عناصر الخطبة
1/سرد قصة جريج العابد 2/أهم الدروس والعبر المستفادة من القصة.اقتباس
في هذه القصة فوائِدُ عِدَّة: منها: عِظَمُ بِرِّ الوالدين, وعلى الأخص الأم منهما, وتقديم برهما على صلاة التطوع, فمَنْ دعاه والداه؛ فإنْ كان في نافلة فَلْيَقْطعها, وإنْ كان في فريضة فَلْيُخَفِّفها حتى يُجِيبَ والديه.
الخطبة الأولى:
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على مَنْ لا نبيَّ بعده:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-؛ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلاَّ ثَلاَثَةٌ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ, وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ, وَكَانَ جُرَيْجٌ رَجُلاً عَابِدًا, فَاتَّخَذَ صَوْمَعَةً فَكَانَ فِيهَا -الصَّومَعَة: مَعْبَدُ الرُّهبان في الأماكن النائِيَة-, فَأَتَتْهُ أُمُّهُ وَهُوَ يُصَلِّي, فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ! فَقَالَ: يَا رَبِّ! أُمِّي وَصَلاَتِي. فَأَقْبَلَ عَلَى صَلاَتِهِ, فَانْصَرَفَتْ.
فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ؛ أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي, فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ! فَقَالَ: يَا رَبِّ! أُمِّي وَصَلاَتِي. فَأَقْبَلَ عَلَى صَلاَتِهِ, فَانْصَرَفَتْ. فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ؛ أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي, فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ! فَقَالَ: أَيْ رَبِّ! أُمِّي وَصَلاَتِي. فَأَقْبَلَ عَلَى صَلاَتِهِ, فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ لاَ تُمِتْهُ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى وُجُوهِ الْمُومِسَاتِ -المُومِسَات: جَمْع مُومِسَة, وهي: البَغِيُّ الزَّانية المُجاهِرة-. فَتَذَاكَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ جُرَيْجًا وَعِبَادَتَهُ, وَكَانَتِ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ يُتَمَثَّلُ بِحُسْنِهَا -أي: امرأةٌ زَانِيَة يُضْرَبُ المَثَلُ بِحُسْنِهَا-, فَقَالَتْ: إِنْ شِئْتُمْ لأَفْتِنَنَّهُ لَكُمْ -أي: لأُغْوِيَنَّه بالفاحشة-".
قَالَ: "فَتَعَرَّضَتْ لَهُ, فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا, فَأَتَتْ رَاعِيًا كَانَ يَأْوِي إِلَى صَوْمَعَتِهِ, فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا -أي: فأذِنَتْ له أنْ يَزْنِيَ بها-, فَوَقَعَ عَلَيْهَا -أي: فَزَنَى بها-, فَحَمَلَتْ, فَلَمَّا وَلَدَتْ؛ قَالَتْ: هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ. فَأَتَوْهُ, فَاسْتَنْزَلُوهُ, وَهَدَمُوا صَوْمَعَتَهُ, وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ, فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: زَنَيْتَ بِهَذِهِ الْبَغِيِّ فَوَلَدَتْ مِنْكَ. فَقَالَ: أَيْنَ الصَّبِيُّ؟ فَجَاءُوا بِهِ, فَقَالَ: دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ. فَصَلَّى, فَلَمَّا انْصَرَفَ؛ أَتَى الصَّبِيَّ, فَطَعَنَ فِي بَطْنِهِ, وَقَالَ: يَا غُلاَمُ! مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: فُلاَنٌ الرَّاعِي".
قَالَ: "فَأَقْبَلُوا عَلَى جُرَيْجٍ؛ يُقَبِّلُونَهُ وَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ, وَقَالُوا: نَبْنِي لَكَ صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ. قَالَ: لاَ, أَعِيدُوهَا مِنْ طِينٍ كَمَا كَانَتْ, فَفَعَلُوا"(رواه ومسلم).
عباد الله: في هذه القصة فوائِدُ عِدَّة: منها:
1- عِظَمُ بِرِّ الوالدين, وعلى الأخص الأم منهما, وتقديم برهما على صلاة التطوع, فمَنْ دعاه والداه؛ فإنْ كان في نافلة فَلْيَقْطعها, وإنْ كان في فريضة فَلْيُخَفِّفها حتى يُجِيبَ والديه.
2- اشتياقُ الأمِّ إلى ولدها, واستئناسُها برؤيته والحديث معه, فينبغي للولد أنْ يتفهَّم مِقدار اشتياق والديه له, ولا ينشغل عنهما بالدنيا ومشاغلها الكثيرة.
3- أنَّ المُسلِمَ مُحتاجٌ إلى توفيقِِ الله -تعالى-, وهدايتِه للحق والصواب؛ فإنَّ جُريجاً قال: "يَا رَبِّ! أُمِّي وَصَلاَتِي". فإذا اختلفت عليك الأمور, واشتبهت؛ فتوجَّه إلى -تعالى- بالدعاء. والنبيُّ -صلى الله عليه وسلم-, وهو أرجح الأُمَّة عقلاً, وأعلمها بما علمه الله -تعالى-, وهو المؤيَّد بالوحي؛ يقول في دعائه: "اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ, إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ"(رواه مسلم).
4- بيانُ فضلِ الفقهِ في الدِّين؛ فإنَّ جريجاً لم يكن فقيهاً؛ لأنه أقبل على صلاة التطوع, وترك بِرَّ والدته, وكان الأجدر به تقديمَ إجابةِ أُمِّه على صلاته. وفِقهُ الأولويات بابٌ عظيم من أبواب العلم, فإذا تعارضت الأمور بُدِئَ بأهمِّها.
5- النَّهي عن الدُّعاءِ على الأولاد؛ لأن دعاء الوالدين مستجاب. ووالدة جريج دعت عليه "فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ لاَ تُمِتْهُ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى وُجُوهِ الْمُومِسَاتِ", فحصل له ما حصل من الابتلاء.
6- أنَّ كُلَّ ذي نِعمةٍ محسود, والتوفيقُ للطاعة أعظمُ النِّعم؛ فإنَّ بني إسرائيل لَمَّا تذاكروا جُريجاً وعِبادَتَه حسدوه, وسلَّطوا عليه هذه البَغِي لِتَفْتِنَه عن دِينه, قال الله -تعالى-: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ)[البقرة: 109].
7- أنَّ الحُسْنَ والجَمَال قد لا يأتي بِخَير؛ ويكون نِقمةً على صاحبه؛ كما في الحديث: "وَكَانَتِ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ يُتَمَثَّلُ بِحُسْنِهَا؛ فَقَالَتْ: إِنْ شِئْتُمْ لأَفْتِنَنَّهُ لَكُمْ"؛ فتأمَّلْ كيف أرْداها حُسْنُها, وقادها غُرورُها بجمالِها إلى السعي في الفاحشة.
8- أنَّ الرَّجلَ الصالح لا تَضُرُّه الفِتَن, وأنَّ الصلاة تَعْصِمُ العبدَ من الفاحشة؛ فإنَّ جريجاً لَمَّا كان مُقبِلاً على الله -تعالى- في الرخاء؛ لم تفتنه البغِيُّ لَمَّا تعرضَّت له, وأرادت به سوءاً, يقول النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "تَعرَّفْ إِلَى اللهِ في الرَّخَاءِ؛ يَعْرِفكَ في الشِّدَّةِ"(رواه البيهقي).
9- أنَّ كيدَ النِّسوة عظيم؛ فهذه البغي, تعرضَّت لجريج؛ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا, ثم ذهبت إلى الراعي القريب من جريج؛ وأَمْكَنَتْه من نَفْسِها, "فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَحَمَلَتْ, فَلَمَّا وَلَدَتْ؛ قَالَتْ: هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ"، ثم أتت بالرَّضِيع بعد ولادته؛ ومَرَّت به عند بني إسرائيل, مُوَجِّهَةً اتِّهامها لجريج؛ كي تُشَوِّهَ سُمْعَةَ هذا الرجلِ الصالح في مُجتمعها!
10- ليس أحدٌ بعيدًا عن تُهْمَةِ أهلِ الباطل؛ فإنهم اتَّهَموا جُريجاً العابِدَ بما ليس فيه, و"قَالُوا: زَنَيْتَ بِهَذِهِ الْبَغِيِّ فَوَلَدَتْ مِنْكَ". وهي سُنَّةٌ ماضِيَة؛ فإنَّ الأنبياء والرسل -عليهم السلام- لم يَسْلَموا من طَعْنِ أهلِ الباطل, وأولياءِ الشيطان؛ فقد رموهم بالجُنون تارة, والسَّفاهة تارة, والسِّحر تارة, والشِّعر تارة, والكِهانة تارة.
11- الفَزَعُ إلى الصلاةِ عند الشَّدائد؛ وجريج لَمَّا اتَّهموه بالزنا؛ فزع إلى الصَّلاة, وقال لهم: "دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ. فَصَلَّى"، كي تَقْوَى صِلتُه بالله -تعالى-, ويكون الدعاء أحرى بالإجابة, ثم دعا. قال الله -تعالى-: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ)[البقرة: 45]. قال حذيفةُ -رضي الله عنه-: "كَانَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى"(رواه أبو داود).
12- أنَّ الله -تعالى- يُجِيبُ المُضطَرَّ إذا دعاه؛ قال الله -تعالى-: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)[النمل: 62], ويُنَجِّي أولياءَه من الشدائد, ويُدافِعُ عنهم, قال -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ)[الحج: 38]. وقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالْكُرَبِ؛ فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ"(رواه الترمذي).
الخطبة الثانية:
الحمد لله..
عباد الله: ومن فوائدِ قِصَّةِ جُريجٍ العابد:
13- مَشروعِيةُ الدِّفاعِ عن النَّفْس؛ فإنَّ جريجًا لم يستسلم للتُّهمة الباطلة, ودافَعَ عن نفسِه: "أَتَى الصَّبِيَّ, فَطَعَنَ فِي بَطْنِهِ, وَقَالَ: يَا غُلاَمُ! مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: فُلاَنٌ الرَّاعِي". ويوسف -عليه السلام- دافع عن نفسه؛ فقال: (هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي)[يوسف: 26].
14- إثباتُ كراماتِ الأولياء؛ فإنَّ الله -تعالى- نَجَّى جُريجًا من كربه؛ وأيَّدَهُ بكرامةٍ, تَرُدُّ عنه التُّهمة, وتُبَرِّئُ ساحتَه مِمَّا رُمِيَ به, فنَطَقَ الرَّضِيعُ حَدِيثُ العهدِ بالولادة ببراءته, أنطقَهُ اللهُ -تعالى- الذي أنطَقَ كلَّ شيء, ومِثْلُه لا يتكلَّم.
15- أنَّ أولياءَ اللهِ يُبتَلَون؛ كما ابتُلِيَ جريجٌ بالضَّرب, والشَّتْم, وهدم صومعته, وابتُلِيَ ببعض الفَجَرة الذين يرغبون إفسادَه, واستعملوا إمكاناتهم لإفساده عن طريق هذه البَغِي, ولكنَّ اللهَ -تعالى- يُنْجِي المتقين من كيد الكائدين, وإفساد المفسدين: (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمْ السُّوءُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)[الزمر: 61]؛ لأنَّ معهم آلة النجاة، وهي تقوى الله -تعالى-.
16- أنَّ الجَهَلةِ يُفتَنون بالكَرَامات, ويتَمَسَّحون بأصحابها؛ ففي الحديث: "فَأَقْبَلُوا عَلَى جُرَيْجٍ؛ يُقَبِّلُونَهُ وَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ"؛ وهي بدعة مُنْكَرة.
17- الزُّهد في الدنيا, وفِيمَا عند الناس؛ فإنهم لَمَّا قالوا لجريج: "نَبْنِي لَكَ صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ. قَالَ: لاَ, أَعِيدُوهَا مِنْ طِينٍ كَمَا كَانَتْ". وقال عليه الصلاة والسلام: "ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا؛ يُحِبَّكَ اللَّهُ, وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّوكَ"(رواه ابن ماجه).
18- أنَّ أماكنَ العبادةِ لا يجوزُ أنْ تُبْنَى من ذهب, وإسرافٍ يُلْهِي الناسَ عن العِبادة؛ فإنهم لَمَّا قالوا له: "نَبْنِي لَكَ صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ: لاَ".
19- أنَّ مَنْ أتْلَفَ شيئاً فعليه إِصلاحُه؛ ومَنْ أفسَدَ مَالاً مُحْتَرَماً فعليه ضَمانُه بالقِيمَة أو بالمِثْل؛ فإنَّ جريجاً قال لهم -عن صومعته بعد تكسيرها-: "أَعِيدُوهَا مِنْ طِينٍ كَمَا كَانَتْ, فَفَعَلُوا". وعَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: أَهْدَتْ بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-, إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- طَعَامًا, فِي قَصْعَةٍ, فَضَرَبَتْ عَائِشَةُ الْقَصْعَةَ بِيَدِهَا, فَأَلْقَتْ مَا فِيهَا؛ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "طَعَامٌ بِطَعَامٍ, وَإِنَاءٌ بِإِنَاءٍ"(رواه الترمذي).
وصلوا وسلموا...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم