قراءة في تجربة أعظم وزراء التاريخ الإسلامي

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: شخصيات تاريخية

اقتباس

فلما فرغ من إفطاره، خرج من مكان قاصداً مضرب حرمه، فبدر إليه حدث ديلمي كأنه مُستميح أو مستغيث، فعلق به وضربه، وحمل إلى مضرب الحرم، فيقال: "إنه أول مقتول قتلته الإسماعيلية الباطنية، فانبث الخبر في الجيش، وصاحت الأصوات، وجاء...

"إنما الأمم بدينها ورجالها"؛ عبرة وحقيقة تاريخية تختصر التاريخ الإنساني بعطائه وتفاعلاته الكثيرة والمتشعبة لقرون وحقب لا يعلمها إلا الله –سبحانه- فبمجرد أن نتصفح تاريخ أمّة من الأمم نستشف عمق تاريخها ونلمس أثره الفاعل محليا، إقليميا وعالميا حتى ندرك تلك الحقيقة الراسخة؛ فالأمم والشعوب الثرية في العطاء والنتاج التاريخي هي التي تتقلد المراتب العليا لذلك السلم برجالاتها وإنجازاتهم السياسية، العسكرية والعلمية.

 

وحديثنا اليوم عن واحد من أعظم رجالات التاريخ الإسلامي، وأكثرهم كفاءة وصلاحية في القيادة، وفقهاً لشرائط النهوض وكيفية إدارة الأزمات، أحد الوجوه السياسية والعلمية البارزة في التاريخ الإسلامي ألا وهو وزير الدولة السلجوقية، الوزير "نظام الملك"، الذي كان له دور بارز في ظهور السلاجقة كقوة رئيسية مؤثرة على مسرح الأحداث في المشرق الإسلامي، لم تسهم  في تغير الأوضاع السياسية وحسب، بل أيضا ساهمت بفاعلية في خلق نهضة علمية بالغة الأثر، يرجع الفضل في التأسيس لها وتنفيذها للوزير الكبير "نظام الملك".

 

أولاُ: التعريف به ونشأته

هو قوام الدين أبو علي الحسين بن علي بن إسحاق بن العباس الطوسي الملقب بخواجة بزك أي نظام الملك، ولد في بلدة صغيرة من نواحي طوس تسمى نوقان في 10 أبريل 1018 م/ 21 ذو القعدة 408 ﻫ، لأسرة بها الكثير من الوزراء والعمال مما أتاح له جواً ومناخاً يتنسم فيه معاني القيادة والإدارة. عُني به أبوه فتعلم العربية وحفظ القرآن الكريم وهو في سن الحادية عشر وألم بالفقه على مذهب الإمام الشافعي وسمع الحديث بأصفهان وبنيسابور وببغداد ،كما جلس لإملاء الحديث ببغداد، وزيادة على ذلك درس الآداب التي تتعلق بأمور الحكم، فأبوه كان يعدّه لسلوك درب آبائه في الإدارة والوزارة.

 

وهذا من حسن التربية وذكاء المربي الذي يختار لمن يريبه أفضل السبل وأوسط الطرق للوصول إلى معالي الأمور واجتناب سفسافها؛ فمن نعومة أظافره يدفع به في طريق العلم والدراسة والإدارة لا في طريق اللعب واللهو والبطالة كما هي عادة شباب اليوم من إيثار الدعة واللهو على الجد والدراسة.

 

ولما ترك أباه رحل إلى بلاد خراسان ووصل إلى غزنة – في أفغانستان اليوم - فاتصل نظام الملك بداود بن ميكال شقيق أول سلاطين السلاجقة "طغرل بك"، وكان يحكم خراسان، وعمل معه فأعجب بكفاءته وإخلاصه، فألحقه بحاشية ابنه ألب أرسلان، وقال له: اتخذه والداً، ولا تخالفه فيما يشير به"؛ فقد كان نظام الملك شخصية تتحلى بالفطنة والذكاء والحكمة، والقدرة على إدارة الأمور، وكلها مؤهلات ضرورية لمن يتطلع إلى تولي المناصب القيادية العليا بفاعلية واقتدار، ومن هنا بدأ نجم نظام الملك في الظهور ثم السطوع.

 

طلب الولاية مذموم لمن لا يستطيع أن يقوم بحقها ويؤدي أمانتها ويحمل مسئوليتها، أما من كان أهلاً لذلك فيتوجب عليه أن يبادر إليها، فهو خليق به وجدير بها، وبولايته يصلح حال الأمة؛ تماماً مثل الخليفة عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- كان كارهاً للإمارة غير محب لها، ودفع إليها دفعاً، ولكن ولايته كانت رحمة وخيراً عظيماً للأمة.

 

ثانياً: خصاله وثناء الناس عليه

لقد كان نظام الملك كلمة إجماع بين المؤرخين والمترجمين المعاصرين واللاحقين، فقد قال عنه الإمام الذهبي: "الوزير الكبير، نظام الملك، قوام الدين، أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي، عاقل، سائس، خبير، سعيد مُتديِّن، محتشم، عامر المجلس بالقراء والفقهاء، أنشأ المدرسة الكبرى ببغداد، وأخرى بنيسابور، وأخرى بطوس، ورغَّب في العلم، وأدر على الطلبة الصلات، وأملى الحديث، وبعد صيته، تنقلت به الأحوال إلى أن وزر للسلطان ألب أرسلان، ثم لابنه ملكشاه، فدبَّر ممالكه على أتم ما ينبغي، وخفف المظالم، ورفق بالرعايا، وبنى الوقوف، وهاجرت الكبار إلى جانبه، وأشار إلى ملكشاه بتعيين القواد والأمراء الذين فيهم خُلقٌ ودِينٌ وشجاعة، وظهرت آثار تلك السياسة فيما بعد، ومن هؤلاء القواد الذين وقع عليهم الاختيار آق سنقر جد نور الدين محمود الذي ولي على حلب وديار بكر والجزيرة".

 

وقال عنه ابن الأثير: "وأما أخباره فإنه كان عالِماً ديناً، وجواداً عادلاً، حليماً كثير الصفح عن المذنبين، طويل الصمت، كان مجلسه عامراً بالقراء، والفقهاء، وأئمة المسلمين، وأهل الخير والصلاح، كان من حفظة القرآن، ختمه وله إحدى عشرة سنة، واشتغل بمذهب الشافعي، وكان لا يجلس إلا على وضوء، وما توضأ إلا تنفَّل، وإذا سمع المؤذن أمسك عن كل ما هو فيه وتجنبه، فإذا فرغ لا يبدأ بشيء قبل الصلاة، وكان إذا غفل المؤذن ودخل الوقت أمره بالأذان، وهذا قمة حال المنقطعين للعبادة في حفظ الأوقات، ولزوم الصلوات، وكانت له صلة بالله عظيمة، وكان يواظب على صيام الاثنين والخميس".

 

ويحدثنا المؤرخ أبو شامة عن آثار السلاجقة لا سيما في زمن نظام الملك: "فلما ملك السلجوقية جددوا من هيبة الخلافة ما كان قد درس لا سيما في وزارة نظام الملك، فإنه أعاد الناموس والهيبة إلى أحسن حالاتها"، وقد أجلسه الخليفة العباسي المقتدي مرة بين يديه، وقال له: "يا حسن رضي الله عنك رضا أمير المؤمنين عنك".

 

وكان يتمنى أن يكون له مسجد يعبد الله فيه مكفول الرزق، قال في هذا المعنى: "كنت أتمنى أن يكون لي قرية خالصة، ومسجد أتفرَّد لعبادة ربي، ثم تمنيت بعد ذلك أن يكون لي رغيف كل يوم، ومسجد أعبد الله فيه"، ومن تواضعه أنه كان ليلة يأكل الطعام وبجانبه أخوه أبو القاسم، وبالجانب الآخر عميد خُراسان، وإلى جانب العميد إنسان فقير مقطوع اليد، فنظر نظام الملك فرأى العميد يتجنَّب الأكل مع المقطوع، فأمره بالانتقال إلى الجانب الآخر، وقرَّب المقطوع إليه، فأكل معه، وكانت عادته أن يحضر الفقراء طعامه ويُقرِّبهم إليه ويُدنيهم.

 

ثالثاً: الظرف التاريخي لظهور "نظام الملك"

يعد طغرل بك (455 ﻫ/ 1063 م)، المؤسس الحقيقي لدولة السلاجقة، وبعد وفاته نشب صراع على السلطة بين أمراء البيت السلجوقي حسمه ابن أخيه ألب أرسلان لصالحه، بمساعدة نظام الملك. كان ألب أرسلان صورة لعمه طغرل في الكفاءة والمهارة والقيادة، فحافظ على ممتلكات دولته، ووسع حدودها على حساب الأرمن والروم، وتوج جهوده في هذه الجبهة بانتصاره الكبير على الروم في معركة ملاز كرد الخالدة في عام 463 ﻫ/ 1070 م.

 

لم يتذوق ألب أرسلان جيدا طعم ما حققه من نصر عظيم، حيث قتل على يد أحد خصومه، وعمره 44 عاما، وذلك عام 465 ﻫ/ 1072 م، وخلفه ابنه ملكشاه. تولى نظام الملك أخذ البيعة لملكشاه وأقره الخليفة العباسي القائم بأمر الله على السلطنة، ولم يكتف ملكشاه بتثبيت نظام الملك في الوزارة بل فوضه أمر إدارة الدولة لما يعلم من قدرته وكفاءته، ولقبه بلقب أتابك، أي الأمير الوالد. وكان هو أول من أُطلق عليه هذا اللقب. وفي عهد ملكشاه وبفضل وزيره الهمام نظام الملك بلغت دولة السلاجقة أقصى اتساع لها، حيث امتدت من حدود الهند شرقا إلى البحر المتوسط غربا، وضمت أقاليم ما وراء النهر وإيران وآسيا الصغرى والعراق والشام، وبلغ من قوة الدولة أن ظل قياصرة الروم، بعد معركة ملاز كرد، يدفعون بانتظام الجزية سنويا.

 

رابعاً: نظام الملك والإدارة الناجحة

لقد كان نظام الملك رجل دولة من الطراز الأول، حريصاً على أسباب القوة والبقاء والنهوض، تشّرب أصول الحكم والإدارة من آبائه في بيت الوزارة، فقد اهتم نظام الملك بالتنظيمات الإدارية، فأشرف بنفسه على رسم سياسة الدولة الداخلية والخارجية بشكل كبير بعد تفويض السلطان ملكشاه له، ومستفيداً من فهمه ومعرفته لنظم الإدارة، وقد تضمن كتاب (سياست نامه) الذي ألفه هذا الوزير في الآراء والنظريات الإدارية التي تُعتبَر أساساً لنظام الحكم، وإدارة الدول والممالك، وتظهر من خلال كتاب (سياست نامه) أهم الطرق الإدارية التي اتبعها الوزير نظام الملك في إدارته للدولة السلجوقية، ويأتي في مقدمتها وقوفه بشدة ضد تدخل أصدقاء السلطان المقربين في شئون الدولة حتى لا يتسبب ذلك في اضطراب إدارتها، كذلك كان يهتم بشكل خاص بالبريد الذي كان رجاله يوافون الحكومة بكل أخبار البلاد الخاضعة لها.

 

كما عمل نظام الملك على الحد من استغلال الموظفين والعمال لسلطاتهم حتى لا يرهقوا الرعية بالرسوم والضرائب الباهظة، وكان يغير الولاة والعمال مرة كل سنتين أو ثلاث ضماناً لعدم تلاعبهم في أعمالهم، كما أجزل لهم في الرواتب والعطايا حتى لا تمتد أيديهم وأعينهم إلى أموال المسلمين، كذلك كان نظام الملك يدقق في اختيار الموظفين فيختار من كان منهم أغزر علماً، وأزهد نفساً، وأعف يداً، وأقل طمعاً، وكان يختار لوظيفتي صاحب البريد وصاحب الخبر أناساً لا يرقى الشك إليهم لحساسية هذا العمل، ويتم تعيينهم من قِبل السلطان نفسه.

 

كما كان لنظام الملك نظرية اقتصادية ناجحة وفعالة للنهوض باقتصاديات المثقلة بالالتزامات الدورية، وذلك بإصلاح الأراضي الزراعية، وتنظيم توزيعها، فقد جرت العادة لدى الخلفاء والأمراء أن تجني الأموال في البلاد، وتجمع في العاصمة؛ فلما اتسعت رقعت الدولة السلجوقية في عهد نظام الملك لاحظ أن دخل الدولة من خراج الأراضي الزراعية قليل لحاجتها إلى الإصلاح، فضلاً عن عدم اهتمام الولاة بها، فوجد أن من الأصلح للدولة أن توزع النواحي على شكل إقطاعات على رؤساء الجند؛ على أن يدفع كل مقطع مبلغاً من المال لخزانة الدولة مقابل استثماره للأراضي التي أقطعت له، فكان هذا الإجراء سبباً في تنمية الثروة الزراعية، إذ اهتم المقطعون بعمارتها مما أدى إلى زيادة إنتاجها، وظل هذا النظام قائماً حتى زالت الدولة السلجوقية.

 

خامساً: نظام الملك ومشروع النهضة السنية

الدين كان الأساس في فكر نظام الملك وفلسفته في الحكم والقيادة. فقد مؤمناً بالإسلام إيماناً عميقاً، معظماً لشريعته، كما كان شغوفاً بعلومه، محترماً لأعلامه، حتى صار دينه ودولته على السواء، وأن كلاًّ منهما يكمل الآخر. وكان التعليم ونشر الثقافة الإسلامية الخالصة القائمة على اعتقاد أهل السنة والجماعة هو الأداة الرئيسية في أدوات فكر وفلسفة " نظام الملك " الساعية للتصدي للفكر الشيعي المتنامي مثل الورم السرطاني في جسد الأمة بسبب دولة العبيديين في مصر، والبويهيين في العراق وفارس، ومن ثم كانت فكرة " المدارس النظامية " التي تميز بها عصر " نظام الملك " والدولة السلجوقية.

 

فنظام الملك كان شديد الاهتمام بالعمل على استتباب الأمن الفكري في المجتمع لا بالاضطهاد وقمع الحريات وإنما عن طريق بناء شبكة من المدارس معروفة بالنظامية في مناطق مختلفة، فنظام الملك بفتحه هذه المدارس، والإنفاق عليها بسخاء، لم يكن يرمي إلى نشر العلوم الدينية فحسب، وإنما كان يهدف في قرارة نفسه، إلى تحقيق إصلاح جذري لأحوال البلاد المضطربة. ومن ثمة فهو لم يكن رجل سياسة فحسب، بل كان مصلحا اجتماعيا. فلقد كان للحركة الفكرية التي قادها الوزير، بموازاة مع الحركة السياسية، الاقتصادية، التعليمية، العسكرية، الدور الكبير في القضاء على الفتن وفي استقرار الأوضاع في أنحاء مهمة من العالم الإسلامي.

 

أهمية الحصانة الفكرية والنهضة العلمية وإيجاد أجيال واعية ومثقفة من أبناء المسلمين والتي تحمل همّ دينها وقضايا أمتها، وتقف على مواطن الخلل وأدواء التخلف، بلا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا ميوعة، هي وحدها السبيل نحو استعادة مجد الأمة الضائع.

 

وكان إنشاء المدرسة النظامية ببغداد سنة 459 ه‍/ 1066 م، من قبل نظام الملك، فاتحة عصر جديد تبنت فيه الدولة إنشاء المدارس ورعاية التعليم. وكان لنظامية بغداد أهمية كبيرة في الحضارة الإسلامية باعتبارها أول مدرسة نظامية في العالم الإسلامي، وأيضا لأن نظام الملك وضع قاعدة مهمة اتبعت من بعده في العصور اللاحقة، ألا وهي إنشاء المدارس من قبل الدولة واستقلالها عن المساجد، وتوفير مستلزمات السكن وقاعات التدريس للمدرسين والطلبة مع تخصيص أجور شهرية لهم من أجل تفريغهم لغاية نشر العلم والثقافة الإسلامية السنية وفق معتقد أهل السنة والجماعة.

 

وبدعم من نظام الملك، انتشرت بالعراق وخراسان عشرات المدارس النظامية، حتى قيل: "إن له في كل مدينة بالعراق وخراسان مدرسة"، وكان ينشئ المدارس حتى في الأماكن النائية وكان كلما وجد في بلدة عالما قد تبحر في العلم بنى له مدرسة ووقف عليها وقفا وجعل فيها دار كتب. وكان التلاميذ يتعلمون فيها مجانا، وللتلميذ الفقير منحة يتقاضاها من ميزانية مخصصة لذلك. وقد بلغت نفقات نظام الملك في كل سنة على المدارس والفقهاء والعلماء ثلاثمائة ألف دينار، فلما راجعه السلطان ملكشاه في هذا الأمر، قال له الوزير: "قد أعطاك الله تعالى وأعطاني بك ما لم يعطه أحداً من خلقه، أفلا نعوضه عن ذلك في حَمَلة دينه وحَفَظة كتابه ثلاثمائة ألف دينار".

 

ويمكن إجمالاً تلخيص أهداف المدارس النظامية في النقاط التالية:

1 - نشر الفكر السني ليواجه تحديات الفكر الشيعي ويعمل على تقليص نفوذه.

2 - إيجاد معلمين مؤهلين لتدريس المذهب السني الشافعي ونشره في الأقاليم المختلفة.

3 - إيجاد كوادر سنية ليشاركوا في تسيير إدارة دواوين الدولة وخاصة في مجال القضاء.

 

وقد نجحت المدارس النظامية نجاحاً كبيراً لعدة أسباب أبرزها: الموقع الجغرافي: فقد بُنيت مدرسة ببغداد ومدرسة ببلخ، ومدرسة بنيسابور، ومدرسة بهراة، ومدرسة بأصفهان، ومدرسة بالبصرة، ومدرسة بمرو، ومدرسة بآمل طبرستان ومدرسة بالموصل. هذه إذن هي أمهات شبكة المدارس النظامية، ويتضح من توزيعها الجغرافي أن معظمها أُنشئ إما في بعض المدن التي تحتل مركز القيادة والتوجيه الفكري، كبغداد وأصفهان، حيث كانت الأولى عاصمة للخلافة العباسية السنية، ويتركز فيها عدد كبير من المفكرين السنيين أيضا والثانية كانت عاصمة للسلطنة السلجوقية في عهد ألب أرسلان وملكشاه، وإما في بعض المناطق التي كانت مركزاً لتجمع شيعي في تلك الفترة كالبصرة ونيسابور، وطبرستان، وخوزستان، والجزيرة الفراتية.

 

وإلى جانب الاختيار المدروس للمكان، فقد تم اختيار المدرسين بعناية تامة بحيث كانوا أعلام عصرهم في علوم الشريعة، اللغة العربية والنحو، ويشير الأصفهاني إلى دقة نظام الملك في هذه الناحية فيقول: "وكان بابه مجمع الفضلاء، وملجأ العلماء، وكان نافذا بصيراً ينقب عن أحوال كل منهم، فمن تفرس فيه صلاحية الولاية ولاه ومن رأى الانتفاع بعلمه أغناه، ورتب له ما يكفيه حتى ينقطع إلى إفادة العلم ونشره وتدريسه، وربما سيره إلى إقليم خال من العلم ليحلّي به عاطله، ويحيي به حقه، ويميت به باطله".

 

بالجملة كان مشروع نظام الملك للنهضة السنية عن طريق التعليم والدراسة ونشر روح الدين والعلم في المجتمع السلجوقي والأمة الإسلامية بأسرها سبباً مباشراً في تراجع المشروع الشيعي والباطني لقرون؛ بحيث تأجل ظهور مثل الدولة الصفوية حوالي خمسة قرون بسبب الإحياء السني الذي قام نظام الملك في القرن الخامس الهجري.

 

سادساً: مقتل نظام الملك

هناك أكذوبة تاريخية تناقلها المعاصرون ولاقت شيوعاً وشهرة واسعة في كتاباتهم عن الوزير نظام الملك، خلاصة هذه الأكذوبة أنه كان لنظام الملك صديقي دراسة هما: الحسن بن الصباح الزنديق الشهير ومؤسس فرقة الباطنية للاغتيالات المعروفة تاريخيا باسم "الحشاشون"، وعمر الخيام الفيلسوف والشاعر المشهور. وأقسم جميعهم على مساعدة بعضهم في حال نجاح أحدهم في حياته وتوليه لمنصب رفيع. كان النجاح الأول من نصيب نظام الملك، الذي احتل منصبا رفيعا يتمثل في وزير السلطان السلجوقي. لم يَنْسَ نظام الملك قسمه الذي قطعه مع أصحابه، وعليه فقد أمر بصرف راتب ثابت للشاعر عمر الخيام بينما أسند للحسن بن الصباح منصبا رفيعا في الدولة. لكن، حدث ما لم يكن بالحسبان. فقد تمكن حسن بن صباح من منافسة نظام الملك في السلطة مما اضطر الأخير لطرده من السلطة عن طريق مؤامرة حيكت من قبله. وحينها أقسم الحسن بن الصباح على الانتقام من صديقه ولو بعد حين.

 

هذه الأكذوبة التاريخية وضعها الرحالة الإيطالي الشهير "ماركو باولو" وكان معروفاً بكثرة التأليف وبث الأكاذيب في أخباره التاريخية، لذلك أطلق عليه المؤرخون الأوروبيون "المؤرخ صاحب الألف كذبة". وكان ماركو باولو قد زار قلعة آلموت معقل الحشاشين بعد وفاة الحسن بن الصباح ب150 سنة، فكتب رواية أسطورية عنه ضمّنها تلك الكذوبة الشهيرة.

 

والحق أن اغتيال "نظام الملك" على يد الحشاشين الباطنية كان بسبب جهود نظام الملك العظيمة في مشروع الإحياء السني والتصدي للفكر الشيعي والباطني، وبسبب خطة ملكشاه ونظام الملك في استهداف قلاع ومقار الإسماعيلية الباطنية في الشام وخراسان، فكان اغتيال نظام الملك فاتحة سلسلة عمليات اغتيال واسعة وكبيرة ضد قادة وعلماء وأبطال أهل السنّة والجماعة وظل شرها وكيدها ممتد حتى إلى ما بعد أيام الناصر صلاح الدين الأيوبي أي لأكثر من مائة سنة.

 

أما عن تفاصيل مقتله، ففي يوم الخميس في العاشر من شهر رمضان سنة 485 هـ؛ فحين وقت الإفطار صلّى نظام الملك المغرب، وجلس على السماط، وعنده خلق كثير من الفقهاء والقرَّاء والصوفية، وأصحاب الحوائج، فجعل يذكر شرف المكان الذي نزلوه من أراضي نهاوند، وأخبار معركة نهاوند المعروفة باسم "فتح الفتوح" والتي كانت بين الفرس والمسلمين في زمان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، ومن استشهد هناك من الأعيان ويقول: "طوبى لمن لحق بهم".

 

فلما فرغ من إفطاره، خرج من مكان قاصداً مضرب حرمه، فبدر إليه حدث ديلمي كأنه مُستميح أو مستغيث، فعلق به وضربه، وحمل إلى مضرب الحرم، فيقال: "إنه أول مقتول قتلته الإسماعيلية الباطنية، فانبث الخبر في الجيش، وصاحت الأصوات، وجاء السلطان ملكشاه حين بلغه الخبر، مظهراً الحزن، والنحيب والبكاء، وجلس عند نظام الملك ساعة وهو يجود بنفسه حتى مات، فعاش سعيداً فقيداً حميداً، وكان قاتله قد تعثر بأطناب الخيمة فلحقه مماليك نظام الملك وقتلوه".

 

وقال بعض خدامه: "كان آخر كلام نظام الملك أن قال: لا تقتلوا قاتلي فإني قد عفوتُ عنه" وتشهّد ومات، ولما بلغ أهل بغداد موت نظام الملك حزنوا عليه، وجلس الوزير والرؤساء للعزاء ثلاثة أيام، ورثاه الشعراء بقصائد منهم قصيدة مقاتل بن عطية حيث قال:

كان الوزير نظام الملك لؤلؤة *** يتيمة صاغها الرحمن من شرف

عزَّت فلم تعرِف الأيام قيمتها *** فردّها غيرة منه إلى الصدف

 

رحم الله الوزير العظيم "نظام الملك" وأخلف على الأمة بمثله رجالاً من طرازه في أيامنا هذه ليحيي الله تعالى به ما اندرس من هيبة الأمة ومكانتها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات