عناصر الخطبة
1/ إسلام عمار بن ياسر 2/ تعذيب قريش له ولأسرته واستشهاد والدته 3/ هجرته للحبشة 4/ عودته لمكة ثم هجرته للمدينة 5/ تنبؤ النبي الكريم بمقتله بيد الفئة الباغية 6/ توليه إمارة الكوفة 7/ خبر استشهاده في صفين 8/ دروس وعبر من سيرة عمار بن ياسراقتباس
صحابيٌّ من الصحابة الكرام، وفارس من فرسان الإسلام، وأحد السابقين الأولين، الذين صبروا على العذاب المهين، ينتمي للأسرة التي تحملت الجزء الأكبر من تعذيب قريش للمستضعفين، لما أشرق نور الإسلام وحاولت حجبه بمد السياط لتمزق ظهور السابقين من المستضعفين، لكن إيمانهم -رضي الله عنهم- مزق السياط، وكسر الأغلال، إنهم (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) [الأحزاب:23].
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي وعد من أطاعه بنعيم الجنان، وتوعد من عصاه بجحيم النيران، مظهر الحق ومبديه، ومنجز الوعد وموفيه، ومسعد العبد ومشقيه؛ فسبحان من أضحك وأبكى، وأمات وأحيا، الملك الذي يعلم السر وأخفى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الإله الديان، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث إلى كافة الإنس والجان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل الفضل والعرفان، وسلم تسليما.
أما بعد: فيا عباد الله، أيها المسلمون، صحابيٌّ من الصحابة الكرام، وفارس من فرسان الإسلام، وأحد السابقين الأولين، الذين صبروا على العذاب المهين، ينتمي للأسرة التي تحملت الجزء الأكبر من تعذيب قريش للمستضعفين، لما أشرق نور الإسلام وحاولت حجبه بمد السياط لتمزق ظهور السابقين من المستضعفين، لكن إيمانهم -رضي الله عنهم- مزق السياط، وكسر الأغلال، إنهم (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) [الأحزاب:23].
سمع -رضي الله عنه- بدعوة الإسلام مبكرا، فجذبته أضواء القرآن للإيمان برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فانطلق إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم ليعلن الانضمام إلى ركاب المؤمنين، يقول -رضي الله عنه-: "لقيت صهيب بن سنان على باب دار الأرقم، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها، فدخلنا، فعرض علينا الإسلام فأسلمنا"، أسلم وحسن إسلامه.
من هو الذي أسلم؟ إنه عمار بن ياسر -رضي الله عنه-، ثم اتخذ مسجدا في بيته يصلي فيه مع والده ووالدته الذين آمنوا بالله وبرسول الله.
في مسجده كان يقرأ القرآن، ويخفت صوته حتى لا تعلم قريش بإسلامه، لكن حلاوة القرآن وروعة القرآن ربما أنسته نفسه فرفع صوته مدويا بالقرآن.
لقد أحبوا القرآن، وعاشوا مع القرآن، ونحن هجرنا القرآن، ونسينا القرآن، نطرب للأغاني والأشعار، والقصص والأخبار، ونعرض عن كلام العزيز الغفار!.
تسمعت قريش إلى صوت القرآن منبعثا من دار آل ياسر، وتلصصت عيونهم فشاهدوا صلاتهم وخشوعهم، فاقتحمت قريش عليهم دارهم، وأخذت تصب عليهم العذاب صبا.
كانت تخرج بهم إلى الصحراء، وتجردهم من ملابسهم، وتلقي بهم على الرمل، وتثقل بطونهم بالحجارة، وتدمي أجسادهم بالسياط، وتضع الجمر فوق أطرافهم؛ ليكفروا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
لقد استحقوا المنازل العلية باقتدار -رضي الله عنهم-، صبروا على مر العذاب، لقد قام الدين على أجسادهم الضعيفة، ما غيروا ولا بدلوا، ولا ضعفوا ولا استكانوا، أما نحن فـ
نصل الذنوب إلى الذنوب ونرتجي *** دَرَجَ الجنان لدى النعيم الخالدِ
لا نصبر على شهوة سمع أو بصر أو غيرها، وإذا تكلم أحدنا عن نفسه كأن أبواب الجنة فُتحت له! ما إن يموت حتى يدخل الجنة من أوسع أبوابها!.
استمرت قريش تعذب آل ياسر عذابا رهيبا متصلا لا تكف ولا تمل، ويمر عليه الصلاة والسلام عليهم وهم يعذبون والأسى يعتصر قلبه، والألم يقطع فؤاده الشريف؛ لأنه لا يستطيع فعل شيء لهم، فما يزيد عن قوله: "صبرا آل ياسر! فإن موعدكم الجنة!"
واليوم، لنا إخوان في الدين والعقيدة في الشام والأحواز وفلسطين والعراق وبورما وغيرها، نرى ونسمع ما يفعل اليهود والنصارى والرافضة بهم ولا نستطيع لهم نصرا ولا تأييدا، فما نملك إلا أن نقول كما قال -عليه الصلاة والسلام-: صبرا أهل الإسلام كما صبر السابقون الأولون! صبرا فأنتم تسيرون على درب الصحابة الكرام والأئمة الأعلام! صبرا صبرا! عسى الله أن يكتب فرجا عاجلا!.
ويدخل أبو جهل على سمية أم عمار، يرفسها ويركلها بقدميه وهي تقول: "أحد أحد! أحد أحد!"، فيجن ويقوم كالثور الهائج ليضربها ويدعوها إلى الكفر برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لكنها لا تسمع ولا تجيب، لقد نسيت العذاب؛ لأن الإيمان سكن قلبها -رضي الله عنها-.
عندها طار عقله فتناول حربته فطعنها في قبلها، طعنها في فرجها حتى أنفذ الحربة إلى أحشائها، فخرت صريعة شهيدة، فكانت أول شهيدة في الإسلام، سقط الجسد الضعيف على الأرض، تنزف دماؤه، وارتفعت الروح إلى بارئها، إلى أعلى عليين، رضي الله عن تلك الأجساد الطاهرة.
سمية -رضي الله عنها- صمدت وثبتت ولم تتراجع وهي ترى الموت يحيط بها، وكثير من نساء المسلمين اليوم تراجعن؛ ليس لأن الواحدة منهن رأت الموت، بل تراجعت أمام المغريات! أمام الموضة! أمام زهرة الحياة الدنيا! تلاعبت بالحجاب، وخالطت الرجال، وفَتنت وفُتنت، تريد الخروج من البيت، تريد السفر لوحدها، تريد أن تقود السيارة، تريد أن تلعب الكرة وتمارس الرياضة!.
ضحكوا عليها والله! فهم لا يريدونها لاعبة بل ألعوبة بين أيديهم! يريدونها سلعة رخيصة يتقاذفونها لإشباع شهواتهم، والله يريدها درة مصونة بعيدة عن أيدي العابثين: (وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا * يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا) [النساء:27-28].
ومع اشتداد العذاب على الصحابة أمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالهجرة إلى الحبشة، لكن عمارا لم يستطع الهجرة، فقد منعه المشركون، وبقي غرضا لكيدهم.
ويهاجر الصحابة إلى الحبشة الهجرة الثانية، ويفلت عمار من المشركين ويهاجر مع المهاجرين، وفي رحاب ملك الحبشة استراح عمار، وهدأت روحه.
واليوم يعيد التاريخ نفسه، ويهاجر السوريون من ديارهم إلى ديار الكفر هربا من النظام المجرم الذي لا يعرف صغيرا ولا كبيرا، يهاجرون فرارا بأنفسهم ودينهم وأطفالهم.
اللهم يا قوي يا قادر، مزق ملك بشار يا قوي يا قادر، يا الله أرنا فيه عجائب قدرتك! اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك! اللهم اشف صدورنا منه يا قوي يا قادر، يا قوي يا قادر يا سميع الدعاء! اللهم عجل لهم بالفرج يا ذا الإفراج!.
ويعود المهاجرون إلى مكة بعد أن شاع أن قريشا تابعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعاد عمار مع العائدين ولم يمكث طويلا حتى أذن لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالهجرة إلى المدينة، فهاجر إليها، وعاش فيها يترقب وصول الركاب الشريف، ركاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد كان يخوض إلى مشارف المدينة يسأل الركبان، ويرقب طريق مكة؛ لعله يحظى بوصول ناقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ويصل الخبر بمقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، فتخرج المدينة كلها، خرج رجالها ونساؤها وأطفالها يستقبلون الملك، يستقبلون الأمير، يستقبلون الوزير، لا والله! لن يساوي [شيء من ذلك] الأرض التي نشأ عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-!.
يستقبلون رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يا الله! ما أحلى تلك اللحظات! يستقبلون الركاب الشريف، رضي الله عنهم وأرضاهم.
ويستقر -عليه الصلاة والسلام- في المدينة، ثم يندب الصحابة لبناء مسجده، فكان كل واحد من الصحابة ينقل لبنة لبنة، وعمار ينقل لبنتين لبنتين، فرآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فجعل ينفض رأسه الشريف ويقول: "ويحك ابن سمية! تقتلك الفئة الباغية"، ليسوا كفارا ولا مشركين، لكنهم من المسلمين، يخالفون الإمام الأعظم ويقاتلونه.
وتمر الأيام، ويأتي رجال إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينعون عمارا، ويخبرونه بوقوع حائط عليه، وأنه مات، ويقول -عليه الصلاة والسلام-: "ما مات عمار، ما مات عمار، ما مات عمار"؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وعمار ستقتله الفئة الباغية.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات:9-10].
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فيا معاشر المسلمين، شهد عمار المشاهد كلها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان ممن بايع تحت الشجرة، ولما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذرفت دموع غزيرة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ارتد من ارتد، وظهر من ادعى النبوة، فوقف صدّيق الإسلام لتلك الفتنة، وقاتل أهل الردة.
وكانت معركة اليمامة، فكان عمار من أبطالها، يقول ابن عمر: "رأيت عمارا يوم اليمامة على صخرة وقد أشرف يصيح: يا معشر المسلمين! أمن الجنة تفرون؟ أنا عمار بن ياسر! هلمَّ إليَّ! وأنا أنْظُرُ إلى أُذنِه قد قُطَعتْ، فهي تَذَبْذَبُ، وهو يقاتل أشدّ القتال، حتى تحقق النصر".
ولما تولى فاروق الإسلام عمر بعث رجالا إلى بلاد الفرس والروم ولاة على الأقاليم، وبعث عمار بن ياسر أميرا على الكوفة، عاش عمار أميرا زاهدا، وحاكما ورعا، يحب رعيته ويرعاها، لا يعرف فظاظة الحكام، ولا إمرة الأمراء.
وفي خلافة علي -رضي الله عنه- وقعت الفتنة بين علي ومعاوية -رضي الله عنهما-، وتقابلوا في معركة صفين، وينضم عمار إلى علي، ويتقدم إلى أرض المعركة.
قال أبو عبد الرحمن السلمي: سمعت عماراً يقول يومئذ لهاشم: "يا هاشم، تقدم! الجنة تحت الأبارقة، اليوم ألقى الأحبة، محمدا وحزبه، والله لو هزمونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق وهم على الباطل". ثم قال:
نحن ضربناكم على تنزيله *** فاليوم نضربكم على تأويله
ضرباً يزيل الهام عن مقيله *** ويذهل الخليل عن خليله
أو يرجع الحق إلى سبيله
ثم تقدم فقاتل وقُتل رضي الله عنه وأرضاه، فحمله علي -رضي الله عنهما- ودفنه في ثيابه، وبهذا ودع عمار الحياة نصيرا للحق، قتيلا بسيف البغي، رضي الله عنه وأرضاه، وجمعنا به في دار الكرامة إخوانا على سرر متقابلين.
هذا وصلوا وسلموا على رسول الله؛ امتثالا لأمره -جل وعلا-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك نبيك محمد، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، وتابعي التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم