عناصر الخطبة
1/ قصة الهجرة 2/ دروس وعبر من الهجرة النبوية 3/ الآثار الإيجابية للمقاطعة الاقتصادية للبضائع الدانمركية 4/ تنبيهات مهمة متعلقة بالمقاطعةاقتباس
ومن مكة تنطلق ركائب المهاجرين ملبيةً نداء ربها.. مهاجرةً بدينها.. مخلفةً وراءها ديارها وأموالها. ويهم أبو بكر بالهجرة فيستوقفه الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول: لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً. وعلى الجانب الآخر تشعر قريش بالخطر الذي يهدد كيانها بهجرته عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، فتعقد مؤتمراً عاجلاً في دار الندوة للقضاء على محمد قبل فوات الأوان ..
الحمد لله مدبرِ الشهور والأعوام , ومصرفِ الليالي والأيام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوثُ رحمة للأنام، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأئمة الأعلام. أما بعد.. ولا يزال الحديث ولا يملّ عن سيد البشرية صلى الله عليه وسلم.
ونحن نستقبل العام الهجري الجديد، نتذكر قصة الهجرة، تلك الحادثة العظيمة التي نصر الله بها الدين، وقلب الموازين.
مكث عليه الصلاة والسلام ثلاثة عشر عاماً بمكة يدعو إلى لا إله إلا الله. سنوات طويلة من التعذيب والإيذاء.. والتشريد والابتلاء. وبعد اشتداد الأذى ينام عليه الصلاة والسلام في ليلة من الليالي على فراشه فيرى دار الهجرة وإذا هي أرض ذات نخل بين لابتين.. إنها طيبة الطيبة.
ومن مكة تنطلق ركائب المهاجرين ملبيةً نداء ربها.. مهاجرةً بدينها.. مخلفةً وراءها ديارها وأموالها. ويهم أبو بكر بالهجرة فيستوقفه الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول: لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً. وعلى الجانب الآخر تشعر قريش بالخطر الذي يهدد كيانها بهجرته عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، فتعقد مؤتمراً عاجلاً في دار الندوة للقضاء على محمد قبل فوات الأوان.
ويحضر الشيطان معهم على صورة شيخ نجدي، قال بعضهم: احبسوه في الحديد حتى يموت، وقال بعضهم: أخرجوه وانفوه من البلاد، وبعد أن قوبل هذان الاقتراحان بالرفض تقدم فرعون هذه الأمة أبو جهل برأي خبيث ماكر فقال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتىً شاباً جليداً نسيباً ثم نعطي كل فتىً منهم سيفاً صارماً فيضربون محمداً ضربة واحدة فيقتلوه فيتفرق دمه في القبائل. فأعجب القوم بهذا الرأي حتى إن الشيطان الذي لم يستطع الإتيان بمثله أيده وقال: القول ما قال الرجل هذا الرأي لا أرى غيره. ووافق الحضور على هذا القرار الغاشم بالإجماع وبدأوا في التنفيذ.
وينزل جبريل فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم بتلك المؤامرة ويقول: يا محمد لا تبِت في فراشك الليلة. (
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ )
وفي بيت أبي بكر، كان أبو بكر جالساً مع أهله في الظهيرة، إذ أقبل النبي عليه الصلاة والسلام متقنعاً مغطياً رأسه، ففزع أبو بكر لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يأيتهم في تلك الساعة.. يدخل النبي عليه الصلاة والسلام فيقول: يا أبا بكر أَخرِج مَنْ عندَك. قال أبو بكر: إنما هم أهلك يا رسول الله. قال: فإني قد أُذن لي في الخروج. قال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله. فقال: نعم. فبكى أبو بكر ولسان حاله يقول:
طفح السرور علي حتى إنني *** من عظم ما قد سرني أبكاني
ويعود صلى الله عليه وسلم إلى بيته ويعرّف علياً بالأمانات التي عنده ليؤديها إلى أهلها.. وفي ظلمة الليل يجتمع المجرمون ويطوقون منزله عليه الصلاة والسلام. وفي هذه الساعة الحرجة يأمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً أن يبيت في فراشه وأن يغطي رأسه ببرده الحضرمي.
ويفتح النبي عليه الصلاة والسلام الباب.. ويخترق صفوف المجرمين..يمشي بين سيوفهم وهم لا يرونه، ثم يأخذ من تراب الأرض ويذره على رؤوسهم الواحد تلو الآخر ثم يمضي بحفظ الله. وكان المجرمون ينظرون من شِق الباب فيرون علياً على الفراش، فيظنون أنه النبيُ صلى الله عليه وسلم.. فلما أصبحوا اكتشفوا الأمر، وأخذوا ينفضون التراب عن رؤوسهم.
سمعت قريش بالخبر فجن جنونها، وثارت ثائرتها، فوضعت جميع طرق مكة تحت المراقبة المشددة، وأعلنت عن جائزة كبيرة قدرها مائة ناقة لمن يعيد محمداً أو أبا بكر حيين أو ميتين.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن قريشاً ستجدّ في الطلب شمالاً باتجاه المدينة. فاتجه هو وصاحبه جنوباً إلى غار ثور على طريق اليمن، ولما انتهيا إلى الغار روي أن أبا بكر دخل الغار وسد جحوره بإزاره حتى بقي منها اثنان فألقمهما رجليه. ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونام في حجر أبي بكر. وبينما هو نائم إذ لُدغت رجلُ أبي بكر من الجحر فتصبّر ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم من نومه، لكن دموعه غلبته فسقطت على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيستيقظ ليرى صاحبه قد لُدِغ، قال: يا أبا بكر مالك. قال: لُدِغت فداك أبي وأمي. فتفل صلى الله عليه وسلم على رجله فبرأت في الحال.
عبدالله بن أبي بكر شاب ذكي نبيه، بطل من أبطل الصحابة.. كان يصبح مع قريش فيسمع أخبارها ومكائدها فإذا اختلط الظلام تسلل إلى الغار وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم الخبر فإذا جاء السحر رجع مصبحاً بمكة. وكانت عائشة وأسماء يصنعان لهما الطعام ثم تنطلق أسماء بالسفرة إلى الغار ولما نسيت أن تربط السفرة شقت نطاقها فربطت به السفرة وانتطقت بالآخر فسميت بذات النطاقين.
وكان لأبي بكر راعٍ اسمه عامرُ بنُ فهيرة، فكان يرعى الغنم حتى يأتيَهما في الغار فيَشْرَبان من اللبن، فإذا كان آخرُ الليل مر بالغنم على طريق عبدالله بن أبي بكر ليخفي أثر أقدامه. واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً كافراً اسمه عبدالله بن أريقط وكان هادياً خريتاً ماهراً بالطريق وواعده في غار ثور بعد ثلاث ليال.
أعلنت قريش حالة الطواريء وانتشر المطاردون في أرجاء مكة كلهم يسعى للحصول على الجائزة الكبيرة. وصل بعض المطاردين إلى الجبل وصعدوه حتى وقفوا على باب الغار، فلما رآهم أبو بكر قال: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا.. لو أن أحدهم طأطأ بصره لرآنا. فقال له صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ).
وفي رواية حسنها بعض العلماء، أنهم نظروا إلى الغار وإذا العنكبوت قد نسجت خيوطها على الباب. فقالوا: لو دخل هنا لم تنسج العنكبوت على الباب، فانقلبوا خاسئين.
مكث عليه الصلاة والسلام وصاحبه في الغار ثلاثة أيام، ولما خَمَدت نار الطلب جاءهما عبد الله بن أريقط في الموعد المحدد، فارتحلوا وسلكوا الطريق الساحلي.
وفي مشهد من مشاهد الحزن يقف عليه الصلاة والسلام بالحَزْوَرة على مشارف مكة ليلقي النظرة الأخيرة على أطلال البلدِ الحبيب.. بلدِ الطفولةِ والذكريات.. ويقول: أما والله إني لأعلم أنك أحب بلادِ الله إلي وأكرمِها على الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت.
وفي الطريق يمر الركب المبارك بديار بني مدلج، فينطلق وراءهم سراقةُ بنُ مالكٍ على فرسه بسلاحه يريد الجائزة.. ويدنو منهم حتى سمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن.. يلتفت أبو بكر فيرى سراقة فيقول: يا رسول الله أُتينا، فيرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وهو ماضٍ في طريقه لا يلتفت ويقول: اللهم اكفناه بما شئت.. اللهم اصرعه.. وكان سراقة يجري بفرسه على أرض صلبة فساخت قدما فرسه في الأرض وكأنما هي تمشي على الطين فسقط عن فرسه، ثم قام وحاول اللحاق بهم فسقط مرة أخرى، فنادى بالأمان، فتوقف صلى الله عليه وسلم وركب سراقة فرسه حتى أقبل عليه وأخبره خبر قريش، وسأله أن يكتب له كتاباً، فأمر عامرَ بنَ فهيرة أن يكتب له وقال له: أَخفِ عنا. فرجع سراقة كلما لقي أحداً رده وقال: قد كفيتم ما ههنا. فكان أول النهار جاهداً على النبي صلى الله عليه وسلم، فأصبح آخر النهار مجاهداً عنه، فسبحان مغير الأحوال.
وفي الطريق يمر الركب المبارك بخيمتي أم معبد فيسألها النبي صلى الله عليه وسلم الطعام فتقول: والله لو كان عندنا شيء ما أَعْوَزَكُم القِرى، والشاء عازب والسنة شهباء.. يلتفت عليه الصلاة والسلام وإذا شاة هزيلة في طرف الخيمة فيقول: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ فتقول له: هذه شاة خلفها الجَهْد عن الغنم، قال: أتأذنين أن أحلُبها. قالت: نعم إن رأيت بها حَلَباً. فدعا صلى الله عليه وسلم بالشاة فمسح على ضرعها ودعا فـتـفجرت العروق باللبن فسقى المرأة وأصحابه ثم شرب صلى الله عليه وسلم، ثم حلب لها في الإناء وارتحل عنها.
وفي المساء يرجع أبو معبد إلى زوجته وهو يسوق أمامه أَعنُزَه الهزيلة. يدخل الخيمة وإذا اللبنُ أمامه، فيتعجب ويقول: من أين لك هذا؟ فتقول له: إنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت.
جزى الله رب العالمين جزاءه *** رفيقين حَلاّ خيمتي أم معبدِ
هما نزلا بالبر وارتحلا به *** فأفلح من أمسى رفيق محمدِ
وفي المدينة، سمع الأنصار بخروجه عليه الصلاة والسلام، فكانوا لشدة تعظيمِهم له وفرحِهم به وشوقِهم لرؤيته يترقبون قدومه ليستقبلوه عند مدخل المدينة، فيخرجون كل يوم بعد صلاة الفجر إلى الحرة على طريق مكة في أيام حارة، فإذا اشتد حر الظهيرة عادوا إلى منازلهم. فخرجوا ذات يوم ثم رجعوا عند الظهيرة إلى بيوتهم. وكان أحد اليهود يطل في هذه الأثناء من أُطُم من آطامهم فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصاحبه مقبلين نحو المدينة فلم يملك اليهودي أن صاح بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرون. فثار المسلمون إلى السلاح، وكان يوماً مشهوداً، وسمعت الرجة والتكبير في بني عمرو بن عوف، وكبر المسلمون فرحاً بقدومه، وتلقوه وحيوه بتحية النبوة، وأحدقوا به مطيفين به، والسكينة تغشاه، والوحي ينزل عليه (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ).
وبعد الهجرة، مكث صلى الله عليه وسلم في المدينة قرابة العشرة أعوام، أقام فيها دولة الإسلام، وبلغ البلاغ المبين، وأكمل الله به الدين، حتى أتاه اليقين، بآبائنا هو وأمهاتنا صلى الله عليه وسلم.
تلكم أيها الأحبة قصة الهجرة، وفيها من الدروس والعبر ما يضيق عنه المَقام. أذكر بعضها بإيجاز:
1) الصبر واليقين طريق النصر والتمكين: فبعد سنوات من الاضطهاد والابتلاء بمكة، كانت الهجرة بداية للنصر والتمكين لنبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، بصبرهم ويقينهم بالله تعالى.
2) درس في التوكل على الله والاعتصام بحبل الله: فقد كانت رحلة الهجرة مغامرة محفوفة بالمخاطر التي تطير لها الرؤوس.. ومع هذا فقد كان صلى الله عليه وسلم في ظل هذه الظروف العصيبة متوكلاً على ربه واثقاً من نصره.
فالزم يديك بحبل الله معتصماً *** فإنه الركن إن خانتك أركان
3) درس في الحب: وقد قال الحبيب صلى الله عليه وسلم:" لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ".
هذا الحب هو الذي أبكى أبا بكر فرحاً بصحبته صلى الله عليه وسلم... هذا الحب هو الذي جعل أبا بكر يقاوم السم وهو يسري في جسده يوم أن لدغ في الغار لأن الحبيب ينام على رجله. هذا الحب هو الذي أرخص عند أبي بكر كل ماله ليؤثر به الحبيب صلى الله عليه وسلم على أهله ونفسه.
هذا الحب هو الذي أخرج الأنصار من المدينة كل يوم في أيام حارة ينتظرون قدومه صلى الله عليه وسلم على أحر من الجمر. فأين هذا ممن يخالف أمر الحبيب صلى الله عليه وسلم ويهجر سنته أو يتخاذل عن الذب عن عرضه، ثم يزعم أنه يحبه؟
يا مدعي حب أحمد لا تخالفه *** فالخُلْف ممنوع في دنيا المحبينا
4) درس في التضحية والفداء: فقد هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، ولم يتعللوا بالعيال، ولا بقلة المال فلم يكن للدنيا بأسرها أدنى قيمة عندهم فداءً لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ويوم أن بات علي في فراشه صلى الله عليه وسلم وغطى رأسه كان يعلم أن سيوف الحاقدين تتبادر إلى ضرب صاحب الفراش.. ويوم أن قام آلُ أبي بكر عبدُالله وأسماءُ وعائشةُ ومولاه عامرٌ بهذه الأدوار البطولية، كانوا يعلمون أن مجرد اكتشافهم قد يودي بحياتهم.
هكذا كان شباب الصحابة، فأين شبابُنا.. أين شبابُنا الذين يضعون رؤوسهم على فرشهم ولا يضحون بدقائق يصلون فيها الفجر مع الجماعة.
أين أنتم يا شباب، وقد كشر الأعداء عن أنيابهم، فسبوا أشرف الخلق فَداه آباؤنا وأمهاتنا.
أما آن للشاب أن يستيقظَ من غفلته، ويتوبَ من خطيئته، ويهاجر إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟
إن حقيقة الهجرة ليست مجرد الانتقال من بلد إلى آخر، إن المهاجر كما قال صلى الله عليه وسلم هو من هجر ما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم، هجرةٌ من الذنوب والسيئات... هجرةٌ من الشهوات والشبهات... هجرةٌ من مجالس المنكرات.. هجرةٌ من طريق النار إلى طريق الجنة..
نسأل الله تعالى أن يصلح شبابنا، وأن يهدينا جميعاً ويردنا إليه رداً جميلاً، إنه جواد كريم.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لم يزل حميداً مجيداً، والصلاة والسلام على من أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً..وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً.
عباد الله: على الرغم من شناعة ما وقع من الصحيفة الدنمركية في حق الحبيب صلى الله عليه وسلم، فإننا نحمد الله تعالى على ما من به على أمة الإسلام من هذا التكاتف والالتحام ضد من تولى كبر هذه الجريمة.. نقول هذا ونحن نرى غرسة المقاطعة قد آتت بعض أكلِها، واستوت على سوقِها، فأغاظ الله بها الكفار ولله الحمد.
وشهد شاهد من أهلها، فقد أقفلت شركةُ "أرلا" الدانماركية مصنَعها الكبيرَ لمشتقات الحليب في الرياض.. وقال مديرها: إن المقاطعة الإسلامية للدنمارك ضربت عصب الشركة بدول الخليج العربي، ووصلت الخسائر اليومية في السوق السعودي إلى مليون ونصف دولار، وقد تصل سنوياً إلى ما يقارب النصف مليار دولار.
وأكد خبير اقتصادي دنمركي أنه في حال استمرار المقاطعة ستفقد الدنمارك أربعةَ آلاف فرصة عمل بالإضافة إلى خسارة اثنين ونصف مليار كرون في هذا القطاع فقط.
أما الصحيفة المشؤومة فقد وجهت في صدر صفحتها الأولى رسالة باللغة العربية إلى مواطني المملكة العربية السعودية المحترمين، تبجح فيها المجرمُ المتغطرسُ رئيسُ التحرير بوجود سوء فهم، وأن الصحيفة لم تقصد الإساءة، وقال الكذوب: إن الصحيفة اعتذرت عدة مرات في الأشهر الماضية، ثم أحال بكل جرأة وصفاقة إلى مقال سابق أصدرته جريدته باللغة العربية تحت عنوان (الكلمة حرة)، وهو المقال الذي يطالبنا بأن نرضى ونسكتَ على هذه الجريمة، وجاء فيه: (ولهذا فلن يكون هناك اعتذارٌ أو سحبٌ للرسومات).
ومضت الأيام، واتضح للقوم مدى تأثير المقاطعة على اقتصادهم، فأصبحوا يولولون ويصيحون بحثا عن مخرج، بعد محاولة الاعتذار الفاشلة والغبية من الصحيفة. وبدأت الصحف الدنماركية تكتب بالعربية، نظراً لعمق الهزة التي أحدثتها المقاطعة.
وحمّل عدد من كبار الساسة الدنماركيين الحكومةَ ورئيسَ الوزراء الدنماركي مسؤولية ما آلت إليه الأزمة. ولما حمي الوطيس، وأعيتهم الغطرسة، ظهر رئيس وزرائهم على إحدى القنوات الفضائية العربية مناقضاً نفسه، معتذراً للمسلمين من تلك الجريمة.. آلآن يا عدوَّ اللهِ ورسولِه، ( آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ).
وأخيراً، اعترف رئيس تحرير الصحيفة المشؤومة في حوار مع صحيفة أخرى أن ما يحدث الآن انتصارٌ لمن أسماهم أعداءَ حريةِ التعبير قائلا "أعتقد أنه لن يرسم أحد في الدانمارك من الجيل القادم النبيَّ محمد, وعلي أن أقول -وأنا أشعر بالعار-: إنهم انتصروا".
عباد الله: لقد أثبتت الأحداث أن القضيةَ ليست مجردَ رسوماتٍ حقيرة , وإنما هي عقيدة متأصلة في نفوس هؤلاء المجرمين، من كره للإسلام والمسلمين، واستهزاء بسيد المرسلين. واسمحوا لي أن أذكر بعضَ الحقائقِ الهامة، ولو أطلت عليكم.
فحينما أبدى سفير الدانمرك في الرياض عدم رضاه عن ما جاء في الصحيفة الدانمركية، تبرأت وزارة الخارجية الدانمركية من ما جاء على لسان سفيرها، وقالت أنه بما قال لا يمثل إلا نفسه.
وأما ملكتهم "مارقريت" فقد ألفت كتاباً عن الحضارة الأوربية، وذمت فيه الإسلام والمسلمين والرسول صلى الله عليه وسلم.
ورئيس وزرائهم هذا أشار ثلاث مرات منذ أحداث سبتمبر إلى أن أهل الإسلام حثالةُ الشعوب، وهو الذي يرعى الآن إنتاج الفيلم الذي ألفته الكاتبة الصومالية المرتدة لتصحيح أخطاء النبي صلى الله عليه وسلم كما تزعم. أما صحفهم فقد سبق أن نشرت العديد من المقالات التي تنتقد فيها الإسلام والرسول صلى الله عليه وسلم.
وفي استطلاع للرأي بثته هيئة الإذاعة البريطانية، وتناقلته بعض الصحف تبين أن تسعاً وسبعين بالمائة من الدنماركيين لا يؤيدون اعتذارَ حكومتِهم ولا وسائلِ إعلامهم.
وفي حديث لإحدى القنوات الفضائية، ذكر رئيس رابطة العالم الإسلامي في الدانمارك أن مظاهرة سيقوم بها الدانماركيون ضد المسلمين غداً السبت، وأنهم سيحرقون فيها المصاحف، ثم أجهش رئيس الرابطة بالبكاء ولم يستطع إكمال الحوار، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
فيا أحباب محمد صلى الله عليه وسلم، المقاطعة المقاطعة، وإن اعتذروا على استحياء وكبرياء، فإنهم يعتذرون وعيونُهم على جيوبنا، وأيديهم على قلوبهم من توقف صادراتهم إلينا.
لا يُصِبْنا الجبن أمام قطعة من الجبن.. لا تتجمدْ مشاعرُنا بسبب مكعب من الزبدة.
إن هذه المقاطعةَ إعلانٌ صادقٌ وصريحٌ عن محبة للنبي صلى الله عليه وسلم. إن هذه المقاطعةَ ستؤدب الدولة المعتدية، لتكون عبرةً لأي دولةٍ تفكر في المساس بمقدسات المسلمين. إن هذه المقاطعةَ قد وحدت المسلمين وأعادت الثقة في نفوسهم، وأرجعت لهم شيئا من كرامتهم التي أضاعوها، وبينت مدى ثقلهم الاقتصادي في الساحة الدولية. وإذا ما استمرت هذه المقاطعة المباركة فأبشروا بسقوط بقرة الدنمارك بإذن الله.
دَنِمَرْكُ يا بنتَ الصليب تجهّزي *** فليخطبنّك قاصفُ الأعمارِ
دَنِمَرْكُ هل تستهزئين بأعظم الـ *** عظماء في بَلَهٍ وفي استهتارِ
أو ما علمتِ بأنه قاد الورى ** للمجد للعلياء للإعمارِ
تفدي جنابَك ألفُ ألفُ دويلةٍ *** حَكَمَتْ رُباها سُلطةُ الفجارِ
تفدي جنابَك ألفُ ألفُ عمامةٍ *** مدسوسةٍ خوفاً من الأخطارِ
تفدي جنابَك كلُ نفسٍ حرةٍ *** عافت حياةَ الشر والأشرارِ
تفدي جنابَك يا رسول الله *** يا خير البرية أمــةُ المليارِ
وههنا بعض التنبيهاتِ الهامةِ المتعلقةِ بالمقاطعة:
1- لا بد من الاستمرارِ في المقاطعة ابتغاءَ وجه الله، ونصرةً لرسوله صلى الله عليه وسلم، مع عدمِ الملل من التذكيرِ وحثِّ الناس عليها.
2- علينا أن نتذكرَ الهدفَ الذي من أجله نقاطع وهو: الاعتذارُ الواضح الصريح عن هذه الجريمة، ومحاكمةُ الفاعلين ومن تواطأ معهم، وإيقاعُ العقوبة المناسبة بحقهم. فإذا تم ذلك فعلى أهل الشأن من العلماء وأهل الرأي تقديرُ المصالح والمفاسد من حيث إمضاءُ المقاطعة أو إلغاؤها.
3- (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)، فلا بد من تحري العدل، وعدمِ التسرع في الحكم على المنتج بأنه دنمركي وهو ليس كذلك، كما وقع في بعض المنشورات، وما شككنا فيه فالأصل فيه السلامة حتى يتبين أمره.
4- الحذرُ من استشعارِ النصر الزائف، والانخداعِ ببعض الرسائلِ أو الأخبارِ غير الموثوقة، كالقولِ بأن الرسامَ قد مات أو احترقت جثته، أو أن القضيةَ انتهت بالاعتذار ولا داعي لكره الآخر،كما تروج له بعضُ الأقلامِ والأبواقِ في صحفنا وفضائياتنا.
5- وحتى تكون المقاطعةُ مؤثرة، فإنه ليس من المناسب الاستعجالُ في توسيع نطاقها لتشمل الدول الأوربية الأخرى التي أعادت صحفُها نشرَ الرسوم، لا بد من التدرج في الإنكار، لا سيما وأن تلك الصحف مع قبح فعلها إنما هي مجرد ناقل أو مشارك، فلا تقارن بالدولة التي تولى إعلامها وحكومتها كِبْر هذه الجريمة.
نعم.. قامت عدد من الصحف الأوروبية بنشر الرسومِ المَهينةِ تضامناً مع الصحيفة الدانماركية، فنقلت الرسوم إحدى الصحفِ الفرنسيةِ الفاشلةِ المهددةِ بالإفلاس، وتم على الفور إقالةُ رئيسِ ومديرِ تحريرها، وأصدرت الحكومة الفرنسية بياناً أكدت فيه على ضرورة احترام الأديان والعقائد.. كما نشرت الرسومَ صحيفةٌ ألمانية، وأخرى أسبانيةٌ، وأخرى سويسرية.
سبحان الله.. ماذا يريد هؤلاء؟ أيريدون نصرةَ إخوانهم الكفرة، وفكَ الخناق عنهم؟ أم يريدون أن يشتتوا أمرَ المسلمين ويذيبوا جهودهم، كما أرادت قريش أن يتفرق دمُ محمد صلى الله عليه وسلم في القبائل؟ أم يريدون الشهرة بالتطاول على القمم الشماء وصفوة الأنبياء؟ أم أنهم يريدون مجرد نقل الخبر كما ذكر بعضهم؟.
وأياً كان الحال فالواجب الإنكارُ على هذه الصحف، وتحركُ المسلمين في تلك البلدان، وليس على المسلم حرج أن يقاطعَ منتجات تلك الدول الكافرة ويستبدلَها بمنتوجات وطنية أو إسلامية بل هو الأولى، لكننا نؤكد على أن تكون المقاطعةُ المعلنةُ ضربةً مسددةً وموحدةً ضد الدنمارك فقط، لتكون عبرة لغيرها.. ولعل ما تخبّيء لنا الأيامُ القادمة يكشف شيئاً عن أحوال الدول الأخرى، نسأل الله أن يعين إخواننا المسلمين في تلك الدول على القيام بواجبهم، ويعيننا على مؤازرتهم.
وختاماً، إننا مع كرهِنا لهؤلاء الكفرة الفجرة، ودعائِنا بأن ينتقم الله منهم، علينا أن نحذر كلَّ الحذرِ من ردود الأفعال المتهورة التي لا تعود بالمصلحة على الإسلام وأهله.
وأقولها بكل صراحة: على ما يسمى بتنظيم القاعدة الذي يهدد الآن بالتفجيرات وإراقة الدماء أن يكف يده عن هذه القضية.. لا نريد أن ننجر وراء العواطف.. لا نريد هذه الأعمال التي تسيء للدين، وتصد الناس عنه، وتعطي أعداءنا المبرر الواضح للاستمرار في عدوانهم.
يا هؤلاء: الجهاد له شروط وضوابط، ووالله لو تحققت الأمة بشروط الجهاد لم يتردد العلماء الصادقون في الدعوة إليه، وإراقةِ الدماء في سبيل تأديب هؤلاء المتطاولين على جنابه الشريف صلى الله عليه وسلم، ولنا في حاله صلى الله عليه وسلم في مكة أسوة حسنة.
ومن ردود الأفعال الخاطئة أيضاً أن أحد الدكاترة في دولة خليجية أفتى بإهدار دم من رسم الكاريكاتيرات، ودعا إلى قتله لكون قد سب النبي صلى الله عليه وسلم.. ونحن ندين الله تعالى أن من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد حل دمه وجاز قتله وإن كان معصوم الدم لأدلة كثيرة، لكن قتل هذا المفسد لا يجوز متى ما ترتب عليه فتنة أو مفسدة على الإسلام وأهله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في سبب تركه قتل المنافقين: لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه.. وقد ذكر أهل العلم أنه لا يلزم من كفر المعين واستحقاقه القتل أنه يجوز قتله في جميع الأحوال.
أحبتي في الله: أعلم أني أطلت عليكم اليوم، وعزائي هو خطورةُ الموضوع، وشفيعي هو حبكمُ لهذا النبي الذي نتحدث عنه، ونذب عن عرضه صلى الله عليه وسلم.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم