قد أفلح من زكاها

راكان المغربي

2022-12-30 - 1444/06/06 2023-01-04 - 1444/06/11
عناصر الخطبة
1/حفاظ الإنسان على ما يملك أمر فطري 2/من خصائص النفس البشرية 3/أهمية تزكيةِ النفس وإصلاحها 4/من ثمراتِ التزكية النبوية 5/خطوات عملية لتزكية النفس

اقتباس

ففي طريق تزكية النفس ستجدُ العديدَ من العوائقِ التي تحاول أن تعيقَك عن الاستمرار، وتصدَّك عن السبيل، فالشيطان قاعدٌ يريد أن يحرفَك عن الصراط، وأهواءُ النفسِ تجذبُك إلى شهواتِها المحرمة ولذّاتِها الفانية، والبيئةُ من حولك وجلساءُ السوء يثبطونك...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

أما بعد: فقد فُطرَ الناس على حب ممتلكاتهم، وتنميتها والحفاظ عليها حتى لا تتعرض للأذى أو النقص فالمال يُكتنز في المحافظ والبنوك، وينمى في المشاريع والفرص الاستثمارية والأنعام تحفظ في الحظائر ويكلف بها الرعاة ليحفظوها من الأذى، ويعملوا على زيادة إنتاجها وذلك ينطبق على سائر الممتلكات من المراكب والمنازل والحلي وغير ذلك، فإن حب الإنسان الفطري لهذه الأمور يدفعه للحفاظ عليها وتنميتها قدر ما يستطيع.

 

وإن أعظم ما يملكه الإنسان هي نفسه التي بين جنبيه، والتي هي أساس صلاحه أو فساده، ومصدر سعادته أو شقائه فإذا صلحت النفس انعكس ذلك على اطمئنان قلبه، وسعة صدره، وهناء عيشه وإذا فسدت النفس انعكس ذلك على وحشة قلبه، وضيق صدره، وشقاء عيشه قالَ قَتادةُ في تفسير قولِه -تعالى-: (وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)[الكهف: 28]: "أضاعَ نفْسَهُ وغَبَنَ، ومَعَ ذلك تراهُ حافِظاً لمالِهِ مُضَيِّعاً لدينِهِ".

 

عباد الله: في سورة الشمس كرر الله القسم وأكده؛ لتقرير حقيقة واحدة، فأقسم -سبحانه- بأحد عشر قسما فقال -سبحانه-: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)[الشمس: 1 - 10].

 

فهذه النفس ألهمها اللهُ الفجورَ والتقوى، فهي مزدوجة الطبيعة فيها مكامنُ الخير ومكامنُ الشر، وفيها استعداداتُ الهدى واستعداداتُ الضلال والإنسانُ بما ءاتاه الله من عقل يقرر إلى الطريقين يسير، وإلى أي السبيلين يتجه.

 

وتزكية النفس تدور معانيها حول التطهيرِ والنماء، فمن زكى نفسَه بأن نمَّى فيها استعداداتِ الخير، وطهرها من نتوءاتِ الشر؛ فقد أفلح كلَّ الفلاح (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا)[الشمس: 9] ومن أهملها حتى انغمست في أوحال الشر، وخمدت فيها استعداداتُ الخير؛ فقد خاب كل الخيبة (وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)[الشمس: 10].

 

والإنسان بصيرٌ بنفسه، عالمٌ بأحوالها وأسرارها؛ ولذلك سيكون مسؤولا عنها، محاسب عما عمل تجاهها، قال -سبحانه-: (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ)[القيامة: 14، 15] فالتبعة يوم القيامة فردية، ولن ينقذَك في ذلك اليوم إلا ما كسبت نفسُك، قال -سبحانه-: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ)[المدثر: 38، 39]؛ أي: كل نفس مأخوذة بأعمالها، إما أن توبقها سيئاتها، أو تخلصها حسناتها’ إلا أصحاب اليمين فإن الله يتجاوز عن ذنوبهم ولا يؤاخذهم بها.

 

ولأهمية التزكيةِ ومركزيتِها في دين الإسلام، كانت من المهام الكبرى والوظائف الرئيسية لبعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- كما قال -سبحانه-: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[آل عمران: 164].

 

وحين عمل النبي -صلى الله عليه وسلم- على هذه المهمة الجليلة، فزكى نفوسَ أصحابه، نقلهم تلك النُّقلةَ النوعية، من ظلام الجاهلية إلى نور الإسلام، ومن دركات الرذيلة إلى درجات الفضيلة، ومن ضيق الجهل والتخلف إلى دروب العلم والحضارة طهرهم -صلى الله عليه وسلم- من الأخلاق الذميمة والعصبيات القومية والتقاليد البالية، ثم رباهم على محاسن الأخلاق وتنمية العقل وعلوّ الهمة؛ فكانت النتيجةُ أن قادوا العالم فأصلحوا الدينَ والدنيا، ونالوا رفعةَ الدارين.

 

زكى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أبابكر، فبعد أن كان شابا خامدا في مكة، أصبح وزيراً لخير البشر، ثم صار أهمَّ شخصية في العالم وأعظمَها أثرا بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

 

زكى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عمر، فبعد أن كان يتطايرُ شررُه على الإسلام وأهله، أصبح فاروقاً يفرق الله به بين الحق والباطل، تفرّ منه رؤوس الشر، وينشر الخيرَ والعدلَ في أقطار الأرض.

 

زكى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مصعبَ بن عمير، فبعد أن كان غلاما مترفا غايةُ همه اللبسُ الفاخرُ والعطرُ الفواح، أصبح سفيرا للخير، فتح المدينةَ بالقرآنِ وأدخل أهلَها في الإسلام.

 

كل ذلك كان من ثمراتِ التزكية النبوية المباركة، التي استمدت بركتَها من الوحي الإلهي الذي حفظه الله لنا؛ لننهلَ مما نهلوا، ونتعلمَ مما تعلموا.

 

فإن استقر لديك أهميةُ تزكية النفس لصلاحِ الدين والدنيا، فإليك بعض الخطواتِ التي تسلكُها لتعملَ على تزكيةِ نفسِك التي هي رأسُ مالِك وأعزُّ ممتلكاتِك:

أولا: تذكر أن أعلمَ أحدٍ بما يصلح نفسَك هو اللهُ الذي خلقها، قال -سبحانه-: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)[الملك: 14]، وقد دلك -سبحانه- في شرعه على كل ما فيه صلاحُ نفسك أو فسادُها، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّه لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إلَّا كانَ حَقًّا عليه أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ علَى خَيْرِ ما يَعْلَمُهُ لهمْ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ ما يَعْلَمُهُ لهمْ" فبالاتباع لشرع الله تترقى النفسُ في معالي الخير، وتسلكُ سبيلَ الاطمئنانِ والسعادة وبمخالفة شرع الله تنتكسُ النفس ويتسلطُ عليها شياطين الإنس والجن، فتُصاب بأدواء الحيرة والاضطراب والضيق والوحشة.

 

ثانيا: حتى تزكي نفسك لا بد أن تحاسبَها، بأن تتعرفَ على عيوبها، وتدركَ مداخل الشيطان عليها قال عمر -رضي الله عنه-: "حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا؛ فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ فِي الْحِسَابِ غَدًا، أَنْ تُحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ".

 

وقد أقسم الله -سبحانه- بالنفس اللوامة التي تلوم نفسها وتحاسبها على التقصير فقال -سبحانه-: (وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)[القيامة: 2]، قال الحسن في تفسير هذه الآية: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ -وَاللَّهِ- مَا نَرَاهُ إِلَّا يَلُومُ نَفْسَهُ: مَا أَرَدْتُ بِكَلِمَتِي؟ مَا أَرَدْتُ بِأَكْلَتِي؟ مَا أَرَدْتُ بِحَدِيثِ نَفْسِي؟ وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَمْضِي قُدُما مَا يُعَاتِبُ نَفْسَهُ." وقال ميمون بن مهران: "لا يكونُ العبدُ تقيّاً حتى يكونَ لنفسهِ أشدَّ محاسبةً مِن الشَّريكِ لشريكهِ؛ ولهذا قيلَ: النَّفْسُ كالشَّريكِ الخوَّانِ، إنْ لم تُحاسِبْهُ ذَهَبَ بمالِك".

 

ثالثا: بعد أن تحاسبَ نفسك ستتعرفُ على عيوبِها ونِقاطِ ضعفها وما جرَّته عليك من السيئاتِ والذنوب، فتعملَ على محوِ تلك الذنوب بالاستغفار، وإصلاح تلك العيوب بالتوبةِ الصادقة؛ فالتوبةُ تزيل الرانَ الذي على القلب، وتغسلُ سوادَه، فتظلُّ النفسُ طاهرةً نقيةً بصيرة والتوبة هي وظيفة العمر، فما دام ابنُ آدمَ خُلِقَ خطاءً يتكررُ خطؤه، فهو محتاجٌ إلى التوبة الدائمة؛ لتكون النفسُ طاهرةً على الدوام قال -صلى الله عليه وسلم-: "يا أيُّها النَّاسُ! توبوا إلى اللهِ واستغفِروه؛ فإنِّي أتوبُ إلى اللهِ وأستغفِرُه في كلِّ يومٍ مِئةَ مَرَّةٍ".

 

رابعا: وحين تحاسبُ نفسَك فإنك ستتعرفُ أيضا على نِقاطِ قوتها واستعداداتِ الخير فيها، فتُتْبِعَ ذلك بشكرِ اللهِ ومزيدِ استثمارٍ لنِقاطِ القوة فإن فتح الله عليك بابَ العلم تعمل لتزدادَ منه، وإن فتحَ عليك بابَ العبادة تقبل عليها أكثر، وإن فتحَ عليك بابَ الإحسان إلى الناس تسرع السير في هذا الطريق؛ وبذلك تزداد من العمل الصالح فتزكو النفس وتنمو وتعلو درجاتها.

 

وحين تفعل ذلك فهنيئا لتلك النفس حين تنادى ويقال لها: (يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي)[الفجر: 27 - 30].

 

أَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وخَطِيئَةٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وتُوبُوا إليهِ؛ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد: لا زلنا في خطوات مجاهدة النفس وقد وصلنا عند خامس الخطوات: وهي مجاهدة النفس، ففي طريق تزكية النفس ستجدُ العديدَ من العوائقِ التي تحاول أن تعيقَك عن الاستمرار، وتصدَّك عن السبيل، فالشيطان قاعدٌ يريد أن يحرفَك عن الصراط، وأهواءُ النفسِ تجذبُك إلى شهواتِها المحرمة ولذّاتِها الفانية، والبيئةُ من حولك وجلساءُ السوء يثبطونك عن الجد والترقي في معالي الأمور.

 

والحلُّ مع كل هذه العوائقِ هو مجاهدتُها وعدمُ طاعتها والصبرُ على مشقة مخالفتها فـقد حُفَّتِ الجنةُ بمكاره النفس، وحفت النار بشهواتها؛ ولذا كان جهادُ النفس من أعظم الجهاد، فليس المجاهد هو من يقاتل الكفار فقط، قال -صلى الله عليه وسلم-: "والمجاهدُ من جاهدَ نفسَهُ في طاعةِ اللَّهِ -تعالى-".

 

وجهادك لنفسك هذا مع ما فيه من المشقة، إلا إنه عائدٌ إلى راحتها وسعادتها، كما تتجرعُ الدواءَ المرّ ليذوقَ جسدُك بعده العافية، قال -سبحانه-: (وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)[العنكبوت: 6].

 

والمجاهدة هي بوابةُ الهداية فاسلك السبيل لتدخل الباب والله سيكون معك بمعونته وتسديده أولا وآخرا، قال -سبحانه-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)[العنكبوت: 69].

 

وآخر الخطوات التي نذكرها وقد تكون هي أهم الخطوات: دعاءُ الله -سبحانه-؛ فالله هو الذي يملك نفسَك، ويهديها إلى فجورها أو تقواها، فإذا دعوتَ الله فقد سلكتَ أعظمَ الوسائل، وتسلحتَ على أعداءِ نفسك بأقوى الأسلحة، وقد كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَن زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا".

 

وبالدعاءِ تستعيذُ بالله وتلتجئُ إليه من أعداء نفسك الذين يريدون منها الشر فتستعيذ بالله من نوازع الشر الكامنة في النفس ومن شياطين الجن والإنس، كما كان يقول -صلى الله عليه وسلم-: "أعوذُ بك من شرِّ نفسي، ومن شرِّ الشيطانِ وشِرْكِهِ"، وكان يقول: "اللَّهُمَّ قِني شرَّ نفسي".

 

فاللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر نفوسنا اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

 

 

المرفقات

قد أفلح من زكاها.pdf

قد أفلح من زكاها.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات