قرآن الفجر

ناصر بن محمد الأحمد

2010-03-31 - 1431/04/15
عناصر الخطبة
1/ وقت صلاة الفجر 2/ منزلتها وفضلها 3/ حال السلف الصالح مع صلاة الفجر 4/ أثر المحافظة على صلاة الفجر 5/ التخلف عن صلاة الفجر وعقوبة تاركها 6/ الوسائل المعينة على صلاة الفجر .

اقتباس

أهل الفجر لهم ثناء جميل, لم تسطره وسائل الإعلام باختلاف أنواعها, فليسوا بحاجة إلى أن ينشر لهم عمل, ولكنه ثناء أعظم وأجل, مسطر في رق منشور, ثناء تكلم به الجبار جل جلاله, وحسبك بثناء من عند الله تعالى, الذي لا يزين مدحه إلا هو, ولا يشين ذمه إلا هو

 

 

 

 

أهل الفجر لهم ثناء جميل, لم تسطره وسائل الإعلام باختلاف أنواعها, فليسوا بحاجة إلى أن ينشر لهم عمل, ولكنه ثناء أعظم وأجل, مسطر في رق منشور, ثناء تكلم به الجبار جل جلاله, وحسبك بثناء من عند الله تعالى, الذي لا يزين مدحه إلا هو, ولا يشين ذمه إلا هو

  

إن الحمد لله.

أما بعد: وبعد ظلام الليل الحالك، يتنفس الصبح بضيائه، ويرسل إلى الكون خيوط الصباح الأولى، مؤذناً ببدء يوم جديد. ويشهد الكون في تلك اللحظات المهيبة، صراع النور والظلمة، واعتراك الليل والنهار، ويبصر ميلاد يوم جديد.

ويقبل الفجر في زهوه وبهائه يتهادى اختيالاً، ملء عينيه أسرار وأخبار. وفي هذا الوقت البديع المبارك، يدوي في سماء الكون النداء الخالد، نداء الأذان لصلاة الفجر فتهتف الأرض كلها: الله أكبر الله أكبر، الصلاة خير من النوم.

وتكون صلاة الفجر فاتحة اليوم في حياة المسلم، ويُعلّم الإسلام أهله أن يبدأوا كل أمر بطاعة الله، والإقبال عليه والإنابة إليه، وكأنما هي شكر لله على نعمة الإصباح بعد الإظلام. ويبدأ وقت صلاة الفجر، من ظهور الفجر الصادق إلى طلوع الشمس، والسنة فيها التعجيل؛ فيصليها بغلس قبل الإسفار.

إنها صلاة الفجر التي سماها الله في كتابه قرآناً فقال جل وعز: (أَقِمِ الصَّلَوةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْءانَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْءانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) [الإسراء :78]

المحافظة عليها من أسباب دخول الجنة، والوضوء لها كم فيه من درجة، والمشي إليها كم فيه من حسنة، والوقت بعدها تنـزل فيه البركة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم بارك لأمتي في بكورها" أخرجه أحمد وأبو داوود.

وصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ملائكة الليل وملائكة النهار تجتمع في صلاة الصبح، فكفاكم شرفاً شهادة ملائكة الرحمن لكم، قال -صلى الله عليه وسلم-: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون" متفق عليه.

وهكذا تكون صلاة الفجر مجتمعاً للملائكة، ومحفلاً من محافل الخير والطاعة والعبادة. لا يحضره إلا كل طاهر مطهر من الأبرار يستحق أن يكون في ضيافة الرحمن، عن أبي أمامة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من توضأ ثم أتى المسجد فصلى ركعتين قبل الفجر، ثم جلس حتى يصلي الفجر كتبت صلاته يومئذ في صلاة الأبرار، وكتب في وفد الرحمن" رواه الطبراني بإسناد حسن.

صلاة الفجر تعدل قيام الليل: روى مسلم في صحيحه عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله".

وروى مالك بسند صحيح أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقد سليمان بن أبي حثْمة في صلاة الصبح فمر على الشِّفاء أم سليمان فقال لها: لم أر سليمان في الصبح؟ فقالت: إنه بات يصلي فغلبته عيناه. فقال عمر: "لأن أَشْهد صلاة الصبح في جماعة أحب إليَّ من أن أقوم ليلة".

صلاة الفجر وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة من بعده لأمة الإسلام: فعن رجل من النخع قال: سمعت أبا الدرداء حين حضرته الوفاة قال: أحدثكم حديثاً سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من استطاع منكم أن يشهد الصلاتين: العشاء والصبح ولو حبواً؛ فليفعل" حديث حسن رواه الطبراني في الكبير.

أيها المسلمون: ولما كانت صلاة الفجر بهذه المنـزلة العظيمة كان التفريط فيها جرماً كبيراً، وغفلة غير يسيرة. قال ابن عمر -رضي الله عنه-: "كنا إذا فقدنا الرجل في الفجر والعشاء أسأنا به الظنّ".

وعن أبي بن كعب -رضي الله عنه- قال: صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوماً الصبح فقال: "أشاهد فلان؟" قالوا: لا. قال: "أشاهد فلان؟" قالوا: لا. قال: "إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموها ولو حبواً على الركب" رواه أحمد وأبو داود بسند حسن.

لقد تعلقت قلوب السلف -رضي الله عنه- بهذه الصلاة لما علموا من جليل فضلها وسوء عاقبة التخلف عنها، فكانوا أحرص الناس عليها، حتى لقد قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يتهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف".

وها هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نبي الأمة وهاديها يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر، يقول: "الصلاة يا أهل البيت (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً)[الأحزاب:33] " رواه الترمذي. إنه حرص نبوي، وتربية لابنته على أن تحرص على صلاة الفجر في وقتها.

وكان علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يمر في الطريق منادياً: "الصلاة الصلاة" يوقظ الناس لصلاة الفجر، وكان يفعل ذلك كل يوم. وحين اشتكى الإمام سعيد بن المسيب عينه قالوا له: "لو خرجت إلى العقيق فنظرت إلى الخضرة؛ لوجدت لذلك خفة"! يدعونه للتنـزه في ضواحي المدينة حيث الخضرة والجو الطليق، فقال لهم: "فكيف أصنع بشهود العتمة والصبح

وتزوج الحارث بن حسان -رضي الله عنه- في ليلة من الليالي، فحضر صلاة الفجر مع الجماعة، فقيل له: "أتخرج وإنما بنيت بأهلك الليلة؟" فقال: "والله إن امرأة تمنعني من صلاة الغداة في جمع لامرأة سوء"!

وقام عبد الرحمن بن مهدي ليلة حتى جهد؛ فلما طلع الفجر رمى بنفسه على الفراش فنام عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس، فقال: "هذا مما جنى عليّ الفراش"، فجعل على نفسه ألا يجعل بينه وبين الأرض شيئاً شهرين.

ومكث الإمام مَدِين بن أحمد الحميري دهراً إلى حين وفاته لا تفوته التكبيرة الأولى من صلاة الصبح، ويمكث في مصلاه وهو على طهارة إلى أن يركع الضحى، وربما جلس بعد ذلك.

وبقي الشيخ الغرناطي نحواً من عامين أو أزيد يخرج للصلوات الخمس يهادى بين رجلين لشيء كان برجله، حتى كان بعض أصحابه يقول: "الغرناطي حجة الله على من لم يحضر الجماعة".

وكانوا يرون فوات صلاة الفجر في الجماعة خطباً جللاً يستحق العزاء. قال حاتم الأصم: "فاتتني صلاة الجماعة، فعزاني أبو إسحاق البخاري وحده، ولو مات لي ولد لعزاني أكثر من عشرة آلاف". لأن مصيبة الدين أهون عند الناس من مصيبة الدنيا!

فأين نحن -معاشر الأحبة- من هدي من سبقونا؟ وهذا شيء يسير من أخبارهم. إنهم قوم يحرصون على أداء هذه الفريضة، ويعتنون بهذه الشعيرة، يستقبل بها أحدهم يومه، ويستفتح بها نهاره والقائمون بها تشهد لهم الملائكة ومن أداها مع الجماعة فكأنما صلى الليل كله.

لقد أجابوا داعي الله وهو ينادي: "حي على الصلاة، حي على الفلاح"، فسلام على هؤلاء القوم، حين استلهموا "الصلاة خير من النوم"، واستشعروا معاني العبودية، فاستقبلتهم سعادة الأيام تبشرهم وتثبتهم، قال -صلى الله عليه وسلم: "بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة" أخرجه الترمذي وأبو داوود.

لقد فزتم بعظيم الأجر، فلا تغبطوا أهل الشهوات والحظوظ العاجلة فما عندهم والله ما يُغبطون عليه، بل بفضله وبرحمته فاغتبطوا، وإياه على إعانتكم فاشكروا، وإليه فتوجهوا، يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله" أخرجه مسلم.

يا أهل الفجر: هنيئاً لكم أن تتمتعوا بالنظر إلى وجه الله الكريم في الجنة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها؛ فافعلوا ثم قرأ: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ) [ق:39] أخرجه البخاري ومسلم.

ألا ترضون أن يذهب الناس بالأموال والزوجات، وترجعون أنتم بالبركة في الأوقات، والنشاط، وطيب النفس وأنواع الهِدايات، ودخول الجنات، ونزول الرحمات؟، قال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى البردين دخل الجنة" أخرجه البخاري ومسلم. والبردان: صلاة الفجر والعصر، وقال -صلى الله عليه وسلم- مخبراً بالنجاة من النار لمن صلى هاتين الصلاتين: "لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها" أخرجه مسلم.

إنكم محفوظون يا أهل الفجر بحفظ الله تعالى لكم، قال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى الصبح فهو في ذمة الله" أخرجه مسلم. فما ظنكم برجل كان في ذمة الله تعالى وجواره. وأنتم ترون الناس يطمئنون ويأمنون أشد الأمن، حين يكون أحدهم في جوار عظيم من عظماء الدنيا, فإن كان في جوار الله لهو أشد أماناً وأعظم اطمئناناً، ففي صحيح مسلم من حديث جُندَب بن عبد الله -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى الصبح فهو في ذمة الله, فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه, ثم يكبه على وجهه في نار جهنم".

من صلى الفجر مع الجماعة فنفسه طيبة وجسمه نشيط، قال -صلى الله عليه وسلم-: "يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا نام ثلاث عقد، ويضرب على مكان كل عقدة، عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان" متفق عليه.

فسلام على المحافظين على صلاة الفجر، حين تركوا السهر، وودعوا السمر، وفازوا بعظيم الأجر، ترى الواحد من هؤلاء يستعد لها من الليل بالساعة المنبهة والوضوء والأوراد المتنوعة، وإذا خشي فوات القيام لها وصى أحداً يوقظه.

وقبل هذا كله إحساس الإيمان الذي يعمر قلبه، فحتى لو عرض له أمر فتأخر عن النوم مرة، وجدته عند الصلاة يهبّ من نومه فزعاً إليها، مبادراً بأدائها، فلله درهم حين صلوا صلاة الفجر لميقاتها، فحفظوا وقتها، وداوموا عليها، وفازوا بأحب عمل إلى الله -عز وجل-، قال عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه-: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل؟ قال: "الصلاة على وقتها" متفق عليه.

أولئك هم الرجال حقاً، والمؤمنون صدقاً، قال ربنا جل وعلا: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) [النور 36 : 38]

أهل الفجر لهم ثناء جميل, لم تسطره وسائل الإعلام باختلاف أنواعها, فليسوا بحاجة إلى أن ينشر لهم عمل, ولكنه ثناء أعظم وأجل, مسطر في رق منشور, ثناء تكلم به الجبار جل جلاله, وحسبك بثناء من عند الله تعالى, الذي لا يزين مدحه إلا هو, ولا يشين ذمه إلا هو, فبشراكم ذلك الثناء يا أهل الفجر قال الله تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف:28]

أيها المسلمون: وبلغ من منـزلة صلاة الفجر أن خُصّت راتبتها القبلية دون سائر الرواتب بالمحافظة عليها حضراً وسفراً قال ابن القيم -رحمه الله-: "وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في السفر يواظب على سنة الفجر والوتر أشد من جميع النوافل دون سائر السنن، ولم ينقل عنه في السفر أنه صلى سنة راتبة غيرها".

وكان ابن تيمية -رحمه الله- يقول: "سنة الفجر تجري مجرى بداية العمل والوتر خاتمته". بل وصف -عليه الصلاة والسلام- راتبة الفجر بأنها خير من الدنيا وما فيها، وبأنها أحب إليه من الدنيا جميعاً.

ولم يكن -صلى الله عليه وسلم- إلى شيء من النوافل أسرع منه إلى الركعتين قبل الفجر. فهذه منـزلة النافلة فكيف بالفريضة يا عبدالله؟

أسأل الله جل وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يعينني وإياكم على أنفسنا، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما قلت، فإن كان صواباً فمن الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن نفسي ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً.

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه.

أما بعد: أيها المسلمون: إن من الظواهر المؤلمة في هذا الوقت التخلفَ عن صلاة الفجر في المسجد مع الجماعة، وقضاءها بعد فوات وقتها، وإنك لترى المسجد في الحي المزدحم يمتلئ في الصلوات كلها حتى إذا جئت لصلاة الفجر؛ ألفيته شبه خاو ليس فيه إلا صفوف قليلة! وهذه والله بلية يعجب لها المرء.

كيف يفوّت المسلم على نفسه هذا الخير العظيم؟ كيف يهنأ بالنوم، والناس في المساجد مع قرآن الفجر يعيشون، وإلى لذيذ خطاب الله يستمعون، وفي ربيع جناته يتقلبون، كيف يطيب له الفراش وأرباب العمل قد صفوا أقدامهم في المساجد، بين سجود وركوع، وخشوع ودموع؟

كيف يحرم نفسه بركات الفجر المتنـزلة، وخيراته المتواترة؟ بل كيف يرضى المسلم أن يتلاعب به الشيطان فيبول في أذنيه؟ عن أبي وائل عن عبد الله -رضي الله عنه- قال ذُكر عند النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل، فقيل: ما زال نائماً حتى أصبح ما قام إلى الصلاة ، فقال: "ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه" رواه البخاري.

قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "واختُلف في بول الشيطان فقيل: هو على حقيقته وقيل: هو كناية عن سد الشيطان أذن الذي ينام عن الصلاة حتى لا يسمع الذكر. وقيل: معناه ملأ سمعه بالأباطيل. وقيل: هو كناية عن ازدراء الشيطان به. وقيل: معناه أن الشيطان استولى عليه، واستخف به حتى اتخذه كالكنيف المعد للبول. وخُصّ البول لأنه أسهل مدخلاً في التجاويف، وأسرع نفوذاً في العروق؛ فيورث الكسل في جميع الأعضاء. وهذه معانٍ كيفما قلّبتها وجدت بعضها شراً من بعض".

فيا من ضيعوا صلاة الفجر، وتهاونوا بها، وأخروها عن وقتها؛ فيا ليت شعري لو يعلمون ماذا تحمّلوا من الوزر؟ وماذا فاتهم من الأجر؟ قال الله تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ) وقال تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا ) [مريم 59: 60]

وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح ونجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر" رواه الترمذي وقال حديث حسن.

بل أين هم من الحديث العظيم الذي رواه البخاري في صحيحه والذي أخبر فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنه أتاه آتيان فانطلقا به، فمروا على رجل مضطجع، وآخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه؛ فيثلغ رأسه فيتدهده الحجر ها هنا؛ فيتبع الحجر فيأخذه، فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل المرة الأولى " فلما سَأل -عليه الصلاة والسلام- الملكين عن خبره قالا: "أما الرجل الذي أتيت عليه يُثلغ رأسه بالحجر فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة".

فحين تلذذ بالنوم عن الصلاة جوزي بأن يُرض رأسه بالحجارة، والجزاء من جنس العمل.

فأيها المضيع لصلاة الفجر: أما لك همة ترتفع بها؛ لتكون مع من سبق الثناء عليهم والإشادة بهم؟، لماذا تجعل للشيطان عليك سبيلاً؟. تذكر وأنت تتنعم بلذيذ المنام، ما يعقب ذلك من حسرة وألم، ويكفيك قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أصبح خبيث النفس كسلان".

ألا فالحق بأهل الفجر، لكي تكون في ذمة الله، ولتكتب في ديوان الأبرار، وتحصل لك السعادة والنور، وتمحى من صحيفة النفاق، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليس صلاة أثقل على المنافقين من صلاة الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتوها ولو حبواً " أخرجه البخاري ومسلم.

فحاسب نفسك، واصدق مع ربك، واستفتح يومك بتوبة تمحو ما سلف منك، وتذكر نعم الله عليك، واسأل الله دائماً أن يعينك، واحذر السهر؛ فهو سبب رئيس لفوات فريضة الفجر.

وابذل مع هذا من الأسباب ما يكون لك عوناً بإذن الله: بأن تنام على طهارة وقد قرأت أذكار النوم، وجعلت الساعة المنبهة عندك، فإن خفت مع هذا ألا تقوم، فأوص بعض أهلك، أو جيرانك بالاتصال عليك وإيقاظك.

وإذا استيقظت فاذكر الله مباشرة، وانهض من فراشك بسرعة، ولا تتململ فيه، أو يوحي إليك الشيطان بأن تستريح قليلاً، فهذا مدخل من مداخله، وابتعد عن المعاصي والذنوب ولاسيما النظر المحرم، فإن المعصية سبب لحرمان الطاعة، وكن ذا عزيمة قوية.

وتذكر ثواب المسارعين إلى المساجد الذين تعلقت قلوبهم بها، وأَكثروا من التردد عليها؛ فهم من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وهم السعداء الموفّقون في الدنيا، وأهل الجنة في الآخرة.

قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثة كلهم ضامن على الله إن عاش رزق وكفي، وإن مات أدخله الله الجنة، وذكر منهم: من خرج إلى المسجد فهو ضامن على الله" أخرجه أبو داوود.

فيا عبدالله: ما غرك بربك وألهاك عن صلاة فجرك؟ ترى أي خير فاتك؟ وأي موت للقلب ابتليت به؟ فهل لك من عودة؟ وهل لك من رجوع؟ فإن المسجد يفتح أبوابه، وداعي الرحمن يدعوك فأقبل يا عبدالله تكن من الفائزين.

يا من فقدناك في صلاة الفجر, أرضيت أن تكون أسيراً للشيطان والهوى؟ أرضيت أن يبول الشيطان في أذنيك فلا يجعلها تسمع نداءً, ولا تجيب فلاحاً؟ ثم هل ترضى أن يحضر الشيطان منـزلك كل ليلة فيبيت معك حتى تصبح, وهو يراك فريسة اصطادها في كل يوم؟!

فهلا عزمت من هذه الساعة أن تكون ضمن الركب المبارك؟, أهل الفجر, لتحظى بفضائلهم, ولتنجو من الوعيد الشديد للذين ينامون عن فرائض الله تعالى.

اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
 

 

 

 

المرفقات

1173

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات