به، فأحدقت به العيون، واستشرف الناس لرؤيته، وحز في نفوسهم أن يروه في هذا النعيم وهم في فقر وضنك وبؤس مقيم، وتحدث بعضهم إلى بعض يقولون: يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون، إنه لذو حظ عظيم.

ودعاه موسى في شدة وإصرار أن يؤدي زكاة ماله، وأن يحسن إلى الفقراء، ففي ماله حق معلوم للسائل والمحروم، ولكن قارون قد طبع الله على قلبه، فلم يصغ إلى دعوة موسى، بل هزئ به وسخر منه ورماه بالبهتان ورد حديثه في عنف وسخرية، ورجع بعد ذلك قارون إلى بيته لم ينل الفقراء من ماله شيئًا، وازداد حبه للمال، وأساء إلى موسى يريد أن يشوه صورته أمام الناس، ولكن الله كشف ما أضمر، وأظهر ما أخفى، وخرج موسى من هذه التجربة أصفى نفسًا وأعلى مقامًا.

ولما يئس موسى من صلاح قارون دعا الله أن ينزل به عذابه ويخلص الناس من شر فتنته وإغوائه، فاستجاب الله لدعائه، وخسف به وبداره الأرض، فما كان له من فئة ينصرونه وما كان من المنتصرين، وابتلعته الأرض وغاصت فيها أمواله وقصوره، فكان عبرة لقوم موسى والمستضعفين من أتباعه، ولما رأى القوم ما حل بقارون رجعوا إلى أنفسهم نادمين على ما كان منهم، وحمدوا الله على أنهم لم يكونوا مثله وقالوا: (لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) [القصص:82]، وقال الله -عز وجل- بعد ذلك: (تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص:83].

عباد الله: وردت قصة قارون في الآيات من 76 إلى 83 من سورة القصص لمن أراد أن يقرأها ويفهم تفسير آياتها.

عباد الله: قصة أخرى تدل على الصراع بين الحق والباطل، فالصراع بين الحق والباطل قائم حتى تقوم الساعة، فهناك قصة أخوين من بني إسرائيل من رجل وأم -أي شقيقين- ولكنهما تباينا في طباعهما كما تباين النبتة وأصلها واحد.

أحدهما اسمه يهوذا، نشأ مؤمنًا بربه، عارفًا بمقدار نفسه، عفيفًا كريمًا وقورًا حليمًا، أعرض عن الدنيا وزخرفها ومتاعها، والآخر اسمه قطروس، نشأ كافرًا جاحدًا شحيحًا بخيلاً، كز اليدين غليظ الكبد جافي الطبع، ترك لهما والدهما بعد موته ثروة ضافية، ونعمة وافية، فلما اقتسما المال والعقار ذهب كل منهما في إنفاقه مذهبًا يوائم طبعه، وينسجم مع هواه وطبعه.

أما يهوذا فقد توجه إلى الله قائلاً: يا رب: إني سأخرج مالي في مرضاتك وطاعتك شكرًا لنعمتك وطمعًا في جنتك، فأنفق ماله في سبيل الله من وجوه بذل المعروف وإعانة المحتاجين من الناس على نوائب الدهر، حتى نفد ماله أو كاد، ولكن ظل طول عمره هادئ الضمير مرتاح الفؤاد قانعًا بالكفاف راضيًا بقليل الزاد.

أما قطروس فإنه ما كاد يتسلم ماله حتى وضع دونه المفاتيح والأغلاق، ثم حرم السائل وأصم أذنيه عن أنه الفقير المسكين، ثم كان له بستانان –جنتان- أنفق عليهما عمره وحياته، زرع فيهما العنب فأورق وأثمر، وامتد عرشهما وأورق ظلهما، ثم اتخذ بينهما طريقًا عبدها ومهدها وأجرى بينهما الماء وأحاطهما بالنخيل، فكان من يراهما يحسب أن جنة الخلد قد نزلت إلى الأرض في أبهى حللها وأنفس حلاها، ثم بسط الله له في رزقه وزاد ماله، ورزقه الله أولادًا زادوا في مظاهر نعمته ورفاهية عيشه.

وظل يمرح في تلك النعمة، وكان من الواجب عليه أن يؤمن بالله ويحمده ويشكره على ما أعطاه، ولكن النعمة أطغته، فأمعن في الغفلة، وما ازداد بتلك النعم إلا كفرانًا وجحودًا لفضل من وهبه إياه، وهو الله -عز وجل-.

مرّ عليه أخوه بعد مدة من الزمن في ثياب مرقعة وأسمال بالية، فاحتقره في نفسه، ونال منه بقارص قوله: أين مالك وأين فضتك وذهبك؟! شتان ما بيني وبينك، أنت رقيق الحال لا مال لك ولا أولاد، لا تملك شيئًا.

ونكمل في الخطبة الثانية -إن شاء الله-.

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وسنة خاتم رسله، ونسأل الله أن يرزقنا القناعة بالقليل، وأن يهبنا مالاً حلالاً، وأن ننفقه في طاعة الله -عز وجل-.

أقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله يمن على من يشاء بالقناعة والإيمان، ويضل من يشاء فتكفره النعمة ويطغيه المال ويزهو بالأولاد.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله -عباد الله-، واحمدوه واشكروه على نعمه، وأولها نعمة الإسلام والإيمان، ونعمة الأمن والأمان في الأوطان والصحة في الأبدان.

عباد الله: إكمالاً لقصة الأخوين المؤمن الفقير والغني الجاحد لنعم الله نقول وبالله التوفيق: إن قطروس عندما احتقر أخاه يهوذا وأراه ما هو فيه من نعمة وتكبر عليه ولم يذكر فضل الله عليه، قال يهوذا لأخيه: إنك لتكفر بالله إذ تنكر عليه أن يبعثك أو يحييك بعد موتك فيحاسبك، وذكّره بخلق الله له من العدم، أفليس الذي خلقه في أطوار بقادر على أن يحييه بعد موته؟!

لا، بل ما زلت أهون على الله ثم تعيرني بالفقر وتكاثرني بالمال، وأنا في فقري أغنى منك في غناك، فليست الثروة بما تحرز من مال أو غيره، بل الثروة إنما تقدر بقدر ما تزهد فيه من حاجات، أو تستغني عنه من متاع وزخرف، فلماذا تكاثرني بمالك وأولادك؟! إن الله -عز وجل- قادر على أن يجعلها هشيمًا تذوره الرياح، وذلك النفر الذين تعتد بهم ليسوا إلا أعوانًا لك على الشر، يطغونك ويفتنونك، أما أنا فحسبي الله نصيرًا ووكيلاً، والنعمة عندي أن أجد الكفاف حاضرًا، وأن أكون صحيحًا في جسمي، آمنًا في سربي، إن جعت يومًا فأدعو الله، وإن شبعت يومًا حمدت الله وشكرته خير لي من هذا المال الذي قد يبطرني ويطغيني كما أبطرك وأطغاك، وعسى ربي أن يجازيني على ما أنفقت من مالي على الفقراء أن يكون قد أعد لي جنة خيرًا من جنتك، ونعيمًا مقيمًا في الآخرة خيرًا مما تنعم به في الدنيا، أما جنتاك هاتان فقد لا تأمن عليهما من بوادي العواصف أو تقلب الأنواء، فتصبح فإذا الأوراق جافة، وتصبح على الأرض كعصف مأكول، وهذا الماء الذي يجري بينهما قد يغور في أعماق الأرض، فتطلبه بكل حيلة فلا تستطيع الوصول إليه.

وفرغ يهوذا من قوله ثم ترك أخاه يعجب ببستانه ويمرح بين أزهاره، وأصبح قطروس يومًا وذهب كعادته إلى بستانه كما اعتاد، فما راعه إلا أن رآها أطلالاً بالية ورسومًا عافية وعروشًا محطمة، فجف حلقه، وأخذ يقلب كفيه حسرة وندامة على ما أنفق فيها من جهد ومال ويقول: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا)[الكهف:42].

عباد الله: وردت هذه القصة في سورة الكهف في الآيات من 32 إلى 44، ونسأل الله أن نكون من المعتبرين المتعظين.

وصلوا -عباد الله- وسلموا على خاتم رسل الله نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
 

 

 

 

 

المرفقات

قارون وقصة الرجلين

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات