قتل أبي رافع

ناصر بن محمد الأحمد

2013-05-15 - 1434/07/05
عناصر الخطبة
1/ مقتل كعب بن الأشرف 2/ تصرفات الأوس والخزرج قبل الإسلام 3/ شدة إيذاء أبي رافع اليهودي للمسلمين 4/ قتل أبي رافع 5/ ضرورة نسبة الفضل كله لله 6/ لكل محارب لدين الله خاتمة سيئة

اقتباس

إن لكل محارب لدين الله نهاية، إن لكل عدو لله ورسوله خاتمة سيئة، إما في الدنيا وإما في الآخرة. إن الله يمهل ولا يهمل. فهناك من يحارب الله ورسوله، تكون نهايتهم كأمثال كعب بن الأشرف وأبي رافع، وهناك من المحاربين لله ورسوله، من تكون نهايتهم الهلاك بالغرق كفرعون، وهناك من...

 

 

 

 

 

إن الحمد لله..

 

أما بعد: كان حديثي إليكم في الجمعة الماضية عن حادثة من حوادث غدر اليهود، تمثلت في مقتل زعيم من زعمائهم وهو كعب بن الأشرف، ذلك اليهودي الذي آذى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وذكرت هناك أنه كان يحرّض مشركي مكة على قتال النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب إلى مكة بنفسه عندما أغاظه خبر انتصار المسلمين يوم بدر. وتعلق هناك بأستار الكعبة وتحالف معهم، للوقيعة بالرسول صلى الله عليه وسلم.

 

ويكون بصنيعه هذا قد أعلن الحرب على المسلمين ثم عاد إلى المدينة، وصار يقول الأشعار يتغزل بنساء المسلمين، ولم يسلم من شعره أحد، حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم. عندها أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، فشكلت على إثرها فرقة، للتخلص من هذا اليهودي، وإراحة المجتمع المسلم من شره، فحصل ما حصل مما سمعتموه في الأسبوع الماضي تفصيلاً.

 

أيها المسلمون: لم يكن كعب هو اليهودي الوحيد المحارب لله ورسوله بل كان هناك غيره، ممن أعلن الحرب أيضًا، وخانوا وغدروا بكل المواثيق التي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينهم. وقلنا هناك بأن العقد قد انقطع، والذي تسبب في قطعه هم اليهود، فسقطت أول خرزة منه، فكان رأس كعب بن الأشرف.

 

وها هي قصة أخرى، في قطع خرزة أخرى، رجل يهودي آخر، لا يقلّ خبثًا ومكرًا عن كعب هو: أبو رافع سلاّم بن أبي الحُقيق اليهودي، وكان في حصن له بعيد عن المدينة بالقرب من خيبر من أرض الحجاز.

 

قال الزهري: عن كعب بن مالك قال: كان مما صَنَعَ الله لرسوله صلى الله عليه وسلم. أن الأوس والخزرج كانا يتصاولان تصاول الفحلين، لا تصنع الأوس شيئًا إلا قالت الخزرج: والله لا تذهبون بهذه فضلاً علينا، وكذلك كان الأوس، لا تفعل الخزرج شيئًا حتى يفعلون مثله.

 

كانت تصرفات الأوس والخزرج قبل دخولهم في الإسلام، تمثل صورة من صور أخلاق العرب الجاهلية. تنافس على أدنى شيء وأحقره. وحروب تقوم بينهم من أجل ناقة، أو شبر من أرض، وتسفكُ في سبيل ذلك دماء، وتزهق أرواح، وتفنى أموال ورجال.

 

علم اليهود هذه الأشياء التي كان يتصف بها الجاهليون من العرب، فاستغلوها وفرقوا بينهم كما يفعلون الآن تمامًا، ببعض الكيانات الموجودة وتحالفت كل طائفة من اليهود مع طائفة من العرب فتحالفت بنو النضير وبنو قريظة وكلهم يهود مع الأوس. وتحالفت بنو قينقاع مع الخزرج. واليهود بمكرهم وخبثهم أقاموا بين هاتين القبيلتين من العرب حروبًا طاحنة قضت على الأخضر واليابس، وكان آخرها يوم بعاث، يوم شديد، هلك فيه جماعة كبيرة من الأوس والخزرج بتدبير يهود.

 

أيها المسلمون: جاء الله بهذا الإسلام، وأرسل رسوله صلى الله عليه وسلم، هاديًا ومبشرًا ونذيرا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرا. ودخل الأوس والخزرج في الإسلام وزال من قلوبهم ذلك التنافس والحسد لبعضهم البعض، ووجهوا تلك الطاقات التي كانت عندهم لخدمة هذا الدين، وتنبّه الأوس والخزرج لعمل يهود، بعد مجيء النبي الكريم صلوات ربي وسلامه عليه وأصبح ذلك التنافس بينهم، والذي كان فيما مضى في أمور جاهلية، صار في سبيل هذا الدين، وفي مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين: 26].

 

فلما قُتل الأوس كعب بن الأشرف، قالت الخزرج: والله لا تذهبون بفضل هذه علينا أبدًا. فتذاكر الخزرج من رجلٌ له من العداوة لله ولرسوله كما كان لكعب بن الأشرف؟ فما وجدوا إلا ذلك اليهودي أبي رافع سلاّم بن أبي الحُقيق.

 

فذهب الخزرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: إئذن لنا في قتل أبي رافع، فأذن لهم في قتله. روى البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي رافع اليهودي رجالاً من الأنصار، وهم من الخزرج، فأمرّ عليهم عبد الله بن عَتِيك، وكان أبو رافع اليهودي يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُعين عليه.

 

قال عروة: كان ممن أعان غطفان ومشركي العرب بالمال الكثير على رسول الله صلى الله عليه وسلم.كان يذهب إلى غطفان ويقول لهم، تعالوا نقاتل محمد، فيقولون لا مال عندنا ولا زاد، فيقول: أنا أتكفل بهذا كله لكم. ثم يذهب إلى مشركي مكة ويقول لهم تعالوا إلى محمد، إنكم أولى بأس وقوة. ثم تتركون هذا الرجل. وكان هذا اليهودي له اليد الطولى في جمع الأحزاب في غزوة الخندق. فهو الذي جمع كل المشركين، وجاء بهم صوب النبي صلى الله عليه وسلم. يتمنى هزيمتهم والقضاء على المسلمين. وهو الذي أغرى بني قريظة بأن يخونوا المواثيق والعهود مع النبي صلى الله عليه وسلم. هذا هو أبو رافع وهذه بعض إنجازاته.

 

عندها شُكلت فرقة بقيادة عبد الله بن عتيك ومعه عبد الله بن عتبة، وعبد الله بن أُنيس كلهم عبادلة وانطلقوا من المدينة قبل غروب الشمس يريدون قتل عدو الله. وكان أبو رافع في حصن له بأرض الحجاز بالقرب من خيبر، فلما دنوا منه وقد غربت الشمس، وراح الناس بمواشيهم ودوابهم وأدخلوها إلى حصونهم وعادوا من الرعي، فقال عبد الله بن عتيك لأصحابه رضي الله عنهم، اجلسوا مكانكم فإني منطلق ومتلطّف للبواب لعلّي أن أدخل، فأقبل عبد الله حتى دنا من الباب، وههنا فقد بعض اليهود من أهل الحصن حمارًا لهم. قال عبد الله، وكان قريبًا من باب الحصن، فخرجوا بقبسٍ وهذا بعد غروب الشمس يطلبون ذلك الحمار.

 

قال عبد الله فخشيت أن أُعرف قال فغطيب رأسي كأني أقضي حاجة ووجد اليهود حمارهم فعادوا إلى حصنهم ثم نادى البواب: من أراد أن يدخل فليدخل، فهتف البواب بعبد الله يحسبه منهم، إن كنت تريد أن تدخل فادخل، فإني أريد أن أغلق الباب. فقام عبد الله ودخل حصن اليهود، ثم نظر في الداخل يريد مكانًا آمنًا له يختبئ فيه، فوجد مربط حمارٍ عند باب الحصن فاختبأ فيه. ولما دخل الناس من اليهود لحظ عبد الله أين سيضع البواب المفاتيح التي للحصن، فانتهز فرصة فقام فأخذها وفتح أبواب الحصن من الداخل.

 

وعندها تمكن عبد الله من كل منافذ الحصن وأبوابه. إذ إن كل المفاتيح معه، بقي عبد الله في مخبأه حتى هدأت الأصوات ولم يسمع حركة فخرج وكانت ليلة مقمرة، وصار يغلق أبواب بيوت اليهود من الخارج. حتى وصل إلى بيت أبي رافع وكانت بيته في مكان مرتفع لا يوصل إليها إلا بسلم ودرج، فسمع عبد الله صوت أبي رافع وكان يسمر مع عدد من أصحابه يخططون ويمكرون ويتشاورون في أمر المسلمين، وكيف يتخلصون منهم.

 

فجلس عبد الله في مكان لا يرونه ينتظر، يقول: فتحدث أصحابه معه حتى ذهبت ساعة من الليل ثم رجعوا إلى بيوتهم، فلما ذهب عنه أهل سمرة، صعدت إليه، فجعلت كلما فتحت بابًا أغلقت عليّ من الداخل، يقول: حتى إن القوم إذا علموا بي يتأخر وصولهم إليّ حتى أقتله. صعد عبد الله السلم، فلما جاء عند باب دار أبي رافع، حاول فتح الباب فوجده مغلقًا، فتكلم بلسان اليهود، وكان يجيدها، فقال لامرأة أبي رافع: افتحي الباب. قالت: من أنت؟ وأبو رافع كان يغطّ في نومه.

 

فقال عبد الله بن عتيك، جئت أبا رافع بهدية. فتحت المرأة له الباب، فدخل فوجد البيت مظلمًا وقد طفئ سراجه، يقول، فلم أدر أين الرجل يقول: فناديت أبا رافع، فتنبه وقال من هذا؟ وكان عبد الله يريد أن يعرف مكانه تمامًا، يخشى أن يقتل غيره من صبيانه أو بناته، فلهذا ناداه حتى يحدد مكانه ويعرف مصدر الصوت. فلما ناداه استيقظ أبو رافع، تأكد عبد الله من موقعه، انطلق نحوه، وضربه ضربة بالسيف، فدُهش الذي كفر، لكن سيف عبد الله لم تصب الهدف تمامًا، فلم تقتله، فصاح أبو رافع، وفشلت المحاولة. يقول عبد الله، فخرجت من البيت، فمكثت غير بعيد، ثم رجعت إليه مرة أخرى، كأني أحد أصحابه جئت لأغيثه. يقول فغيّرت صوتي فقلت: مالك يا أبا رافع؟ فقالت زوجته، هذا صوت عبد الله بن عتيك، وكانت أنبه منه فقال لها، وأين عبد الله لقد هرب.

 

فقال أبو رافع: فهذا الذي يظنه سيغيثه، إن رجلاً في البيت ضربني بالسيف.

 

يقول عبد الله، فانطلقت نحوه، فغمدت إليه بضربة أخرى أثخنته ولكن لم تقتله أيضًا عندها صاحت المرأة، قال عبد الله فرفعت السيف عليها، فتذكرت نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء، فتركتها، ثم رجعت إلى عدو الله، فوضعت السيف في بطنه حتى خرج من ظهره، فسمعت صوت العظم، فعرفت أني قتلته، نجح عبد الله رضي الله عنه، في هذه المرة، وأراح المسلمين من مجرم آخر كان له دور بارز في الأذية والإفساد.

 

اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأرحنا منه، اللهم من كاد للإسلام والمسلمين، فاجعل اللهم كيده في نحره، وتدبيره تدميرًا عليه.. اللهم عليك بأعداء دينك، الذين آذوا الله ورسوله. يارب العالمين. اللهم عليك باليهود، وأعوانهم وأشياعهم اللهم وطهر المسجد الأقصى من دنسهم واجعلهم عبرة للأولين والآخرين.

 

أقول هذا القول.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله..

 

أما بعد: يقول عبد الله بن عتيك رضي الله عنه. وقد تأكد بأن عدو الله قد هلك، يقول فخرجت مسرعًا من داره فجعلت أفتح الأبواب، بابًا بابًا، حتى أتيت السُلّم، فوضعت رجلي وأنا أظن أني قد انتهيت إلى الأرض، فوقعت فانكسرت ساقي، فعصبتها بعمامة، وقد ذكر ابن اسحاق رحمه الله أن عبد الله بن عتيك كان ضعيف البصر.

 

وفي رواية عند البخاري : فانخلقت رجلي، انطلق رضي الله عنه حتى جلس عند باب الحصن وهو يعرج من ساقه، لكن مع ذلك لم يخرج رضي الله عنه، أتدرون لماذا؟ يقول: لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته أم لا؟ يريد أن يتأكد 100% أنه قد أفنى عدو الله، وإن أمسك به اليهود وقتلوه، لا يهم. وههنا خرج اليهود من دورهم التي أغلقها عليهم عبد الله بن عتيك وأوقدوا النيران، وذهبوا في كل جهة يطلبون عبد الله، وهو بالقرب منهم، فلما أيسوا منه رجعوا إلى صاحبهم أبي رافع فوجدوه قد مات وهلك.

 

خرج عبد الله من الحصن وهو يعرج، فوصل إلى أصحابه وقال لهم، انطلقوا فبشروا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإني لا أبرح مكاني هذا حتى أسمع الناعية. فلما كان في وجه الصبح صعد الناعي على السور، وعبد الله بن عتيك ينظر إليه من خارج الحصن، فقال الناعي: أنعي أبا رافع تاجر أهل الحجاز، قال عبد الله، فقمت بعدها أمشي فأدركت أصحابي قبل أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت النجاء النجاء، فقد قتل الله أبا رافع.

 

تأمل: قتل الله أبا رافع. لم ينسب القتل لنفسه، ولم ينسب هذا الإنجاز لنفسه مع أنه إنجاز عظيم وجهد غير قليل بذله عبد الله، وعرّض نفسه لمخاطر ومهالك، تضحية في سبيل الدين مابعدها تضحية. ومع ذلك، نسب الفضل لله عز وجل.

 

فهل نستفيد من هذا الدرس. وكل عمل نقوم به للإسلام نقول بأنه من الله. ونحتقر أنفسنا وذواتنا وشخصنا. أما أولئك الذين لا يقدمون شيئًا أصلاً ثم ينسبون ذلك كل الطاقات. ليقنعوا الناس بأن هذه إنجازات فلان فقط. فلان لوحده. فهذا الصنف لا حديث لنا معهم.

 

 فرأى النبي عليه السلام رجل عبد الله وساقه مكسورة فقال له: " ابسط رجلك" يقول فبسطت رجلي فمسحها، فكأنها لم أشتكها قط،  ولما ظهر أمر قتله، قام حسان بن ثابت رضي الله عنه، شاعر الإسلام فقال:

 

لله در عصابة لاقيتهم *** يا ابن الحُقيق وأنت يا ابن الأشرف

يسرون بالبيض الخفاف إليكم *** مرحًا كأُسد في عرين مُغرّف

حتى أتوكم في محل بيوتكم *** فسقوكم حتفًا ببيضٍ ذُفَّفِ

مستنصرين لنصر دين نبيهم *** مستصغرين لكل أمرٍ مُجحِفِ

 

أيها المسلمون: إن الله جل وتعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته. وإن لكل محارب لدين الله نهاية، إن لكل عدو لله ورسوله، خاتمة سيئة، إما في الدنيا وإما في الآخرة. إن الله يمهل ولا يهمل. فهناك من يحارب الله ورسوله، تكون نهايتهم كأمثال كعب بن الأشرف وأبي رافع، وهناك من المحاربين لله ورسوله، من تكون نهايتهم الهلاك بالغرق كفرعون، وهناك من يبتليه الله بمرض في آخر عمره، يجعله يبتلى بنفسه، لا يحرك ساكنًا، وهناك من يموت غمًا وهمًا.

 

وهناك من يبقى إلى آخر عمره، وهو معادٍ لدين الله، لا يحصل له شيء، لكن المولى يجمع له ذلك كله ليوم القيامة، ليزداد عليه العذاب والمحاسبة. وهناك وهناك، وفي كل ذلك حكم لله عز وجل هو أعلم بها. لكن الذي يهمنا من ذلك كله، أن هذا دين الله، وأن هؤلاء وأولئك محاربين لدين الله، والله سيتولى أمرهم كل بما يناسبه، وفي النهاية سيكون النصر والتمكين لدينه وأوليائه، وستكون الحسرة والندامة والخزي، لأعدائه.

 

اللهم استعملنا في طاعتك ولا تستعملنا في معصيتك. اللهم آمنا في أوطاننا.

اللهم صل على محمد.

 

 

 

 

 

المرفقات

أبي رافع

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات