اقتباس
لن يخرج المتعصب من سجنه العقلي والذهني إلا بتغيير طريقة تفكيره بنشر الروح الإيجابية في التفكير، والتي تدفع المرء لأن يرى الإيجابيات كما يرى السلبيات، ويتعلم ثقافة العفو وغض الطرف والتغاضي عن الهفوات والزلات، وعلى الخطباء والدعاة التركيز...
منذ شهور ومحيطنا الثقافي والعلمي مشغول بقضية عارضة أثارتها نابتة من طلبة العلم الذين ظنوا أن " التمذهب " هو منتهى آمال طالب العلم، وطريقه الأمثل والأوحد للتعلم والفهم، وبالغوا في الأمر حتى خرجوا بالتمذهب من الوسيلة إلى الغاية، ومن الخير إلى الشر، ومن النفع إلى الضر؛ فقد جعلوا "التمذهب" معقداً للولاء والبراء، والطعن والثناء، وراحوا يصبون جم غضبهم وهوس عقولهم على الدعوة السلفية المعاصرة وبالتحديد دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- المباركة، وقد اعتمد هؤلاء النابتة على الوسائل الحديثة وخاصة مواقع التواصل الاجتماعي لشن حملة شديدة على الدعوة السلفية أو "الوهابية" كما يطلقون عليها؛ اقتداء وتأسياً بالشيعة الروافض أول من أطلق هذا المسمى على دعوة الشيخ رحمه الله.
ومازالت تلك الحملة مستمرة ينفخ القائمون عليها في أورها، ويزيدون في نيرانها؛ خدمة لأعداء الدين من حيث لا يعلمون، ما يدفعهم لهذه المهاترات وهذا الغثاء حفظاً لدين أو دفاعاً عن معتقد أو صيانة لعلم؛ ولكن يدفعهم دوماً وأبداً "التعصب المذهبي", وهذه الدعوة المشبوهة وأمثالها تحتاج لجهود الخطباء والدعاة في مواجهتها وتحذير الناس من تبعاتها الخطيرة على الأمة؛ فهذا هو قدر الخطباء والدعاة وواجبهم تجاه أزمات الأمة ونوازلها التاريخية.
فمازالت الأمة الإسلامية على مر عصورها تعاني من مشكلة حضارية كبرى، ألا وهي استنساخ واستحضار نفس أزماتها التاريخية المزمنة من حين للآخر، حتى صارت تلك الأزمات بمثابة الإرث الذي تتوارثه الأجيال عبر العصور، إرث يجب أن ينال كل جيل منه حظاً ونصيباً! دون الوصول إلى حل ناجع أو خارطة طريق ناجحة للتخلص من هذا الإرث التاريخي البئيس.
ومن أشهر أزمات الأمة التاريخية والتي لا يخلو منها عصر أو جيل؛ أزمة التعصب بصوره الكثيرة وأشدها وأنكاها التعصب المذهبي.
وإجمالاً يعتبر التعصب العائق الأساسي أمام كل أشكال التقارب بين الأفراد والجماعات والشعوب والمؤسسات؛ وذلك لأنه يكرس أسباب الفرقة، ويهدم ما هو قائم من قواعد الاتفاق والوحدة، والتعصب له أوجه كثيرة ولكن أبرزها التعصب الديني والمذهبي، وهو الأعلى صوتا والأكثر ظهورا والأعمق تأثيرا؛ وذلك لأمور:
1- ارتباطه بالدين الذي يعتبر أساس وقوام أي مجتمع وركيزته الأولى للتجمع والاتحاد، وارتباط الداء بالدين يحول المصابين به إلى نوع من الهوس بهذا الداء، فيحسبون أنهم يحسنون صنعاً وأنهم يخدمون الدين وأنهم يدافعون عن الحق، في الوقت الذي يدمرون فيه كل شيء بهذا الداء الخطير.
2- التعصب المذهبي في غاية الجمود؛ فالمتعصب مذهبياً إنسان ورث أفكارا وآراءً من الآباء والأسلاف والشيوخ والكبار، ورثها كابرا عن كابر، يراها من المقدسات التي يجب التسليم بصحتها وحكمتها، ويثق فيها وفيهم ثقة مطلقة، بحيث أصبحوا في نظره رمزا للأمانة والصدق والفقه والفهم وفضائل الأخلاق، ويرفض تماما أي نقد ورأي مخالف لما توارثه عن قومه، بل يقدم كلامهم على كلام الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، ويؤول كلام الله ورسوله؛ ليوافق كلام شيخه وإمامه حتى لا يقال عنده أخطأ الإمام وأصاب غيره.
3- أن التعصب المذهبي ترك آثاراً وخيمة على كل مكونات الأمة الإسلامية؛ بحيث أصاب شرره وضرره كل شرائح المجتمع المسلم وطبقاته وفئاته، من رأس القيادة السياسية؛ كما فعل المأمون والمعتصم والواثق العباسيين أيام محنة القول بخلق القرآن.. مروراً بمكونات النسيج المجتمع من علماء وفقهاء وتجار وأحياء سكنية ومدارس ومساجد حتى الأطفال والصغار في الكتاتيب. هذه النيران الخبيثة لم تكن محصورة في نطاق زماني أو مكاني معين؛ بل كانت مثل الريح العاصف في الأيام النحسات لا تدع بيتاً إلا دخلته ولا زمناً إلا لوثته.
4- أن التعصب المذهبي خرج من طور الخلاف الفقهي إلى طور الخلاف العقدي؛ بداية مما فعلته الطوائف الخارجة عن أهل السنة والجماعة، وجماعات الروافض وغيرهم ممن سار بالخلاف لأصول الديانة وأركان الإسلام وكل المقدسات والثوابت، فشهدت الأمة بسبب ذلك حروب طاحنة ونزاعات دموية وخسائر مهولة مازالت مستمرة حتى الآن.
بداية ظهور التعصب:
لم يعرف جيل الصحابة والتابعين ولا حتى جيل الأئمة الأربعة الكبار من سلف الأمة الصالح التعصب المذهبي المذموم، بل كان الجميع يتلقى العلم كابراً عن كابر، واتصلت سلسلة العلم بين الأئمة بكل حب وود وتقدير واحترام؛ ولكن لا ينفي ذلك وجود تعصب مذهبي من نوع آخر، وهو التعصب الذي ظهر بسبب نشوء الفرق والمذاهب الضالة من معتزلة ومرجئة وجهمية وقدرية وخوارج، وهؤلاء ظهروا مبكراً في عصر الصحابة الذين تصدوا لهم وقمعوا فتنتهم بالسنان وباللسان، وأبانوا الحق، وحرروا الأصول، وأفاضوا في الرد على البدع والضلالات التي حفلت هذه الفرق والمذاهب الخارجة عن أهل السنة والجماعة.
فإن الناس زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم لم يكونوا متمذهبين، فكان العلماء يجتهدون لاستنباط الأحكام الشرعية، وغير المجتهدين منهم يسألونهم فيما لا يعرفونه، وكان العوام يقلدونهم بلا تمذهب ولا التزام بشخص معين منهم؛ لذا لم يعرف المسلمون التعصب الفقهي المذموم زمن هؤلاء نحو ثلاثة قرون -إلا النذر اليسير-، ثم تغير الحال في أواخر القرن الثالث الهجري وبداية القرن الرابع الهجري وما بعده، حيث انتشر التمذهب الفقهي بين الناس، وصاحبه التعصب المذهبي بينهم بشكل واسع.
أمثلة من التعصب المذهبي للقيادة السياسية:
لم يكن للقيادات السياسية عبر العصور مذهباً معيناً تلتزم به وتجبر عليه رعاياها ومن دخل في بلادها إلا بصورة إجمالية وفي مجال القضاء؛ فالدولة الأموية لم تعرف مذهباً لسابقتها على ظهور المذاهب؛ أما الدولة العباسية والعثمانية فكلاهما كانت تبني في القضاء المذهب الحنفي، في حين تبنَّى الأيوبيون المذهب الشافعي، وتبنَّت الدول الإسلامية المتعاقبة في الأندلس والشمال الأفريقي المذهب المالكي، لا غضاضة في ذلك، ولكن نشوء التعصب في القيادة السياسية بدأ مع فتنة المعتزلة والقول بخلق القرآن أيام المأمون والمعتصم والواثق العباسيين (198هـ/232هـ)، والبداية كانت قوية وعنيفة؛ فقد تعصب هؤلاء للمعتزلة تعصباً أزهقت فيه الأنفس، واضطهد فيه العلماء، وأجبر الناس جبراً في المجتمع على تبني قول بخلق القرآن.
وفي عهد الخليفتين القادر بالله (381-422هـ) وابنه القائم بأمر الله ( 422-567هـ)، كانت -أي الدولة العباسية- على مذهب الحنابلة وأهل الحديث في الأصول، فانتصرتا له وضيّقتا على المعتزلة والأشاعرة والكلابية، لكنها -أي الدولة العباسية- في زمن الوزير السلجوقي نظام الملك(ت 485هـ)، وبتأثير منه تعصبت للمذهب الأشعري، وضيقت على الحنابلة وأهل الحديث.
الدولة الأيوبية بمصر والشام واليمن (569-648هـ)، تمذهبت في الأصول بالمذهب الأشعري، وفي الفروع بالمذهب الشافعي، وتعصبت لهما علانية، ومكّنت لهما في الدولة، وضيّقت على مخالفيها من الحنابلة وأهل الحديث، كذلك الدولة المملوكية بمصر والشام (648-923هـ)، فقد سارت على نهج الدولة الأيوبية في التمذهب بالأشعرية، وتعصبت لها تعصبا شديدا، حتى أنه كان من يجرؤ على مخالفتها علانية- زمن المؤرخ المقريزي(ت 855هـ)- يكون مصيره القتل.
أما الدولة المرابطية (453-541هـ) في الأندلس والمغرب؛ فقد تمذهبت في الفروع بالمذهب المالكي، وتمذهبت في الأصول بمذهب السلف وأهل الحديث، وانتصرت لهما انتصارا كبيرا، واشتدت على من يُخالفهما من المتكلمين، والفلاسفة، والصوفية، ومنها الدولة الموحدية (541-668هـ)، تمذهبت بالأشعرية في الأصول، وانتصرت لها انتصارا كبيرا، وتعصّبت على المالكية تعصبا زائدة، واشتدت في التعصب على خُصومهم المرابطين، فكفّرتهم واستباحت دماءهم وأعراضهم.
أما بالنسبة لتعصب الوزراء والقادة والأمراء فقد وقع منه الشيء الكثير المحزن الدامي. وأما الوزراء المتعصبون لمذاهبهم، فمن أشهرهم الوزير السلجوقي نظام الملك (ت 485هـ) رغم المآثر العظيمة للوزير السلجوقي الكبير " نظام الملك"؛ إلا إنه أطلق فتيل صراع مذهبي مستمر في الأمة منذ قرابة الألف سنة حتى اليوم؛ بسبب انحيازه للأشاعرة الشافعية وانتصاره لهم ضد من خالفهم من الحنابلة وأهل الحديث؛ فالمدراس الشهيرة التي بناها الوزير نظام الملك وعُرفت تاريخياً باسمه " النظامية " كانت في الأصل خاصة وقاصرة على تدريس ونشر المذهب الشافعي والأشعري، لا يسمح بغيره في هذه المدارس، وكان فقهاء الحنفية يتهمون نظام الملك أن كثير الإسناد للوظائف الادارية من القضاء والحسبة للفقهاء الحنفية؛ ليشغلهم عن التفرغ للتدريس والفتيا كما هو حال فقهاء الشافعية.
فقد أرسل نظام الملك ابن القشيري إلى بغداد سنة 469 هجرية؛ لنشر ودعم المذهب الأشعري، فوقف في النظامية يسب الحنابلة ويرميهم بكل نقيصة، فأحدث فتنة كبيرة قُتل فيها خلق كثير من الناس، فلما أحدث ذلك استدعاه إليه، فلما التحق به أكرمه وعظّمه، وجهّزه وأرسله إلي بلده نيسابور، وسلوكه هذا مع ابن القشيري غريب جدا؛ فالواجب على الوزير أن يُعاتبه ويُحذّره، ويُوبخه ويُعاقبه، لا أن يُكرمه ويُعظمه ويُكافئه، ونظام الملك بسلوكه هذا قد شارك في فتنة ابن القشيري، وشجّع أشاعرة آخرين على القيام بنفس ما قام به ابن القشيري، انتصارا للمذهب وتعصبا على خصومه. فقد أرسل أيضا الواعظ أبا بكر البكري المغربي الأشعري إلى بغداد سنة 475 هجرية، ومعه كتاب للتدريس في المدرسة النظامية والتكلم بمذهب الأشعرية، فلما حلّ ببغداد أحدث فتنة بين الأشاعرة والحنابلة، فسلوكه هذا دليل على تعمده لإحداث تلك الفتن انتصارا لمذهبه وتعصبا على معارضيه.
لذلك علق الإمام الذهبي على مثل هذه الحوادث فقال: "ونظام الملك دعّم الشافعية الأشاعرة دعما كبيرا، فرفع عنهم المحنة التي فرضها عليهم الوزير السلجوقي عميد الملك الكندري في سنة 445هجرية. ومنع من سبهم ولعنهم، وأدّب من فعل ذلك، ودعمهم ماديا ومعنويا حين بنى لهم المدارس، وأجرى عليهم الأرزاق، وشجّعهم على نشر الأشعرية، وأطلق يدهم في دولته، حتى عظُم أمرهم في البلاد، وانتقموا من الحنابلة وأهل الحديث، وتطاولوا عليهم تتطاول السلاطين، واستعدوا عليهم بالسجن والأذى والسعايات، ونبزوهم بالتجسيم".
وهذه الشهادة المنصفة من الذهبي شافعي المذهب جعلت تلميذه التاج السبكي يحط عليه في الطبقات ويسف رأيه ويتهمه في عقيدته غير مراعياً لعلم ومكانة وأستاذية لشيخه الذهبي؛ كما هي عادة السبكي شديد التعصب للأشاعرة.
أمثلة من جنايات التعصب المذهبي على المجتمعات:
1- الانعزال في أحياء سكنية خاصة؛ ففي مدينة بغداد عاصمة الخلافة كان معظم الشيعة يسكنون جانبها الغربي عامة وحي الكرخ خاصة، وكان معظم أهل السنة يسكنون جانبها الشرقي، بمحلة باب الأزج، وسوق الثلاثاء، والحربية. وكان كثير من الحنابلة يسكنون باب البصرة بالجانب الغربي من بغداد، قبالة حي الكرخ، وعندما كانت تقع صراعات مذهبية كانت الأحياء السكانية هدفاً لغارات انتقامية من الجانبين. أما مدينة دمشق، فقد كانت سنية خالصة في معظم تاريخها الإسلامي، فسكن غالبية الحنابلة حي الصالحية شمال المدينة خارج سورها، وكان غالبية الشافعية والحنفية والمالكية يسكنون داخل مدينة دمشق.
أما مدينة الري- طهران حالياً- فقد كانت مقسمة إلى ثلاث محلات حسب الطوائف المذهبية المكونة لها، واحدة للحنفية، والثانية للشيعة، والثالثة للشافعية، فخُرّبت الأولى والثانية زمن الرحالة ياقوت الحموي المتوفى سنة 626هجرية، بسبب الفتن المذهبية المدمرة بين تلك الطوائف، ولم تبق إلا محلة الشافعية بعد انتصارهم على الحنفية.
2- الجمود بغلق باب الاجتهاد؛ فقد جرى شبه اتفاق بين علماء المذاهب على خلق باب الاجتهاد بالكلية ابتداء من القرن الخامس الهجري؛ لعدم توافر شروط الاجتهاد في أحد بعد القرن الرابع الهجري، وقد هذا الافتراض الوهمي إلى انتشار انتشر تقليد الأئمة والتعصب لهم بحق وبغير حق، وتجاوزوا الحد في تعظيم أئمتهم وامتثال آرائهم، إلى حد لا يُوصف.
فقد ذكر المؤرخ أبو شامة المقدسي (ت 665ه) أن المقلدين المتعصبين في زمانه بلغ بهم الأمر إلى أن أصبحت أقوال الأئمة عندهم بمنزلة الكتاب والسنة، فصدق عليهم قوله تعالى: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ)، ولغلبة التعصب عليهم كفروا بالرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما أخبرنا أن الله -تعالى- يبعث في كل مائة سنة من ينفي تحريف الغالين وانتحال المبطلين، فحجروا على الله -تعالى-؛ كاليهود بأن لا يبعث بعد أئمتهم وليا مجتهدا؛ وانتهى بهم التعصب إلى أن أحدهم إذا أُورد عليه دليل من القرآن والسنة اجتهد في دفعه بكل سبيل من التأويلات البعيدة نصرة لمذهبه. ثم انتهى بهم الأمر على إهمال علوم الكتاب والسنة، وتفضيل ما هم عليه الذي ينبغي المواظبة عليه؛ فبدلوا بالطيب خبيثا، وبالحق باطلا، وبالهدى ضلالا.
وذكر الذهبي أن أحد أهل العلم المقلدين المتمذهبين المتعصبين قال: "إن المقلد الذي التزم بتقليد إمامه، هو مع إمامه كالنبي مع أمته، لا يحل مخالفته". وذلك ما ادعاه قاضي القضاة علي بن محمد الدامغاني الحنفي (ت513ه)، عندما منع أن يُحكم في القضاء بغير رأي أبي حنيفة وصاحبيه محمد وأبي يوسف، وأعلن أمام الملأ بأعلى صوته بأنه لم يبق في الأرض مجتهد. فأنكر عليه الفقيه المجتهد أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي (ت513ه) ما ادعاه، وقال إن كلامه هذا فيه فساد كبير.
هذا الحجر على القول والأفهام أنتج أجيالاً متعاقبة رضيت بأن تدفن مواهبها وملكاتها العلمية؛ خوفاً من الاتهام بالشذوذ والضلال بتهمة الاجتهاد كما جرى مع شيخ الإسلام ابن تيمية، بل إن الكثير من علماء الأمصار في القرون اللاحقة امتلكوا أدوات الاجتهاد ولكن قصروها على الاجتهاد داخل مذهبهم الخاص، ولم يجرؤا على التصريح بمخالفة المذهب حتى لا يواجهوا بسوء المصير.
3- المنع من الجماعات؛ فقد اختلف الفقهاء في الجهر بالبسملة، ولكن هذا الاختلاف تسبب في كثير من الفتن والاضطرابات، من ذلك أن جماعة من الحنابلة ببغداد أحدثوا فتنة في المجتمع سنة 323 هجرية، عندما اعترضوا على كل ما يرونه مخالفا للشرع حسب مذهبهم؛ كاعتراضهم على من يجهر بالبسملة في الصلاة، الأمر استدعى تدخل الشرطة ضدهم، فأمرت بأن لا يُصلي حنبلي بالناس إلا إذا جهر بالبسملة في صلاتي الصبح والعشاء، فلم يرتدع الحنابلة واستمروا في عنفهم ومشاغباتهم تجاه الشافعية، ولم يُوقفوا ذلك إلا بعدما أصدر الخليفة الراضي بالله (322-329ه) توقيعا عنيفا زجرهم فيه، وهددهم بالقتل والتنكيل، والتشريد وحرق البيوت.
وفي سنة 447 هجرية حدثت فتنة بين الحنابلة والشافعية ببغداد، كان من أسبابها جهر الشافعية بالبسملة في الصلاة، فانقسمت العامة بين مؤيد ومخالف لهم، ثم انحازت كل طائفة إلى الطرف الذي مالت إليه، ولم تفلح مساعي ديوان الخليفة في التوفيق بين الفريقين وبقي الخلاف قائما، ثم توجه الحنابلة إلى أحد مساجد الشافعية، ونهوا إمامه عن الجهر بالبسملة، فأخرج مصحفا وقال لهم: "أزيلوها من المصحف حتى لا أتلوها"، ثم تطور النزاع إلى الاقتتال، فتقوى جانب الحنابلة وتقهقر جانب الشافعية؛ حتى أُلزموا البيوت، ولم يقدروا على حضور صلاة الجمعة ولا الجماعات؛ خوفا من الحنابلة.
4- حرق المؤلفات العلمية: حدثت في تاريخنا الإسلامي عدة وقائع أُحرقت فيها كتب المخالفين تعصبا عليهم وانتصارا للمذهب، فكان ذلك مظهرا من مظاهر التعصب المذهبي؛ مثلما حدث لكتب أبي محمد بن حزم الأندلسي (ت456ه)؛ فبسبب الخصومة التي كانت بينه وبين فقهاء المالكية بالأندلس جعلتهم -أي الخصومة- يمقتوه ويحرقون كتبه علانية.
ومنها: ما جرى لكتب أبي حامد الغزالي (ت 505ه) بالمغرب الإسلامي زمن دولة المرابطين (451-541ه)، وذلك أن السلطان علي بن يوسف بن تاشفين أمر بإحراق كتب الغزالي، وهدد بفتل ومصادرة أموال كل من وُجدت عنده مصنفات الغزالي أو بعض منها. وكان القاضي عياض ( ت544ه) من بين الذين طالبوا بحرق كتب الغزالي، ويبدوا أنهم فعلوا ذلك؛ لما وجدوه فيها من مقالات كلامية وأشعرية وفلسفية وصوفية، تخالف ما هم عليه من مذهب السلف وأهل الحديث في أصول الدين.
5- انقسام المساجد: وكما كانت هناك المدراس المذهبية التي تقتصر على تدريس مذهب واحد، امتدت هذه الظاهرة إلى المساجد أيضا؛ فقد كانت مساجد دمشق مقسمة بين الطوائف السنية، فمعظم مساجدها -داخل السور- كانت للشافعية ثم للحنفية ثم للمالكية ثم للحنابلة؛ وكانت معظم مساجد الصالحية-خارج سور دمشق- للحنابلة، والباقي للشافعية والحنفية.
والأغرب من ذلك أنه وُجدت محاريب متعددة داخل المسجد الواحد حسب الطوائف المذهبية، فتصلي كل جماعة في محرابها، ولا تصلي في المحاريب الأخرى؛ ففي الحرم المكي كانت فيه خمسة محاريب للصلاة، وهي: المذاهب الأربعة الشافعية والحنفية والمالكية والحنبلية، والشيعة، فكان لكل منها مقامها الذي تصلي فيه، وفي صلاة المغرب كانت كل الطوائف تصلي في وقت واحد لضيق الوقت، فيحدث تشويش وخلط في الركوع والسجود والتسليم، وقد استمرت هذه الظاهرة موجودة بالحرم المكي حتى جاء عهد الدولة السعودية.
وكذلك الجامع الأموي بدمشق؛ فقد كانت بداخله أربعة محاريب حسب الطوائف السنية الأربعة، لكل منها محرابها تصلي فيه، وتعقد فيه أيضا حلقاتها العلمية. وهذه المحاريب ما تزال موجودة بالجامع الأموي إلى يومنا هذا؛ كشواهد تاريخية.
التعصب المذهبي عبر التاريخ كان ومازال مثل الدوامة المغرقة التي تبتلع كل من يقترب منها؛ فكم من خير وعلم وفقه ضاع وتاه بسبب التعصب! وكم من إمام نابغة تعرض للمحن والابتلاءات!؛ مثل بقي بن مخلد وابن حزم والطبري وعبد الغني المقدسي وابن تيمية والصنعاني والشوكاني والألوسي إلى وقتنا الحاضر تعرضوا لذلك بسبب التعصب المذهبي والجمود العلمي الذي حماه سدنة التقليد!
ولن يخرج المتعصب من سجن أفكاره وأسر هواه إلا بالتجرد والإخلاص وإتباع المنهج النبوي، لن يخرج المتعصب المذهبي من ضيق أفقه وسرعة نزقه وتعميمه الخاطئ ونمطيته الكسولة إلا بالانفتاح على الغير، والاتصال مع الآخرين؛ بالحوار وتبادل الأفكار ومناقشة القضايا الكلية التي تهم الأمة؛ فالحوار والمناقشة وقتها أشبه بإعادة فتح جرح قد التئم على فساد ويحتاج إلى تنظيف وتطهير؛ وإلا تحول مع الزمن إلا آفة مزمنة لا يصلح معها علاجا سوى البتر، ففتح الجراح مؤلم وتنظيف الجروح وتطهيرها مؤلم، ولكنه يضمن الشفاء والاستقامة بعدها، أما السكوت فهو جريمة بحق أبناء الأمة والأجيال القادمة، ومن يستطع أن يتحمل هذا الوزر العظيم؟
لن يخرج المتعصب من سجنه العقلي والذهني إلا بتغيير طريقة تفكيره بنشر الروح الإيجابية في التفكير، والتي تدفع المرء لأن يرى الإيجابيات كما يرى السلبيات، ويتعلم ثقافة العفو وغض الطرف والتغاضي عن الهفوات والزلات، وعلى الخطباء والدعاة التركيز في خطابهم مع المتعصبين على مسألة التناقض الأخلاقي الذي يقعون فيه، حيث يحفظون الآيات والأحاديث والآثار التي تتكلم عن العفو والصفح وأفضلية التقوى والمساواة بين الناس، ثم هم يقعون في ممارستهم اليومية وعاداتهم الاجتماعية في نقيض ما يؤمنون به ويعتقدونه؛ فالعدل يدفع نحو الإخاء، والظلم يدفع نحو التعصب.
-----------
لمزيد من الاستفاضة راجع كتاب " التعصب المذهبي في التاريخ " للدكتور خالد كبير علال - طبعة دار المحتسب 2008
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم