قصة طالوت وجالوت

الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل

2024-07-26 - 1446/01/20 2024-07-24 - 1446/01/18
عناصر الخطبة
1/سنة التدافع بين الحق والباطل من سنن الله القديمة المستمرة 2/عبر وعظات من قصة طالوت وجالوت 3/الرابط بين قصة طالوت وجالوت وغزوة بدر 4/سبب ضرب الذلة على بني إسرائيل على مر الزمان

اقتباس

أَنْزَلَ اللَّهُ -تَعَالَى- هَذِهِ الْقِصَّةَ قُبَيْلَ غَزْوَةِ بَدْرٍ؛ كَمَا يُشْعِرُ بِذَلِكَ حَدِيثُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- فِي جَعْلِ عِدَّةِ أَهْلِ بَدْرٍ كَعِدَّةِ الْمُؤْمِنِينَ الثَّابِتِينَ مَعَ طَالُوتَ، وَكَأَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ إِنَّمَا أُنْزِلَتْ تَثْبِيتًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَتَقْوِيَةً...

الخطبة الأولى:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ مَالِكِ الْمُلْكِ، يُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ، وَيَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ يَشَاءُ، وَيُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ (‌يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)[الْحَجِّ:75]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ، وَأَزْكَى الْبَشَرِيَّةَ؛ خَيَّرَهُ رَبُّهُ بَيْنَ الْمُلْكِ وَالرِّسَالَةِ، وَبَيْنَ الْعُبُودِيَّةِ وَالرِّسَالَةِ، فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَتَمَسَّكُوا بِدِينِهِ، وَاسْتَقِيمُوا عَلَى أَمْرِهِ، وَأَقِيمُوا شَرْعَهُ، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِهِ؛ (‌فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[هُودٍ:112].

 

أَيُّهَا النَّاسُ: الْمَعْرَكَةُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ضَارِبَةٌ فِي الْقِدَمِ، وَبَاقِيَةٌ إِلَى آخِرِ الزَّمَنِ، وَهِيَ سُنَّةُ اللَّهِ -تَعَالَى- فِي التَّدَافُعِ؛ (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)[الْبَقَرَةِ:251]، وَهَذِهِ الْآيَةُ الْعَظِيمَةُ هِيَ الْخَاتِمَةُ لِذِكْرِ الْمَعْرَكَةِ الَّتِي وَقَعَتْ بَيْنَ طَالُوتَ وَجَالُوتَ، وَاشْتُهِرَ فِيهَا نَبِيُّ اللَّهِ دَاوُدُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَقَدْ قَصَّ اللَّهُ -تَعَالَى- عَلَيْنَا خَبَرَهَا فِي الْقُرْآنِ لِلْعِظَةِ وَالِاعْتِبَارِ.

 

وَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَتَابَعَ الرُّسُلُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، ثُمَّ تَرَكُوا دِينَهُمْ، وَفَسَدَتْ أَخْلَاقُهُمْ، وَانْغَمَسُوا فِي الْمُحَرَّمَاتِ، فَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ أَعْدَاءَهُمْ فَاسْتَبَاحُوهُمْ وَسَبَوْهُمْ، فَجَاءَ نَفَرٌ مِنْ كُبَرَائِهِمْ وَأَشْرَافِهِمْ وَسَادَتِهِمْ إِلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِمْ يَشْكُونَ لَهُ حَالَهُمْ، وَمَا حَلَّ بِهِمْ، وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَخْتَارَ لَهُمْ مَلِكًا يَسُوسُهُمْ لِقِتَالِ أَعْدَائِهِمْ، وَالِانْتِصَافِ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ -تَعَالَى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)[الْبَقَرَةِ:246]؛ فَخَشِيَ نَبِيُّهُمْ أَنْ يَمْتَنِعُوا عَنِ الْقِتَالِ كَمَا امْتَنَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، حِينَ خَذَلُوا مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ (قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا)[الْبَقَرَةِ:246]، وَلَكِنَّهُمْ أَبْدَوْا سَبَبًا لِلْجِهَادِ؛ وَهُوَ أَنَّ عَدُوَّهُمْ قَدِ اسْتَبَاحَهُمْ؛ فَقَتَلَ رِجَالَهُمْ، وَمَلَكَ جُمْلَةً مِنْ دِيَارِهِمْ، وَأَخَذَ تَابُوتًا يَحْوِي آثَارًا مِنْ آلِ مُوسَى وَآلِ هَارُونَ، مِنْهَا شَيْءٌ مِنْ أَلْوَاحِ التَّوْرَاةِ، وَبَعْضِ شَرَائِعِهِمْ، وَعَصَا مُوسَى، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانَ مُقَدَّسًا عِنْدَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ نَكَلُوا عَنِ الْقِتَالِ لَمَّا فُرِضَ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنْهُمْ؛ (قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)[الْبَقَرَةِ:246].

 

فَاخْتَارَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ طَالُوتَ مَلِكًا عَلَيْهِمْ، وَقَائِدًا لَهُمْ، فَجَادَلُوا فِي قِيَادَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كُبَرَائِهِمْ وَلَا أَغْنِيَائِهِمْ، فَأَخْبَرَهُمْ نَبِيُّهُمْ أَنَّ مُقَوِّمَاتِ الْقِيَادَةِ فِيهِ؛ وَهِيَ الْعِلْمُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْحِكْمَةِ وَحُسْنِ السِّيَاسَةِ، وَبَسْطَةُ الْجَسَدِ وَقُوَّتُهُ مَعَ الشَّجَاعَةِ الَّتِي تُمَكِّنُهُ مِنْ تَنْفِيذِ قَرَارَاتِهِ، وَسِيَاسَةِ دَوْلَتِهِ، وَقَبْلَ ذَلِكَ وَبَعْدَهُ اصْطِفَاءُ اللَّهِ -تَعَالَى- لَهُ، وَاللَّهُ -تَعَالَى- لَا يَخْتَارُ لَهُمْ إِلَّا مَنْ يَسْتَحِقُّ قِيَادَتَهُمْ؛ (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[الْبَقَرَةِ:247]، وَجَعَلَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ عَلَامَةً عَلَى تَمَلُّكِهِ عَلَيْهِمْ؛ وَهُوَ رُجُوعُ التَّابُوتِ الْمُقَدَّسِ إِلَيْهِمْ، "فَأَتَتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ حَامِلَةً لَهُ وَهُمْ يَرَوْنَهُ عِيَانًا"؛ (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[الْبَقَرَةِ:248].

 

وَسَارَ بِهِمْ مَلِكُهُمْ طَالُوتُ لِقِتَالِ أَعْدَائِهِمْ حَتَّى فَارَقُوا مُدُنَهُمْ وَقُرَاهُمْ، ثُمَّ امْتُحِنُوا؛ لِيُعْلَمَ بِهَذَا الِامْتِحَانِ ثَبَاتُهُمْ فِي الْجِهَادِ، وَجِدُّهُمْ فِي الْقِتَالِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ عَصَوْا مَلِكَهُمْ؛ (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ)[الْبَقَرَةِ:249]، "وَفِي هَذَا الِابْتِلَاءِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ قَدْ قَلَّ عَلَيْهِمْ لِيَتَحَقَّقَ الِامْتِحَانُ، فَعَصَى أَكْثَرُهُمْ وَشَرِبُوا مِنَ النَّهْرِ الشُّرْبَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ، وَرَجَعُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ، وَنَكَصُوا عَنْ قِتَالِ عَدُوِّهِمْ، وَكَانَ فِي عَدَمِ صَبْرِهِمْ عَنِ الْمَاءِ سَاعَةً وَاحِدَةً أَكْبَرُ دَلِيلٍ عَلَى عَدَمِ صَبْرِهِمْ عَلَى الْقِتَالِ الَّذِي سَيَتَطَاوَلُ، وَتَحْصُلُ فِيهِ الْمَشَقَّةُ الْكَبِيرَةُ، وَكَانَ فِي رُجُوعِهِمْ عَنْ بَاقِي الْعَسْكَرِ مَا يَزْدَادُ بِهِ الثَّابِتُونَ تَوَكُّلًا عَلَى اللَّهِ -تَعَالَى-، وَتَضَرُّعًا وَاسْتِكَانَةً وَتَبَرُّؤًا مِنْ حَوْلِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ، وَزِيَادَةَ صَبْرٍ لِقِلَّتِهِمْ وَكَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ"؛ (فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ)[الْبَقَرَةِ:249]؛ فَلَمْ يَبْقَ مَعَ طَالُوتَ إِلَّا الْقِلَّةُ، وَكَانُوا بِعِدَّةِ أَهْلِ بَدْرٍ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "كُنَّا نَتَحَدَّثُ: أَنَّ أَصْحَابَ بَدْرٍ ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ، ‌بِعِدَّةِ ‌أَصْحَابِ طَالُوتَ، الَّذِينَ جَاوَزُوا مَعَهُ النَّهَرَ، وَمَا جَاوَزَ مَعَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)، وَلَكِنَّ انْسِحَابَ الْأَكْثَرِيَّةِ مِنَ الْجَيْشِ لَمْ يَفُتَّ فِي عَضُدِ الْقِلَّةِ الْمُؤْمِنَةِ، وَلَمْ يُوهِنْ عَزِيمَتَهُمْ، بَلْ عَزَمُوا عَلَى الْقِتَالِ؛ لِعِلْمِهِمْ أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ -تَعَالَى-، لَا بِكَثْرَةٍ وَلَا بِقُوَّةٍ؛ (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)[الْبَقَرَةِ:249].

 

وَدَنَتْ سَاعَةُ الْقِتَالِ، وَتَقَابَلَ الصَّفَّانِ: صَفُّ الْمُؤْمِنِينَ بِقِيَادَةِ طَالُوتَ، وَصَفُّ الْمُشْرِكِينَ بِقِيَادَةِ جَالُوتَ؛ فَدَعَا الْمُؤْمِنُونَ رَبَّهُمْ بِثَلَاثٍ: بِالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ وَالنَّصْرِ؛ فَاسْتُجِيبَ لَهُمْ؛ (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ)[الْبَقَرَةِ:250-251].

 

وَفِي أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ جَالُوتَ كَانَ ضَخْمًا شُجَاعًا مُقَاتِلًا، لَا يُبَارِزُ أَحَدًا إِلَّا قَتَلَهُ، فَخَرَجَ يَطْلُبُ الْمُبَارَزَةَ، وَكَانَ دَاوُدُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَتًى صَغِيرًا، لَكِنَّهُ كَانَ شُجَاعًا مَاهِرًا فِي الرَّمْيِ، يَرْمِي بِالْمِقْلَاعِ، فَلَمَّا طَلَبَ جَالُوتُ الْمُبَارَزَةَ عَلَى عَادَتِهِ بَرَزَ لَهُ دَاوُدُ فَرَمَاهُ بِالْمِقْلَاعِ مَعَ رَأْسِهِ فَأَسْقَطَهُ، ثُمَّ عَلَاهُ بِسَيْفِهِ فَاحْتَزَّ رَأْسَهُ، وَفِيهَا -أَيْضًا- أَنَّ طَالُوتَ أُعْجِبَ بِشَجَاعَةِ دَاوُدَ فَزَوَّجَهُ ابْنَتَهُ، فَوَرِثَ الْمُلْكَ بَعْدَهُ، وَجَمَعَ اللَّهُ -تَعَالَى- لَهُ النُّبُوَّةَ مَعَ الْمُلْكِ؛ (وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ)[الْبَقَرَةِ:250].

 

وَخُتِمَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ الْعَظِيمَةُ بِبَيَانِ أَنَّ الْمُدَافَعَةَ لِصَلَاحِ الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهَا؛ (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ)[الْبَقَرَةِ:251]؛ "أَيْ: لَوْلَا أَنَّهُ يَدْفَعُ بِمَنْ يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِهِ كَيْدَ الْفُجَّارِ، وَتَكَالُبَ الْكُفَّارِ؛ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ بِاسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ عَلَيْهَا، وَإِقَامَتِهِمْ شَعَائِرَ الْكُفْرِ، وَمَنْعِهِمْ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَإِظْهَارِ دِينِهِ؛ (وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)[الْبَقَرَةِ:251]؛ حَيْثُ شَرَعَ لَهُمُ الْجِهَادَ الَّذِي فِيهِ سَعَادَتُهُمْ وَالْمُدَافَعَةُ عَنْهُمْ، وَمَكَّنَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ بِأَسْبَابٍ يَعْلَمُونَهَا، وَأَسْبَابٍ لَا يَعْلَمُونَهَا"؛ (تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)[الْبَقَرَةِ:252].

 

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوهُ؛ (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا ‌تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ)[الْبَقَرَةِ:48].

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: أَنْزَلَ اللَّهُ -تَعَالَى- هَذِهِ الْقِصَّةَ قُبَيْلَ غَزْوَةِ بَدْرٍ؛ كَمَا يُشْعِرُ بِذَلِكَ حَدِيثُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- فِي جَعْلِ عِدَّةِ أَهْلِ بَدْرٍ كَعِدَّةِ الْمُؤْمِنِينَ الثَّابِتِينَ مَعَ طَالُوتَ، وَكَأَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ إِنَّمَا أُنْزِلَتْ تَثْبِيتًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَتَقْوِيَةً لَهُمْ فِي مُوَاجَهَةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ بِثَلَاثَةِ أَضْعَافٍ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي قَوْلِ اللَّهِ -تَعَالَى-: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ ‌قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)[الْبَقَرَةِ:249].

 

وَفِيهَا تَرْبِيَةٌ لِلصَّحَابَةِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بَعْدَهُمْ عَلَى الِاعْتِمَادِ عَلَى اللَّهِ -تَعَالَى-؛ وَذَلِكَ "أَنَّ الِاتِّكَالَ عَلَى النَّفْسِ سَبَبُ الْفَشَلِ وَالْخِذْلَانِ"؛ كَمَا يُفِيدُهُ قَوْلُ اللَّهِ -تَعَالَى-: (قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)[الْبَقَرَةِ:246]، كَمَا أَنَّ "الِاسْتِعَانَةَ بِاللَّهِ وَالصَّبْرَ وَالِالْتِجَاءَ إِلَيْهِ سَبَبُ النَّصْرِ"؛ كَمَا يُفِيدُهُ قَوْلُ اللَّهِ -تَعَالَى-: (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ)[الْبَقَرَةِ:250-251].

 

وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ الْغَالِبِيَّةَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا أَهْلَ عِصْيَانٍ؛ وَلِذَا لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ قِتَالٍ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ -تَعَالَى- تَقْوَى دَوَاعِيهِ فِي قُلُوبٍ قَوِيَ فِيهَا الْإِيمَانُ، وَتَخْلُو دَوَاعِيهِ مِنْ قُلُوبٍ ضَعُفَ فِيهَا الْإِيمَانُ أَوْ زَالَ؛ فَإِنَّ دَاعِيَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ -تَعَالَى- طَلَبُ مَرْضَاتِهِ وَجَنَّتِهِ، وَبَنُو إِسْرَائِيلَ رَكَنُوا إِلَى الدُّنْيَا فِي أَغْلَبِ تَارِيخِهِمْ، وَتَرَكُوا دِينَهُمْ، وَبَدَّلُوا شَرِيعَتَهُمْ، وَحَرَّفُوا كُتُبَهُمْ، وَخَالَفُوا أَنْبِيَاءَهُمْ، ثُمَّ كَذَّبُوا نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا بُعِثَ؛ فَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ فِي كُلِّ زَمَانٍ إِلَّا بِعَقْدِ الذِّمَّةِ أَوْ مَعُونَةِ الْأَقْوِيَاءِ لَهُمْ؛ (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ‌الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ)[آلِ عِمْرَانَ:112].

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...

 

 

المرفقات

قصة طالوت وجالوت.doc

قصة طالوت وجالوت - مشكولة.doc

قصة طالوت وجالوت - مشكولة.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات