قرة أعين

د عبدالعزيز التويجري

2024-02-23 - 1445/08/13 2024-02-29 - 1445/08/19
عناصر الخطبة
1/الأولاد نعمة عظيمة 2/شدة تعلق قلوب الوالدين بأبنائهم 3/الأولاد زينة وفتنة 5/التحذير من الإهمال في تربية الأبناء

اقتباس

ولا تخبو زهرات البيت ويذهب بهاؤها إلا حين يمتزج أصحاب السوء وأرباب الشهوات بفلذات الأكباد، وتُغرى بالمال والمظهر والمركب، ويروج سوقها عقب الامتحانات وعلى موائد الكافيهات؛ فيصبحون سلعة يبتزون ويتاجرون من خلالهم...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

الحمد لله حمدا كثيرا يليق بجلالِ ذاتهِ، ويرتقى إلى كمالِ صفاتِه، ويُشيدُ بعظيمِ مننهِ ولطفهِ ونعمائه.

 

لك الحمدُ يا ذا الجودِ والمجدِ والعلى *** تباركتَ تعطي من تشاءُ وتمنع

 

وأشهدُ أن لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدهُ لا شريك له، هُو البرُّ الرحيم، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسولهُ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آلهِ وأصحابهِ، ومن سارَ على دربهِ إلى يومِ الدين.

 

أمَّا بعدُ: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[التغابن: 16].

 

أخرج أهل السنن عن بُرَيْدَةَ -رضي الله عنه- قال: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- يَخْطُبُنَا إِذْ جَاءَ الحَسَنُ وَالحُسَيْنُ عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْمِنْبَرِ فَحَمَلَهُمَا وَوَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "صَدَقَ اللَّهُ: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ)[التغابن: 15]، نَظَرْتُ إِلَى هَذَيْنِ الصَّبِيَّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قَطَعْتُ حَدِيثِي وَرَفَعْتُهُمَا".

 

من سره الدهر أن يرى الكبِدا *** يمشي على الأرض فليرَ الولدا

 

أولادنا ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا، نحن لهم سماء ظليلة، وأرض ذليلة، إن غضبوا أرضيناهم، وإن سألوا أعطيناهم، الصالح منهم نعمة وزينة، يمنحك في الدنيا فخرا، ويُكسبك في القبر أجرا؛ "إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: ...أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ"(أخرجه مسلم).

 

الولد قرة العين، وريحانة الأنف، وثمرة القلب، قال أَنَسُ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه-: "دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- عَلَى ابنه إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ-، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- إِبْرَاهِيمَ، فَضَمَّهُ إِلَيْهِ وقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ"(أخرجه مسلم)، وأنشأت أم في ولدها:

 

يا حبذا ريح الولد *** ريح الخزامى في البلد

أهكذا كلّ ولد *** أم لم يلد قبلي أحد؟!

 

وتأخر الولد عن زكريا، فقام يصلي لله، ودعا ربه وناجاه: (رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ)[الأنبياء: 89]، (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ)[آل عمران: 39].

 

كثرة الأولاد من بنات وبنين فخرٌ وأجرٌ وذخر؛ (لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا)[النساء: 11]، وامتن الله على بني إسرائيل بكثرة النسل؛ (وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا)[الإسراء: 6]، وعند أبي داود: "تَزَوَّجُوا الْوَلُودَ الْوَدُودَ؛ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الأمم".

 

الاولادُ من بنين وبنات نعمة وزينة في الحياة، حين يصحبوا آباءهم ويلازموا أدبهم، وينشؤوا على التوحيد ومكارم المروءات.

 

وخير ما ورث الرجال بنيهم *** أدب صالح وحسن ثناءِ

 

كان عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- يذهب بولده سالم كل مذهب، حتى لامه الناس فيه، فقال:

 

يلومونني في سالم وألومهم *** وجلدة بين العين والأنف سالم

 

ولحسن صحبته لأبيه ورِث سالم علم أبيه، وأصبح محدث المدينة وفقيهها، قال ابن معين: "لم يُحدث نافع حتى مات سالم ابن عمر".

 

الأولادُ نعمةٌ وزينة إذا علت هممهم وأصبح الأعلام لهم قدوات، الأولادُ نعمة وزينة إذا كان الأب لهم ناصحاً وموجهاً ودليلا؛ (يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)[لقمان: 17]، الأولادُ نعمةٌ وزينة حين يعتنى باختيار الزوجة الصاحة، والأم المربية الفاضلة.

 

سيرة الأولاد صنع الأمهات *** وخلال الخير طبع الأمهات

 

الأمُّ مدرسةٌ إِذا أعدَدْتَها *** أعددْتَ شعباً طيبَ الأعراقِ

الأمُّ روضٌ إِن تعهَدَه الحيا *** بالرِّيِّ أورقَ أيما إِيراقِ

الأمُّ أستاذُ الأساتذةِ الأُلى *** شغلتْ مآثرهم مدى الآفاقِ

 

الأولادُ نعمةٌ وزينة إذا لم تتخطفهم قنوات التواصل، ولم يكن الغراب لهم دليلا، الأولادُ نعمةٌ وزينة إذا شُغلت أوقاتهم بآي القرآن، وكان المسجد للأبناء موردا، والدور القرآنية للبنات محضنا.

 

يكون الأبناء والبنات زينة الحياة وقرة العين حين يبيت الآباء والأمهات لربهم سجدا وقياما؛ يدعون ربهم بصلاح أولادهم وذرياتهم ونفعهم وبرهم؛ (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)[الفرقان: 74]، (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ)[إبراهيم: 40]، عندها يحلو ثمر الأبناء، وينصع طيب البنات، ويكونوا قرة عين لوالديهم وأمتهم.

 

أستغفر الله لي ولكم وللمسلمين والمسلمات، إن ربنا غفور شكور.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين.

 

أما بعد: ما أسعد الإنسان وأهناه حين يجتمع حوله بنوه وقرة عينه، فهذا مطلق لحيته، وذاك مقصر ثوبه، وثالث يحفظ كتاب ربه، وآخر لم تدخل غثاء الرياضة قلبه، ولم يتلوث فاه بنتن الدخان.

 

وما أجمل البُنَياتِ العفيفات حين يملأن البيت سكينة ووقارا، وبهجة وأنسا، وفي الطرقات حجاباً وحشمة وحياء.

 

نعم الفتى بذكائه وبعلمه *** ينميه أصل في الأصول نضار

وفريدة في العقد يزهوها الحيا *** من خير ما تزهو به الأبكار

جمعت معاني والديها فالتقى *** فيها جمـــال رائـــع ووقــــار

بشرى لخاطبها وبشراها به *** قد عادلت في القسمة الأقدار

 

يُحَافظُ على قرة العين برعايتهم والدعاء بسلامة عقيدتهم؛ (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ)[إبراهيم: 35]، تَسْعد الذريةُ ويجتمع شملها ويأتيها رزقها رغداً بأمرها الصلاة والمصابرة عليها، لا بهم المستقبل والقلق على الرزق؛ (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)[طه: 132].

 

ولا تخبو زهرات البيت ويذهب بهاؤها إلا حين يمتزج أصحاب السوء وأرباب الشهوات بفلذات الأكباد، وتُغرى بالمال والمظهر والمركب، ويروج سوقها عقب الامتحانات وعلى موائد الكافيهات؛ فيصبحون سلعة يبتزون ويتاجرون من خلالهم، وقد كانت البداية عبث وتهاون واختلاط، وعدم احتراز من قرناء السوء.

 

إن على من يرجو لقاء ربه ويريد سعادة قرة عينه ألا يتركهم للعوادي، يحملهم معه وينتظر خروجهم، ولا يحوجهم إلى سفيه وطائشة، وبالمتابعة والملاحظة يطيب ثمر الغراس، ويتفيَّء البيت والمجتمع من نفعهم وحسن عطائهم.

 

(رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)[الفرقان: 74]

المرفقات

قرة أعين.doc

قرة أعين.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات