قسم الأنوار

عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر

2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/ وجوب الاستعداد ليوم المعاد 2/ الظلُمة تلقى على الخلائق يوم القيامة 3/ أقسام النور الذي يعطاه المسلمون 4/ سبيل تحصيل النور في الدنيا والآخرة.

اقتباس

في يوم القيامة أهوالٌ عظام وشدائد جسام ينبغي على كل مسلم أن يعِدَّ لها عدَّتها وأن يهيئ لها زادها، ومن الأهوال العظام في ذلك الموقف الجسيم موقف ينبغي أن نهيئ له عدَّته من نور الإيمان وضياء الطاعة وحُسن الإقبال على الله جل في علاه؛ إنه -عباد الله- تلك الظلمة التي يبعثها الله -جل وعلا- يوم القيامة فلا يرى أحدٌ فيها حتى كفه، ومن وراء تلك الظلمة نار جهنم -أجارنا الله وإياكم-،...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

 

 وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، وصفيُّه وخليله، وأمينه على وحيه، ومبلِّغ الناس شرعه، ما ترك خيرًا إلا دل الأمة عليه، ولا شرًا إلا حذَّرها منها؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أيها المؤمنون عباد الله: اتقوا الله فإن من اتقى الله وقاه وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه، وفي تقوى الله -عز وجل- خلَفٌ من كل شيء، وليس من تقوى الله خلف؛ وهي: عملٌ بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله، وتركٌ لمعصية الله على نورٍ من الله خيفة عذاب الله.

 

أيها المؤمنون عباد الله: في يوم القيامة أهوالٌ عظام وشدائد جسام ينبغي على كل مسلم أن يعِدَّ لها عدَّتها وأن يهيئ لها زادها (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)[البقرة:197].

 

أيها العباد: ومن الأهوال العظام في ذلك الموقف الجسيم موقف -يا معاشر المؤمنين- ينبغي أن نهيئ له عدَّته من نور الإيمان وضياء الطاعة وحُسن الإقبال على الله جل في علاه؛ إنه -عباد الله- تلك الظلمة التي يبعثها الله -جل وعلا- يوم القيامة فلا يرى أحدٌ فيها حتى كفه، ومن وراء تلك الظلمة نار جهنم -أجارنا الله وإياكم-، جاء في صحيح مسلم من حديث ثوبان -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سُئل أَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ؟ فَقَالَ -صلوات الله وسلامه عليه-: "هُمْ فِي الظُّلْمَةِ دُونَ الْجِسْرِ".

 

والمراد بالجسر يا معاشر المؤمنين: الصراط الذي يُنصب على متن جهنم أحدُّ من السيف وأدقُّ من الشعر، فالظلمة قبل الصراط، وفي تلك الظلمة -عباد الله- قسْم الأنوار بين العباد بحسب حظهم في هذه الحياة من الإيمان والطاعة والعبادة لله جل في علاه.

 

وتأملوا -رعاكم الله- هذا القسْم للأنوار كيف يكون؟ وكيف يكون حظ العباد منه في ذلك الموقف العظيم؟ روى الحاكم في مستدركه عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ... إلى أن قال: فَيُعْطَوْنَ نُورَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورَهُ مِثْلَ الْجَبَلِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورَهُ فَوْقَ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورَهُ مِثْلَ النَّخْلَةِ بِيَمِينِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى دُونَ ذَلِكَ بِيَمِينِهِ، حَتَّى يَكُونَآخِرُ ذَلِكَ مَنْ يُعْطَى نُورَهُ عَلَى إِبْهَامِ قَدَمِهِ؛ يُضِيءُ مَرَّةً وَيُطْفِئُ مَرَّةً، فَإِذَا أَضَاءَ قَدَمُهُ، وَإِذَا طُفِئَ قَامَ.

 

فَيَمُرُّونَ عَلَى الصِّرَاطِ، وَالصِّرَاطُ كَحَدِّ السَّيْفِ دَحْضٌ مَزِلَّةٌ، قَالَ: فَيُقَالُ انْجُوا عَلَى قَدْرِ نُورِكُمْ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَانْقِضَاضِ الْكَوْكَبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالطَّرْفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالرِّيحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَشَدِّ الرَّحْلِ وَيَرْمُلُ رَمَلًا فَيَمُرُّونَ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، حَتَّى يَمُرَّ الَّذِي نُورُهُ عَلَى إِبْهَامِ قَدَمِهِ يَجُرُّ يَدًا وَيُعَلِّقُ يَدًا وَيَجُرُّ رِجْلًا وَيُعَلِّقُ رِجْلًا فَتُصِيبُ جَوَانِبَهُ النَّارُ، قَالَ: فَيَخْلُصُونَ فَإِذَا خَلَصُوا، قَالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنْكَ بَعْدَ إِذْ رَأَيْنَاكَ، فَقَدْ أَعْطَانَا اللَّهُ مَا لَمْ يُعْطِ أَحَدًا" (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران:185].

 

أيها المؤمنون عباد الله: وقد ذكر الله –سبحانه- هذا القَسْم للأنوار في سورتين من القرآن: الحديد والتحريم، قال الله -عز وجل-: (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [الحديد:12-15].

 

 وقال الله -سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[التحريم:8].

 

اللهم يا رب العالمين اللهم يا رحمن يا رحيم أتمم لنا نورنا أجمعين بالإيمان والطاعة وحُسن الإقبال يا رب العالمين، اللهم وأعذنا يا ربنا من ظلمات الجهل والضلال والغواية واهدنا إليك صراطًا مستقيماً.

 

أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله كثيراً، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.أما بعد أيها المؤمنون عباد الله: اتقوا الله تعالى، وراقبوه في السر والعلانية والغيب والشهادة مراقبة من يعلمُ أن ربَّه يسمعُه ويراه.

 

أيها المؤمنون عباد الله: والنور منَّة الله جلَّ في علاه على من شاء من عباده في الدنيا والآخرة، (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ)[النور:40]، ولهذا -يا معاشر المؤمنين- يحتاج هذا المقام؛مقام تحصيل النور ونيله، إلى أمرين عظيمين ومطلبين جسيمين:

 

الأول عباد الله: الإقبال على الله بالدعاء؛ فإن النور منَّة الله على من شاء من عباده، ولهذا جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- في قصة مبيته ليلةً عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكر -رضي الله عنه- من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقول: «اللهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا، وَفِي بَصَرِي نُورًا، وَفِي سَمْعِي نُورًا، وَعَنْ يَمِينِي نُورًا، وَعَنْ يَسَارِي نُورًا، وَفَوْقِي نُورًا، وَتَحْتِي نُورًا، وَأَمَامِي نُورًا، وَخَلْفِي نُورًا، وَعَظِّمْ لِي نُورًا»، فما أعظمها من دعوة وما أجلَّها.

 

والأمر الآخر عباد الله: مجاهدة النفس على لزوم نور الإيمان والطاعة والمحافظة على العبادة، فإن حظ العباد من النور يوم القيامة بحسب حظهم في هذه الحياة الدنيا من نور الإيمان والأعمال الصالحات.

 

اللهم أصلح لنا أجمعين شأننا كله، اللهم أصلح لنا أجمعين ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير والموت راحةً لنا من كل شر.

 

وصَلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بهَا عَشْرًا".

 

اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد.

 

وارضَ اللَّهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين؛ أبي بكرٍ الصديق، وعمرَ الفاروق، وعثمان ذي النورين، وأبي الحسنين علي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنـِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

 

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنَّة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان، اللهم كن لهم ناصرًا ومعينا، وحافظًا ومؤيدا، اللهم وعليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك.

 

اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم، اللهم انصر يا ربنا جنودنا في حدود البلاد وأيِّدهم بتأييدك واحفظهم بما تحفظ به عبادك الصالحين، اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك يا رب العالمين.

 

اللهم وفِّق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في طاعتك، اللهم وأعِنه يا حي يا قيوم على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم وفق جميع ولاة أمر المسلمين، اللهم وفقهم أجمعين لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال.

 

اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى. اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

 

المرفقات

الأنوار

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات