عناصر الخطبة
1/ الآيات التي تحدثت عن قصة ذي القرنين 2/ سبب نزول الآيات 3/ تفسير الآيات 4/ التمكين في الأرض وأسبابهاقتباس
فهنا وقفة عظيمة ودرس كبير، لابد أن نقفه مع قصة ذي القرنين، بل منهج عظيم رسمه ذو القرنين لمن بعده، لمن يأتي بعده وقد أُعطي شيئًا من التمكين، يقول الله تعالى عن ذي القرنين: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى ?لأرْضِ وَاتَيْنَـ?هُ مِن كُلّ شَىْء سَبَباً * فَأَتْبَعَ سَبَباً). فقد أعطي هذا الرجل أسباب الحكم والفتح، وأسباب البناء، والعمران، وأسباب المتاع والسلطان ..
أما بعد: يقول الله -جل وعلا- في محكم كتابه العزيز: (وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مّنْهُ ذِكْراً * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الأرْضِ وَاتَيْنَـاهُ مِن كُلّ شَىْء سَبَباً * فَأَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً * قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبّهِ فَيُعَذّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً * وَأَمَّا مَنْ امَنَ وَعَمِلَ صَـالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مّن دُونِهَا سِتْراً * كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) [الكهف: 83-92].
أيها المسلمون: هذه قصة ذي القرنين كما وردت في كتاب الله -عز وجل- في سورة الكهف، وأحب أن أقف هذه الجمعة مع هذه القصة؛ لأن فيها مواقفَ تستحق الوقوف، وفيها قضايا كلية، لابد من تبيينها وتوضيحها.
أولاً: ما سبب نزول هذه الآيات: يقول علماء التفسير: إن النَّضْر بن الحارث كان من شياطين قريش، وكان يؤذي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحِيرة وتعلم بها أحاديث رستم، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا جلس مجلسًا ذكر فيه الله، وحدّث قومه ما أصاب مَنْ كان قبلهم من الأمم، جاء النضر بن الحارث بعده، وخلفه في مجلسه إذا قام، فقال: أنا والله -يا معشر قريش- أحسن حديثًا منه، فهلموا إليّ، فأنا أحدثكم بأحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس. فبعثته قريش مع بعض رجالها إلى المدينة، حيث اليهود هناك، وكان هذا قبل الهجرة، وقالوا لهم: اذهبوا إلى أحبار اليهود في المدينة، وسلوهم عن محمد وصفته وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم من العلم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجوا حتى قدموا المدينة، فسألوا أحبار اليهود عن أحوال محمد، فقال أحبار اليهود: سلوه عن ثلاث، عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان من أمرهم، فإن حديثهم عجب، وعن رجل طوَّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه، وسلوه عن الروح ما هو؟! فإن أخبركم فهو نبي، وإلا فهو مُتَقَوِّل، فلمّا قدم النضر ومن معه إلى مكة، قالوا: قد جئناكم بفصل ما بيننا وبين محمد، وأخبروا بما قاله اليهود، فجاؤوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسألوه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أخبركم بما سألتم عنه غدًا"، ولم يستثنِ، فانصرفوا عنه، ومكث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خمس عشرة ليلة لم يأتهِ الوحي، ولم يُخبر بخبر هؤلاء، فشق ذلك عليه، وأرجف أهل مكة به، وقالوا: وعدنا محمد غدًا واليوم خمس عشرة ليلة.
ثم جاء جبريل -عليه السلام- من عند الله بسورة أصحاب الكهف، وفيها معاتبة الله إياه على حزنه عليهم، وفيها خبر أولئك الفتية، وخبر الرجل الطواف، وذي القرنين: (وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ)، أي: ويسألونك -يا محمد- عن خبر ذي القرنين، يسألونك عن خبر هذا الرجل، (قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مّنْهُ ذِكْراً) [الكهف: 83]، أي سأخبركم بخبره وسأذكر لكم نبأه (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الأرْضِ وَاتَيْنَـاهُ مِن كُلّ شَىْء سَبَباً) [الكهف: 84].
هذا هو خبره، فالله -عز وجل- قد مكّن له في الأرض، وأعطاه من القوة والتصرف والتدبير الشيء الكثير، إضافة إلى كثرة الجنود والهيبة والوقار، وقد قذف الله -عز وجل- الرعب في قلوب أعدائه.
(وَاتَيْنَـاهُ مِن كُلّ شَىْء سَبَباً)، فقد أُوتي معرفة منازل الأرض ومعالمها، وأُوتي معرفة الألسنة، فكان لا يغزو قومًا إلا كلمهم بلسانهم، فقد أُوتي هذا الرجل الصالح من كل ما يَصلح به أمره، ويقوم عليه سلطانه.
قال الله تعالى بعد ذلك: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً) [الكهف:86]. كان ذو القرنين يطوف الدنيا شرقًا وغربًا، وفي هذه المرة وصل مغرب الشمس، وهو المكان الذي يرى الرائي أن الشمس تغرب فيه، فهو قد سار بجنوده، يفتح البلاد حتى وصل إلى ساحل وانتهى به اليابسة، إلى بحر الظلمات، فرأى ذو القرنين أنها تغرب في عين حمئة، والحمأة هو الطين الأسود، أي رأى الشمس في منظره تغرب في البحر، وهذا شأن كل من وقف على الساحل فإنه يرى الشمس كأنها تغرب فيه:
بلغ المشـارق والمغرب يبتغـي *** أسباب أمرٍ من حكيـم مرشد
فرأى مغيب الشمس عند غروبها *** في عين ذي خُلْبٍ وثَأْطِ حَرْمَد
فقال تعالى بعد ذلك: (وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً) أي أنه لما بلغ ذلك الموضع وجد عنده قومًا، وجد أمة من الأمم، وقد ذُكر أنها كانت أمة عظيمة، والذي يظهر من سياق الآيات، أن هذه الأمة، كان فيها أناس صالحون، وكان فيها أناس سيئون، كان فيهم مؤمنون وكافرون؛ ولهذا جاءت الآيات: (قُلْنَا ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا)، أي إما أن تعذب؛ والمراد به القتل؛ لأن هؤلاء القوم كانوا على كفر وباطل، وكانوا مستحقين للقتل، فقالوا له: إما أن تعذب بالقتل من أول الأمر، وإما أن تتخذ فيهم حسنًا، أي أمرًا حسنًا، وذلك بأسرهم ثم دعوتهم إلى الحق، والإرشاد إلى ما فيه الفوز بالدرجات.
يقول إمام الأئمة في التفسير الإمام الطبري -رحمه الله تعالى-: "المراد في اتخاذ الحُسن: الأسر، فيكون قد خُيّر بين القتل والأسر، والمعنى إما أن تعذب بالقتل وإما أن تحسن إليهم بإبقاء الروح والأسر، واتخاذ الحسن بالأسر، لأنه بالنظر إلى القتل يكون إحسانًا".
فماذا كان جواب هذا الحاكم الصالح؟! قال: (أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبّهِ فَيُعَذّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً) [الكهف:87]. أي من ظلم نفسه، ولم يقبل دعوتي، وأصر على ما كان عليه، من الظلم العظيم، والمخالفة لأمر الله، واستمر على كفره وشركه وفسقه وظلمه، فهذا سوف نعذبه بالقتل، ثم يرد إلى ربه في الآخرة، فيعذبه عذابًا نُكرًا، أي عذابًا منكرًا فظيعًا، وهو العذاب في نار جهنم والعياذ بالله، لكن في المقابل ماذا قال ذو القرنين: (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَـالِحاً فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً) [الكهف:88]. أي: وأما من آمن بما ندعوه إليه من عبادة الله وحده لا شريك له، وعمل صالحًا، حسبما يقتضيه الإيمان، فله جزاءً الحسنى، أي فله المثوبة الحسنى في الدارين، في الدنيا له الفعل الحسن، وفي الآخرة، فجزاؤه الجنة: (وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً): أي لا نقول له ما يتكلفه مما هو شاق عليه، أي نقول له قولاً ذا يسر وسهولة.
قال الله تعالى بعد ذلك: (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) [الكهف: 89]، قال الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تفسيره: "(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً): أي طريقًا راجعًا من مغرب الشمس موصلاً إلى مشرقها". وكان كلما مرّ بأمة قهرهم وغلبهم ودعاهم إلى الله -عز وجل-، فإن أطاعوه، وإلا أذلهم وأرغم أنوفهم، واستباح أموالهم وأمتعتهم، واستخدم من كل أمة ما يستعين به مع جيوشه على أهل الإقليم المتاخم لهم.
أيها المسلمون: يكمل الله -عز وجل- قصة ذي القرنين فيقول -جل وعلا-: (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مّن دُونِهَا سِتْراً * كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً * قَالُواْ ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِى الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنّى فِيهِ رَبّى خَيْرٌ فَأَعِينُونِى بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * ءاتُونِى زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُواْ حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ اتُونِى أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً * فَمَا اسْطَـاعُواْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَـاعُواْ لَهُ نَقْبًا * قَالَ هَـاذَا رَحْمَةٌ مّن رَّبّى فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبّى جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبّى حَقّاً) [الكهف:89-98].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فهنا وقفة عظيمة ودرس كبير، لابد أن نقفه مع قصة ذي القرنين، بل منهج عظيم رسمه ذو القرنين لمن بعده، لمن يأتي بعده وقد أُعطي شيئًا من التمكين، يقول الله تعالى عن ذي القرنين: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الأرْضِ وَاتَيْنَـاهُ مِن كُلّ شَىْء سَبَباً * فَأَتْبَعَ سَبَباً) [الكهف:84، 85]
فقد أعطي هذا الرجل أسباب الحكم والفتح، وأسباب البناء، والعمران، وأسباب المتاع والسلطان، فهذا الرجل كما يقول ابن كثير: "يسَّر الله له الأسباب، أي الطرق والوسائل إلى فتح الأقاليم والرسَاتِيق والبلاد والأراضي، وكسر الأعداء، وكبت ملوك الأرض، وإذلال أهل الشرك، وقد أوتي من كل شيء يحتاج إليه مثله سببًا".
فبعد أن مكَّن الله لذي القرنين في الأرض، ماذا عمل ذو القرنين؟! استمع إلى قول الله -جل وعلا-: (فَأَتْبَعَ سَبَباً)، أي: أنه قد أحسن استغلال ما أعطاه الله، فإنه قد أحسن استغلالها وتوظيفها والتعامل معها فأتبع سببًا.
ثم لو نظرنا مرة أخرى، بماذا، وفيم استغل ذو القرنين هذه القوة التي أعطاه الله، وبماذا استغل ذو القرنين هذا التمكين الذي مكَّنه الله -عز وجل- من رقاب الناس.
فهو بعد أن وصل إلى تلك الأرض عند مغرب الشمس ووجد عندها قومًا، ماذا قال له قومه: (قُلْنَا ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً * قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبّهِ فَيُعَذّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً * وَأَمَّا مَنْ امَنَ وَعَمِلَ صَـالِحاً فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً) [الكهف: 86-88].
عندما فتح الله لذي القرنين تلك البلاد، وعندما تمكّن من التصرف في أولئك البشر، هل استغل ذو القرنين منصبه لأكل أموال الناس في تلك البلاد؟! عندما تمكّن منهم، هل استغل ذو القرنين قومه وتمكنه من التصرف فيهم ظلمهم؟! لا أبدًا، لم يفعل ذو القرنين ذلك، فعندما فوّض الله له التصرف في البلاد المفتوحة والتعامل مع القوم المغلوبين، لم يظلم ولم يطغَ ولم يتجبر، ولم يعتبرها مناسبة للبطش والبغي والفساد.
لكنه وضع ورسم دستورًا ومنهجًا في التعامل مع أولئك القوم، وضع ذو القرنين منهجًا لكل من أعطاه الله شيئًا من التمكين وشيئًا من التصرف في عباد الله، ما هو هذا المنهج؟! وما هو هذا الدستور؟!
(أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبّهِ فَيُعَذّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً * وَأَمَّا مَنْ امَنَ وَعَمِلَ صَـالِحاً فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً).
هذا هو الدستور، وهذا هو المنهج، بل هذا هو العدل الرباني.
الظالم عند ذي القرنين، الباغي المعتدي، صاحب الكفر، وصاحب المخالفات، هذا لابد أن يأخذ عقابه، فمن العدل أن يعاقب هذا الظالم، ويكون هذا عذابًا دنيويًا له، أما في الآخرة: (ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبّهِ فَيُعَذّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً).
وأما المؤمن الصالح عند ذي القرنين، فإنه مقرب يجزيه الجزاء الحسن، ويكافئه المكافأة الطيبة، ويخاطبه بيسر وسهولة: (وَأَمَّا مَنْ امَنَ وَعَمِلَ صَـالِحاً فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً) [الكهف:88].
فلماذا اختلف هذا الميزان في زماننا هذا ولماذا تغير هذا الدستور، وتحول هذا المنهج في عالمنا اليوم.؟! أصبح الظالم، أصبح المعتدي، أصبح صاحب المنكرات، وصاحب الخمر والسكر والدعارة، المفسدون المعتدون، هؤلاء صاروا هم المقربون، عند من مكَّن الله له شيئًا من التصرف والتسلط على عباد الله، صار المفسدون الظالمون، المخمورون، هم الذين ينالون من المتمكن بِرَّه وكرمه.
وصار الذي آمن وعمل صالحًا، صار المؤمنون الصالحون، أصحاب الخير وأصحاب الدعوة، وأصحاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، صار هؤلاء هم المحاربين المطرودين المسجونين.
أين الميزان الذي وضعه الله -جل وعز- لذي القرنين؟! لماذا يُستبعد هذا الميزان؟! ولماذا يغير ذلك الدستور؟! ولماذا يحال دون تطبيق ذلك المنهج؟! الله -عز وجل- يقول، وهذا حكمه -جل وعلا- في كل من ظلم، وفي كل من أساء وخالف يقول سبحانه: (أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبّهِ فَيُعَذّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً)، ويقول -جل وعلا-، وهذا حكمه سبحانه في كل من آمن وعمل صالحًا، يقول تعالى: (وَأَمَّا مَنْ امَنَ وَعَمِلَ صَـالِحاً فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً). فأصبحنا نعكس هذا الميزان: الذي ظلم، صار عندنا له جزاءً الحسنى، بل ونقول له من أمرنا يسرًا.
والمؤمن الصالح، الذي يغار على دين الله، والذي لا يرضى بوجود المنكرات، ويحاول تغييرها، هذا نعذبه عذابًا نكرًا. فرحماك رحماك -يا رب- من انتكاس الفطرة، وتبدُّل الحال، وانتشار الفساد، واختلال الأمن، ورواج الفوضى.
فاتقوا الله -أيها المسلمون-، اتقوا الله تعالى يا من بيدكم شيء من التمكين، يا من أُعطيتم بعض الأسباب، لا تستعملوا هذا التمكين في ظلم الناس، ولا تستغلوا هذه الأسباب في التستر على الظالم المفسد، فإن لكل شيء نهاية.
يقول صاحب الظلال سيد قطب -عليه رحمة الله-: "وهذا هو دستور الحكم الصالح، فالمؤمن الصالح ينبغي أن يجد الكرامة والتيسير والجزاء الحسن عند الحاكم، والمعتدي الظالم يجب أن يلقى العذاب والإيذاء، وحين يجد المحسن في الجماعة جزاء إحسانه، جزاءً حسنًا أو مكانًا كريمًا وعونًا وتيسيرًا، ويجد المعتدي جزاء إفساده عقوبة وإهانة وجفوة، عندئذٍ يجد الناس ما يحفزهم إلى الصلاح والإنتاج.
أما حين يضطرب ميزان الحكم، فإذا المعتدون المفسدون مقربون إلى الحاكم، مقدمون في الدولة، وإذا العاملون الصالحون منبوذون أو محاربون، فعندئذٍ تتحول السلطة في يد الحاكم سوط عذاب وأداة فساد، ويصير نظام الجماعة إلى الفوضى والفساد". انتهى كلامه -رحمه الله-.
متى يا فجـر تؤذن بانبثاقِ *** وتحملنـا على متـن الوفـاقِ
وتطوى صفحة الظلماء عنا *** وتجمع شملنـا بعـد الفـراقِ
متى يا فجر تفتح باب نور *** وتغلـق باب أصحاب الشقاق
تمادى الليل فينا واحتوانـا *** ظلام سـد أبـواب التلاقـي
أنادي والجراح مسـومات *** وهمِّـي حول قلبي كالنطـاق
أقول لمن بغى بغيًا كبيـرًا *** وأحدث بيننـا أمـر انشقاق
أقول لمن رمى بالنار فينـا *** وأسقانا من الكـأس الدِّهـاق
تعددت الدروب فأين تغدو *** وكيف تَعـد ميـدان السباق
وكيف تقيك من برد خيامٌ *** إذا كانــت ممزقـة الرواق
إذا لـم نجعل الإيمان نهجًا *** فسوف تضيق بالدمـع المآقي
ولو أنا بخالقنا اعتصمنـا *** لما اشتكت الكويت من العراق
ولا مدت إلينـا كف باغ *** ولا عبثت بنا أيـدي الرفاق
ولا عبثت بنا أيدي الرفاق *** كمن حملوا المبـادئ باعتناق
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم