قصة آدم عليه السلام

ناصر بن محمد الأحمد

2010-09-06 - 1431/09/27
التصنيفات: شخصيات مؤثرة
عناصر الخطبة
1/ بنو آدم خليفة الله تعالى في أرضه 2/ خلق الله تعالى لآدم 3/ تمرد إبليس ورفضه السجود لآدم 4/ دروس مستفادة من قصة آدم عليه السلام 5/ الابتعاد عن الكبر والنفور منه 6/ العداوة الأزلية بين بني آدم والشيطان 7/ بالتوبة والإنابة يتغلب الخير على الشر 8/ حكم إهباط آدم من الجنة 9/ أهمية دراسة حياة الأنبياء

اقتباس

إن عداوة إبليس لآدم لم تنقطع منذ ذلك العهد، فهي مستمرة في ذريته إلى يوم القيامة: (يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ)، ومن هنا نشأ الصراع بين الخير والشر في الإنسان، وفي ذلك اختبار له وامتحان لجوهره، فإن جاهد أهواء نفسه وانتصر عليها فاز بنعيم الله ورضوانه ..

 

 

 

إن الحمد لله...

أما بعد:

أيها المسلمون: تبدأ قصة أبينا آدم عليه السلام بتلك المحاورة بين الله والملائكة، فالله –تعالى- يخبر الملائكة بأنه سيجعل في الأرض خليفة هو آدم وذريته، وأنه سيمكنهم في الأرض ويجعلهم أصحاب السلطان فيها، ولكن الملائكة تعجبوا من هذا النبأ، فقد خلق الله خلقاً قبل آدم فأفسدوا في الأرض، فقالت الملائكة مخاطبين ربهم: أتجعل في الأرض خلقاً يفسدون فيها بالمعاصي، ويسفكون الدماء، بينما نحن ننزهك عما لا يليق بجلالك ونمجدك شكرًا لك؟! ولكن الله أجابهم بالسر المغيب عنهم، والحكمة التي اختص بها في خلق آدم، وهي أنه يعلم ما لا يعلمون: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) [البقرة: 30].

وبعد أن خلق الله آدم علّمه أسماء أشياء وحقائقها وخواصها؛ ليتمكن في الأرض وينتفع بها حق الانتفاع، ثم أراد الله أن يُري الملائكة رأي العين أن هذا الكائن الجديد الذي صغّروا من شأنه هو أكثر منهم علمًا وأوسع معرفة، ولهذا سألهم أن يخبروه بأسماء أشياء معينة وخواصها إن كانوا مصيبين في ظنهم وأنهم أحق منه بخلافة الأرض، ولكن الملائكة عجزوا عن الإجابة: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ) [البقرة: 31-33].

خلق الله آدم من طين أسود على هيئة إنسان، حتى إذا جف إلى حد أنه إذا نُقر سمع له صوت، غيّره طورًا بعد طور، ثم نفخ فيه من روحه، فإذا هو إنسان من لحم ودم وعصب، يتحرك بإرادته ويفكر، ثم يأمر الله الملائكة بتكريم آدم بأن يسجدوا له سجود تكريم لا سجود عبادة؛ لأن الله لا يأمر أحدًا أن يتوجه بالعبادة إلى سواه: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) [الحجر: 28، 29].

سجد الملائكة كلهم لآدم عليه السلام امتثالاً لأمر الله، باستثناء إبليس الذي أبى أن يسجد استكبارًا وعنادًا، ولقد سأله الله تعالى -وهو أعلم- عن السبب الذي منعه من السجود لآدم بعد أن أمره به، فاحتج بأنه أفضل منه تكوينًا، فهو قد خُلق من نار، بينما آدم خلق من طين، والنار في رأيه أفضل من الطين، وأبدى غاية التكبر، عندئذٍ طرده الله من الجنة، ولعنه لعنة دائمة إلى يوم القيامة بسبب كبريائه: (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) [الحجر: 30-35].

كان جزاء إبليس على عناده وكبريائه وتمرده عن السجود لآدم هو الطرد من الجنة ذليلاً مهينًا حقيرًا، وطلب من ربه أن يمهله حيًّا إلى يوم القيامة، فأجاب الله طلبه لحكمة أرادها الله سبحانه وتعالى: (قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنْ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) [الأعراف: 13-18].

أمر الله آدم أن يسكن الجنة مع زوجته، وأباح لهما أن يتمتعا بكل شيء فيها، فيأكلان ما يشتهيان من ثمرها، ولم ينههما إلا عن شجرة واحدة، وأمرهما أن لا يقرباها، وأن لا يذوقا من ثمرها. سُرَّ إبليس في قرارة نفسه لأنه وجد في ذلك النهي منفذًا فيه إلى آدم وزوجه، فأخذ يحدثهما ويغريهما ليأكلا من ثمر تلك الشجرة؛ ليكون عاقبة ذلك كشف ما سُتر وغُطّي من عوراتهما، وقد بالغ إبليس في إلحاحه وخداعه، فأوهمهما أن الله منعهما من الأكل من تلك الشجرة لكي لا يصيرا ملكين ولا يخلدا في الجنة، وأقسم أنه لهما من الناصحين: (وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا * وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ) [الأعراف: 19-21].

نسي آدم وزوجه أن إبليس هو عدوهما، ووقعا في حبائل الفتنة وأكلا من الشجرة، فلما ذاقا طعمها انكشفت لهما عوراتهما، وكانا قبل ذلك لا يرى كل منهما عورته ولا عورة الآخر، ومن فرط حيائهما أخذا يجمعان بعض أوراق الشجر ليغطيا به ما انكشف، وناداهما ربهما مؤنبًا لهما على ذنبهما: (أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ) [الأعراف: 22]، وشعر آدم وزوجه بمبلغ ما اقترفا من إثم في معصيتهما لله، فندما أشد الندم، وتضرعا إلى ربهما قائلين: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23]، قبل الله توبة آدم: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة: 37]، ولكن الله أنزل آدم وزوجه من الجنة إلى الأرض لحكمٍ عظيمة: (قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ) [الأعراف: 24، 25].

هذه باختصار قصة آدم عليه السلام كما جاءت في كتاب ربنا، ولنا معها عدة وقفات:

أولاً: في القصة درس بليغ في الابتعاد عن الكبر والنفور منه بعد أن بين الله لنا عاقبته المترتبة عليه، فإبليس عندما تكبر ولم يذعن لأمر الله ابتلاه الله بالذلة، وطرده من الجنة مُهينًا كما قال تعالى: (فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنْ الصَّاغِرِينَ) [الأعراف: 13]، فالمتكبر مكروه من الله (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) [النحل: 23]، والكبر يوجب العقاب الشديد والإخراج من زمرة المؤمنين إلى زمرة الملعونين، ولهذا خاطب الله إبليس المتكبر: (فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) [ص: 77، 78].

ثانيًا: أخبرنا -جل وتعالى- في هذه القصة عداوة إبليس لأبينا آدم، وبين لنا كيف أغراه بالأكل من الشجرة التي نهاه عن الاقتراب منها، وأوقعه في مخالفة أمر ربه بكذبه وخداعه.

إن عداوة إبليس لآدم لم تنقطع منذ ذلك العهد، فهي مستمرة في ذريته إلى يوم القيامة: (يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ) [الأعراف: 27]، ومن هنا نشأ الصراع بين الخير والشر في الإنسان، وفي ذلك اختبار له وامتحان لجوهره، فإن جاهد أهواء نفسه وانتصر عليها فاز بنعيم الله ورضوانه، وإن انقاد لأهواء نفسه واستجاب لوساوس الشيطان قادته إلى الشر وأصبح من الخاسرين.

إبليس هو أبو الشياطين وأصلهم الأول، وإبليس وذريته هم المتمردون من عالم الجن: (إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [الكهف: 50]، إبليس ومن معه من الشياطين هم أعداء الإنسان الذين يدأبون على تقوية دواعي الشر والباطل في النفس الإنسانية: (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) [البقرة: 168، 169].

والشياطين هم دعاة الشر والفساد على هذه الأرض، فالشيطان هو الذي يزين لكل فرد ما تهفو إليه نفسه ويميل إليه هواه من حب للجنس وتطلع إلى الجاه، وإيثار للاستبداد، وميل إلى الطغيان والفساد، فهو الذي يغري بالعداوة والبغضاء بين الناس، فيفرق بين الأخ وأخيه، وبين الزوج وزوجه، وبين طوائف الأمة وجماعاتها: (قُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ) [الإسراء: 53].

ويبدأ الصراع بين عدو الله وآدم -عليه السلام- ويعلنها عدو الله حربًا لا هوادة فيها، ويضع عدة الحرب، ويلبس لباس المعركة ولا ينزعه حتى اليوم المعلوم، حرب شاملة تسير على خطة متشعبة، ويقوم بتنفيذها جيوش الباطل في كل مكان بقيادة إبليس، حرب الهدف منها إطفاء نور الله، وإلقاء بني آدم في جهنم، وها هم الآلاف المؤلفة يتساقطون أمام مهام الشيطان، ويخرون في وحل الضلال، وها هي جيوش الشيطان تسير، وكل يوم ينضم إليها الكثير من بني آدم بسبب إحكام إبليس تنفيذ مخططه بالإغواء. فانج بنفسك يا عبد الله، فإنها نار تلظى، لا يصلاها إلا الأشقى، الذي كذّب وتولى.

ثالثًا: بالتوبة والإنابة يتغلب الخير على الشر، ومتى تغلّب الخير على الشر انهزم الشيطان وتعرّض الإنسان لهداية الله، فإذا زلت قدمك -أيها المؤمن- فاقترفت معصية، فأمامك السبيل الذي سلكه قبلك أبوك آدم من التوبة واستئناف حياة أفضل وأطهر، وبهذا تتخلص من سلطان الشيطان ووساوسه. إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها.

وإذا كنا نعلم بأن أنبياء الله ورسله كانوا على رأس التائبين، وكم منهم كان يقول: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23]، وكم منهم يقول: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) [القصص: 16]، ومنهم من قال الله تعالى في شأنه: (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ) [ص: 24، 25]، بل علّم الله رسوله ومصطفاه أن يستغفر فقال: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) [محمد: 19]، وكان من شأنه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يُحسَب له في المجلس الواحد أكثر من مئة مرة: أستغفر الله وأتوب إليه.

فإذا كان هذا شأن الأنبياء والرسل، فما بالك بنا ونحن في ذنوبنا وفي معاصينا، وفي غفلتنا وفي تقصيرنا؟! وقلوبنا قد أصابها الران، وغطى عليها الغبار، ما لا يدفعه إلا الله.

روى البخاري في صحيحه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو في صلاته: "اللهم اغفر لي خطئي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدّي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت إلهي، لا إله إلا أنت".

فما بالنا بعد هذا كله لا نتوب، وما بالنا نتنكب الطريق، نقدم رجلاً ونؤخر أخرى، وباب التوبة مفتوح، والله -عز وجل- يقول لنا: يا عبد الله: متى جئتني قبلتك، إن أتيتني ليلاً قبلتك، وإن أتيتني نهارًا قبلتك، وإن تقربت مني شبرًا تقربت منك ذراعًا، وإن تقربت مني ذراعًا تقربت منك باعًا، وإن مشيت إليّ، هرولت إليك، ولو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا، أتيتك بقرابها مغفرة، ولو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك، ومن أعظم مني جودًا وكرمًا؟!

يا عبد الله: إن العباد يبارزونني بالعظائم، وأنا أكلؤهم على فُرُشِهِم، إني والجن والإنس في نبأ عظيم: أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إليّ صاعد، أتحبب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم، ويتبغضون إليّ بالمعاصي وهم أفقر شيء إليّ.

من أقبل إليّ تلقيته من بعيد، ومن أعرض عني ناديته من قريب، ومن ترك لأجلي أعطيته فوق المزيد، ومن أراد رضاي أردت ما يريد، ومن تصرف بحولي وقوتي، ألنت له الحديد.

يا عبد الله: إن أهلَ ذكري أهلُ مجالستي، وأهلَ شكري أهلُ زيادتي، وأهلَ طاعتي أهلُ كرامتي، وأهلَ معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، إن تابوا إليّ فأنا حبيبُهم، فإني أحب التوابين وأحب المتطهرين، وإن لم يتوبوا إليّ، فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب.

من آثرني على سواي آثرته على سواه، الحسنة عندي بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، والسيئة عندي بواحدة، فإن ندم عليها واستغفرني، غفرتها له.

أشكر اليسير من العمل، وأغفر الكثير من الزلل، رحمتي سبقت غضبي، وحلمي سبق مؤاخذتي، وعفوي سبق عقوبتي. وأنا أرحم بعبادي من الوالدة بولدها.

اللهم إني أسألك بعزك وذلي إلاّ رحمتني، أسألك بقوتك وضعفي، وبغناك عنّي وفقري إليك، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، عبيدك سواي كثير، وليس لي سيّد سواك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، سؤال من كثر ذنبه، وقلت حيلته، وخضعت لك رقبته، ورغم لك أنفه، وفاضت لك عينه، وذلّ لك قلبه. أسألك أن تغفر لي، اللهم اغفر لي، اللهم اغفر لي...

يـا من ألوذ به فـيما أؤمـله *** ومـن أعوذ بـه مـما أحاذره
لا يجبر الناس عظمًا أنت كاسره *** ولا يهيضون عظمًا أنت جابره

رابعًا: إن من وراء إهباط آدم من الجنة حكمًا كثيرة؛ منها: أن الله -عز وجل- أراد أن يذيقه وولده من نصب الدنيا وغمومها وهمومها وأوصابها ما يعظم به عندهم مقدار دخولهم إليها في الدار الآخرة، فإن الشيء أحيانًا لا يعرف إلا بضده، وبضدها تتبين الأشياء، ولو تربوا في دار النعيم لم يعرفوا قدرها.

وأيضًا من حكم إهباط آدم من الجنة: أنه سبحانه وتعالى له الأسماء الحسنى، فمن أسمائه الغفور الرحيم، العفو الحليم، الخافض الرافع، المعز المذلّ، المحي المميت، الوارث الصبور، ولابد من ظهور آثار هذه الأسماء، فاقتضت حكمته سبحانه أن يُنزِل آدم وذريته دارًا يظهر عليهم فيها أثر أسمائه الحسنى، فيغفر فيها لمن يشاء، ويرحم من يشاء، ويخفض من يشاء، ويرفع من يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، وينتقم ممن يشاء، ويعطى ويمنع، إلى غير ذلك من ظهور أثر أسمائه وصفاته، ولم يكن لأثر هذه الأسماء أن تظهر وهم في الجنة.

ومن الحكم أيضًا: أن الله -سبحانه وتعالى- خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، والأرض فيها الطيب والخبيث، والسهل والحزن، والكريم واللئيم، والعادل والظالم، فعلم سبحانه أن من ذريته من لا يصلح لمساكنته في داره، فأنزله إلى دار استخرج فيها الطيب والخبيث من صلبه، ثم ميزهم سبحانه بدارين، فجعل الطيبين أهل جواره ومساكنته في داره، وجعل الخبيثين أهل دار الشقاء دار الخبثاء قال الله تعالى: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ) [الأنفال: 37]، فلما علم –سبحانه- أن في ذريته من ليس بأهل لمجاورته أنزلهم دارًا استخرج منها أولئك وألحقهم بالدار التي هم لها أهل. حكمة بالغة ومشيئة نافذة، ذلك تقدير العزيز العليم.

نفعني الله وإياكم...

 

 

  

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه...

أما بعد:

أيها المسلمون: لما كانت حياة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- هي حياة أكمل الناس، الذين اختارهم الله -عز وجل- عن علم وحكمة، واصطفاهم على البشر، كان لا بد أن نتعرف على هذه الحياة المباركة، التي صُنعت على عين الله -تبارك وتعالى-، كما كان لزامًا على من أراد لنفسه النجاة في الدنيا والآخرة -فردًا كان أو جماعة- أن يدرس هذه الحياة المباركة، وبخاصة في عصور الغربة والغرباء كعصرنا الحاضر، علّها أن تكون نبراسًا لحياتنا، ونجاة لأمتنا مما هي فيه في كثير من البلدان من واقع أليم.

ويمكن إبراز أهمية دراسة حياة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- من خلال أمور كثيرة، أهمها ما يلي:

أولاً: لأننا مأمورون من الله -عز وجل- بالاقتداء بهم والتأسي بهديهم، وفي ذلك طاعة لله سبحانه وعبادة له قبل كل شيء، ومن هذه الآيات ما ذكره الله -عز وجل- في سورة الأنعام من شأن بعض أنبيائه ورسله، ثم ختم هذه الآيات بأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالاقتداء بهديهم، والأمر له -صلى الله عليه وسلم- أمر لأمته، قال الله تعالى: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَإسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى العَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أُوْلَئِكَ الَذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) [الأعراف: 83-90].

ثانيًا: في دراسة حياة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- أكبر العظات والعبر للدعاة إلى الله -عز وجل- في كل مكان وزمان، سواء ما يتعلق بالإيمان العظيم والتوحيد الصادق الذي عليه أنبياء الله -عز وجل-، أم فيما يتعلق بأخلاقهم وسلوكهم، أم بهديهم ومنهجهم وصبرهم في الدعوة، والصراع مع الباطل وأهله، وإبراز هذه الجوانب من حياة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- هو من أهم أغراض ورود قصص الأنبياء في القرآن الكريم؛ حيث لم تأت لمجرد التسلية والمعرفة التاريخية فقط، وإنما جاءت للاقتداء والتأسي بتوحيدهم لله والدعوة إليه، والتعزي بحياتهم وصبرهم وجهادهم؛ حتى لا تفتر عزائم الدعاة ويضعف صبرهم، فلهم في هذا السلف المبارك أكبر عزاء وقدوة في الثبات وشحذ الهمم.

ثالثًا: وتأتي دراسة حياة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- في عصرنا الحاضر ونحن في أشد الحاجة إلى دراستها من أي وقت مضى، وذلك لما يشهده عصرنا من غربة في أحوال كثير من المسلمين، وفُرقة بين دعاة الحق، وتسلط الأعداء، وكيد المنافقين، وتخبط في بعض المناهج الدعوية ما بين يائس ومداهن ومتعجل، وهذا يُبرز أهمية التعرف على حياة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- في واقعنا المعاصر، لعلّ في الدراسة المتجردة الواعية لهذه الحياة المباركة أن يقي الله –سبحانه- بها من التخبط والانحراف، وأن يهدينا بها إلى الصراط المستقيم الذي يوحد صفوفنا، ويبطل كيد أعدائنا، ويوصلنا في النهاية إلى النصر والتمكين، الذي نصر الله -عز وجل- به أنبياءه والمتبعين لهم بإحسان.

رابعًا: في دراسة حياة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- تعرف على سنن الله -عز وجل- في التغيير، وتعرف على سننه -سبحانه- في الدفع والمدافعة، كما أنها تكشف للدعاة إلى الله -عز وجل- ذلك الصراع الطويل المرير بين الحق والباطل، وفي هذا أكبر العزاء لأهل الحق، وذلك لإيمانهم بحتمية هذا الصراع، وأن الدولة والعاقبة في نهاية الأمر للحق وأهله، وهذا كله لا يبرز بوضوح كما يبرز في حياة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وصراعهم مع أقوامهم: بالحجة، والبيان، والهجرة، والجهاد، حتى أتاهم الله تعالى بنصره وتمكينه.

خامسًا: ولعل في دراسة حياة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- بصدق ورغبة في اتباع هديهم سبيلاً إلى الانتظام في سلكهم، والسير في قافلتهم المباركة، ولعل الله -عز وجل- أن يلحق مَنْ هذه نيته بركبهم الميمون، وأن يحشره في زمرتهم، فيصدق عليه قول الله تعالى: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكََ مَعَ الَذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً) [النساء: 69، 70].

اللهم احشرنا مع النَّبِِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ...
 

 

  

 

المرفقات

عليه السلام

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات