قانون الالتفاف والانفضاض

عقيل بن محمد المقطري

2022-10-04 - 1444/03/08
عناصر الخطبة
1/ قانون الالتفاف والانفضاض 2/ طبع الرسل عليهم السلام بطابع الرحمة 3/ صفات القائد الحكيم الفذ 4/ الدكتاتورية والانفراد بالقرار 5/ مشاورة الأهل والولد 6/ أهل الشورى في الإسلام 7/ التوكل والأخذ بالأسباب 8/ فوائد الشورى 9/ الرحمة خلق عظيم

اقتباس

قانون الالتفاف والانفضاض موجود على ظهر هذه الأرض، وسائد ومسيطر في هذه الأرض على مستوى البشرية وعلى مستوى الحيوان، بل وعلى مستوى الطبيعة فحيثما وُجدت الرحمة ووُجدت الليونة ووجدت الحكمة ووجد العدل، فهنا يكون الالتفاف، وحيثما وجدت الغلظة ووجدت القسوة والجفوة وانعدمت الحكمة وبرز الاستئثار يكون الانفضاض ..

 

 

 

 

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب: 70-71].

 

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

يقول الله تعالى في محكم كتابه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران: 159].

هذه الآية -أيها الإخوة- فيها قانون إلهي قل من يتدبره وقل من يعتبر به، إنه قانون يسمى بالالتفاف والانفضاض هذا القانون موجود على ظهر هذه الأرض، وسائد ومسيطر في هذه الأرض على مستوى البشرية وعلى مستوى الحيوان، بل وعلى مستوى الطبيعة فحيثما وُجدت الرحمة ووجدت الليونة ووجدت الحكمة ووجد العدل، فهنا يكون الالتفاف، وحيثما وجدت الغلظة ووجدت القسوة والجفوة وانعدمت الحكمة وبرز الاستئثار يكون الانفضاض.

الرحمة مطلوبة ومحبوبة واللين يرغب الإنسان فيه، والحكمة ضالة الإنسان، والعدل هو ما ينشده هذا الإنسان، والقسوة والجفوة والغلظة تنفر منها الطباع حتى طباع الحيوانات تنفر من هذه السلوكيات، ومن هذه الأخلاقيات ولهذا كان اصطفاء الله تعالى لأنبيائه بأن طبع فيهم هذه الصفات وجبلهم عليها. قال سبحانه وتعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم..) أي بسبب رحمة من الله، وبسبب ما زرع الله في قلبك من الرحمة واللين، والرفق والمحبة والمودة والحكمة والعدل لنت لهم؛ لأنك تقابل من هو جافي الطباع وتقابل منهم من هو سيء الخلق، ألا نتذكر أولئك الذين كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانوا يجذبونه جذباً شديداً، ويقولون له: أعطنا من مال الله، ليس من مالك ولا مال أبيك، وهكذا كانوا يضطرونه إلى أضيق الطرق يؤذونه في عرضه وفي نفسه، ومع هذا كان في غاية الليونة لهم، (فبما رحمة من الله لنت لهم) برحمة الله لنت لهؤلاء الأعراب القساة الجفاة الذين اتصفوا بالغلظة والقسوة.

والليونة هي رقة القلب وحسن الطباع، وحسن التعامل مع من يجفوا معك، ما أحسنه من خلق حينما يواجه الإنسان هذه القسوة وهذه الجفوة وسوء الخلق يواجهها باللين! (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً) أي قاسياً جافياً غليظ القلب قاسي لا يتأثر بمن حوله ينظر إلى الجياع وإلى المعوزين وينظر إلى المدمرين وينظر إلى حاجة الناس وينظر إلى الجرحى ينظر إلى المرضى ينظر إلى الدماء ينظر إلى الأشلاء فلا يتأثر قلبه.

(ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) هنا يأتي طرف القانون الآخر وهو الانفضاض عن كل من كان متصفاً بالغلظة والقسوة والجفوة أياً كان حاكماً أو محكوماً، صغيراً أو كبيراً، غنياً أو فقيراً، حيواناً أو إنساناً حتى الطبيعة الأنفس تنفر من الطبيعة الجافية تنفر من الأماكن الحارة، الأماكن التي فيها جفاف، الأماكن التي فيها زلازل التي فيها براكين تنفر الطباع منها؛ لأنها جافية فتنفر الطباع منها، ألا ترى أن كثيراً من الحيوانات تنفر من الحيوان الجلف من الحيوان القاسي من الحيوان الباطش من الحيوان الكاسر تنفر منه فلا تخالطه وتنبذه، فكيف بإنسان فيه قلب وفيه مثل هذه الصفات يحب الرحمة ويحب الود ويحب الحكمة ويحب العدل ونشد الحرية وغير ذلك.

إن هذا الأمر -أي قانون الالتفاف والانفضاض- في الإنسان يتجلى أكثر من غيره وإن كان قاسماً مشتركاً، ولهذا فإن الله تعالى امتن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وامتن على الأنبياء جميعاً وامتن على الحكماء الذين سجل التأريخ صفحات من نور بأنهم كانوا هكذا كانوا أصحاب قلوب رحيمة: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم) أي اعف عن قسوتهم إن بدرت منهم وهذا نتيجة للرحمة فإن النفوس البشرية لا تستوي في طباعها، فعليك أن تتعامل مع الناس بالرحمة وتتعامل معهم على أن هذه طباع منهم، يمكن للواحد منهم أن يعتذر ويمكن للواحد منهم أن يندم على مثل هذا الطبع الذي بدر منه، وربما أتى ليعتذر بعد ذلك نتيجة سوء خلفه معك، ولعله يكون سبباً في هدايته واستقامته وسبباً في أن تكون من أحب الناس إليه.

هذا عمرو بن العاص رضي الله عنه كان يقول: "ما كان وجه أبغض إلىّ من وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم"، ولكنه بعد أن أسلم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: "يا رسول الله، ما كان دين على ظهر الأرض أبغض إلى من دينك وإنه الآن أحب الأديان إلىّ" بسبب ماذا ؟ حسن التعامل رقته رحمته، "وما كان وجه أقبح إلىّ من وجهك، ولوجهك الآن أحب إلىّ من كل الوجوه" حتى أنه ما كان يحد النظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: "والله لو قلتم لي صف لنا وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما استطعت، من كثرة استحيائي منه أن أحدّ النظر في وجه، ولكني كنت كثيراً ما أطرق وجهي على الأرض".

(ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم) استغفر لهم لسوء أخلاقهم عسى الله أن يغفر لهم، والدعاء هنا من الرحمة أي ادع لهم اطلب لهم المغفرة على سوء خلقهم وسوء معاملتهم معك أيها القائد أيها الحكيم أيها العظيم. كيف يتعاملون معك بهذه القسوة وبهذه الجفوة وبهذه الغلظة؟ لكن من رحمتك التي طبع الله في قلبك استغفر لهم، ادع لهم هذه هي صفات القائد الحكيم الفذ الذي لا يمكن أن يولد في البشرية مثلها إطلاقاً ما استطاع أحد حتى من أنبياء الله تعالى عليهم الصلاة والسلام، وهذا من رحمة الله تعالى بنبينا صلى الله عليه آله وسلم أن يقيم دولة وأقامها رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المدة البسيطة خلال ثلاثة وعشرين عامًا أقام صلى الله عليه وآله وسلم دولة الإسلام التي امتدت بعد ذلك إلى مشارق الأرض ومغاربها.

(فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر)، خذ آراءهم، تلمس حاجاتهم، ماذا يريدون مما يشتكون، شاورهم في سياسة الدنيا، شاورهم في الحروب، شاورهم في اتخاذ القرار، وهذه الصفة كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما كان بحاجة إليها بحال من الأحوال كما قال كثير من المفسرين: ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحاجة إلى التشاور، فالله تعالى هو الذي يوجّهه وهو الذي يرشده إلى الصواب، ولكن أراد الله تعالى- أن يتعلم الناس منه هذه الصفة، وليست الشورى صفة في القائد أو الحاكم فحسب بل تمتد حتى إلى الأُسر، فالدكتاتورية وأحادية القرار في البيت أمر مرفوض لا بد من التشاور ولا بد من أخذ الرأي، فربما كان الرأي الحكيم الرشيد أحياناً عند المرأة وليس صحيحاً أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "شاوروهن وخالفوهن"، فهذا أمر باطل، بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم شاور إحدى زوجاته في غزوة الحديبية حينما دخل مغضباً حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «قوموا فانحروا ثم احلقوا» قال: فو الله ما قام منهم رجل حتى قالها ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد، قام فدخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس قالت أم سلمة: "يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم بكلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فقام فخرج فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضًا حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غمًّا" قالت: تريد أن يطيعوك قال: نعم قالت: اخرج فاحلق رأسك، وانحر هديك، وسوف يتابعونك، فأخذ برأيها وخرج فحلق رأسه ونحر هديه فإذا بالناس يتوافدون وإذا بالناس يكادون يقتتلون مسارعة تأسياً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

والشورى كما يقول ابن عطية أمر لازم وأمر حتم، وأي حاكم لا يشاور أهل الديانة وأهل الحكمة والكياسة وأهل التجربة والخبرة، فإنه يعزل لماذا؟ لأنه صار دكتاتوراً صار يتخذ الفرارات التي ربما تكون خاطئة ويعود ضررها على الأمة برمتها، فإن هذا لا ينبئ عن عقل هذا الحاكم ولا عن فطنته ولا عن محبته ولا عن رحمته بأمته وشعبه. يقول: عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: "إني لأجد صفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة، إنه ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزئ بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح".

(فإذا عزمت) أي بعد اتخاذ الشورى وبعد إنضاج القرار فإذا عزمت على أمر فتوكل على الله ولا يقصد به التواكل، وإنما المقصود به التوكل على الله تعالى في إمضاء هذا الأمر مع إعمال الأسباب، فإن الأمور لا تجري بغير أسبابها، ولا يجوز للإنسان أن يتكل على هذه الأسباب، بل إن الأسباب يجب أن تكون صحيحة وموصلة للقصد، فمن أراد المال سعى في الأرض واتخذ الأسباب التي توصله للرزق الحلال (…فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [الملك: 15]، فبدأ في السبب المشي في الأرض والضرب في الأرض لتأكل من رزق الله تعالى، خذ الأسباب (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم).

إذا أردتم قمع العدو وأردتم النصر من الله تعالى، فاتخذوا السبب، أما أن تطلب النصر وأنت قاعد تطلب النصر وسلاح عدوك فتاك، وأن تمسك بالسيف عنده الدبابات والطائرات والبارجات والصواريخ وأنت عندك الجمال والحمير والخيول هل هذا من اتخاذ الأسباب؟ هذا أمر مرفوض (فإذا عزمت فتوكل على الله) متخذاً للأسباب في كل أمر من الأمور حتى إن البهائم تعرف هذه السنة البهائم والطيور والأسماك والوحوش لتعرف هذه السنة أنه لابد من اتخاذ الأسباب. يقول صلى الله عليه وآله وسلم: «لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله، لرُزقتم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا»؛ لأنها عملت بالسبب إذاً لا بد من اتخاذ السبب، وإن التواكل منافي للأمر بالشورى لو كان الأمر ليس مأموراً باتخاذ الأسباب فلا معنى للشورى حينئذ.

أيها الإخوة الكرام: الشورى لها فوائد: منها تقدير المستشارين أصحاب الرأي أصحاب الخبرة الذين عركتهم الحياة ولا يمكن أن يكون مستشاراً إلا من كان أيضاً دَيّناً. إذاً تقدير الناس وتقدير المستشارين فلا يصلح أن يكون كل واحد مستشاراً في كل شيء، فلكل تخصص مستشاروه فلا يمكن أن تستشير في جانب الحروب اقتصادياً أو تاجراً ولا يمكن أن تستشير في قضايا الدين وفي قضايا الأحكام إعلامياً، وهلم جرا، فلكل رجاله.

ومن فوائد الشورى أيضاًً: إنضاج وبحث الفكرة والرأي السديد بعد تقليب الأمور فلعل الصواب يكون مأخوذاً من مجموع رأيين أو ثلاثة، وإذا أخذت بجزئية واحدة لا يمكن أن تصل إلى الصواب. ومن فوائد الشورى: اتحاد الناس على مسعى واحد فلا يكون هذا في وادٍ وذاك في واد آخر، وهناك حزب ثالث. ومن فوائد الشورى: اختيار الرأي الأصوب والأقرب إلى الدقة، ومن صفات المستشارين إن كان في الأحكام أن يكون عالمًا ديناً خائفاً يعلم أن الله تعالى يراقبه، ومن صفاتهم أيضاً أن يكون عاقلاً مجرباً محباً للمستشير، والمستشار مؤتمن، فإذا كان مبغضاً فلعله يرشده بما فيه هلاكه.

إن الرحمة -أيها الإخوة- صفة سامية وعظيمة، ولذلك اتصف الله تعالى بها قال سبحانه (… وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [يونس: 107]، هذه من صفات الله تعالى ووصف بها رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ( …بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة : 128]. والغلظة والقسوة والجفوة صفات مذمومة يقول صلى الله عليه وآله وسلم: «أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة، وألين قلوبًا، الإيمان يمانٍ والحكمة يمانية، والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم». هؤلاء الناس اكتسبوا هذه الأخلاق من هذه الخلطة، اكتسبوها من البهائم، ألا ترى أن الغنم بسكينتها ورقتها كيف تسير وإلى الإبل والبقر كيف تسير بهيجان وبتبختر وعندها من الغلظة ما عندها لذلك اكتسب هؤلاء الناس هذه الأخلاق ممن حولهم حتى ربما من الطبيعة التي يعيشون فيها، فصفات أهل الجبال فيها من الغلظة والقسوة والجفوة بينما صفات أهل السواحل فيها من البساطة والرقة والسكينة والليونة، وهلم جرا، ولذلك الرحمة والرقة هذه صفات محمودة ممدوحة والجفوة والقسوة والغلظة صفات مذمومة هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القائد الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم يزور ابن ابنته وروحه تقعقع تكاد تخرج منه فيأخذه إلى حضنه فتدمع عينه صلى الله عليه وآله وسلم أرأيتم رئيساً أو ملكاً أو مسئولاً يرى أبناء بلده في جوع وفي مرض، دماءهم تراق؟! أرأيتم أناس من هؤلاء مقدساتهم تدنس وثرواتهم تنهب أرأيتم تمعراً في وجوههم؟! أرأيتم دمعة تقطر من عيونهم؟! أرأيتم صراخاً من أجل أبناء جلدتهم؟! هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو القائد الأعظم الرحيم الذي هو المثل الأعلى لنا جميعاً الذي كان إذا جاع الناس كان أول الجائعين وإذا شبع الناس كان آخر من يشبع وما شبع صلى الله عليه وآله وسلم يخرج وعلى بطنه الحجر والحجرين من الجوع فيلقى أصحابه وهم كذلك تدمع عينه ويقولون: "يا رسول الله أما كنت تنهانا عن البكاء على الميت؟" فيقول صلى الله عليه وآله وسلم «… هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء». وإنما نهى صلى الله عليه وآله وسلم عن الجزع وعن الفزع وعن التسخط على أقدار الله تعالى.

هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القائد الأعظم يجد مساحة من وقته وجهده ليلعب مع الأطفال وليداعب الأطفال يقول لذاك: يا أبا عمير ما فعل النغير ؟ يمسك بأيدي الإماء والصبايا يمزح معهم، يسلم عليهم، يأتي ابنه ليركب على ظهره وهو ساجد يصلي- صلى الله عليه وآله وسلم يقطع المسافة من أجل أن يزور ابن ابنته صلى الله عليه وآله وسلم يقبل الصغار ويلاطفهم حتى يأتي صاحب القلب الجافي ذلك الأعراب ويقول: تقبلون أبناءكم والله إن لي عشرة ما قبلت أحداً منهم فيقول صلى الله عليه وآله وسلم «… إنه من لا يرحم لا يرحم»

هذا هو القائد الرحيم الأسوة والقدوة صلى الله عليه وآله وسلم الذي خرّج أجيالاً من القادة الذين كان يؤرقهم أمر أمتهم. هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يؤرقه ويخاف أن تعثر بغلة في العراق يخشى أن يسأله الله تعالى: لماذا لم تعبِّد لها الطريق؟ بغلة وليس إنسانًا، ليس شعباً، وكان في عام الرمادة آخر من يطعم وأقل الناس طعاماً هو وأسرته رضي الله تعالى عنه، وهكذا قل في جميع الصحابة.

ذاك عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه- الذي نحل جسمه مع أن بيت مال المسلمين كان مليئاً بالمال فلم يجدوا فقيراً يوزعون عليه صدقاتهم وزكواتهم، ومع هذا كان أنحل الناس، وكان إذا دخل عليه إنسان يتحدث معه بأمور الدنيا أطفأ الشمعة فيقال لماذا ؟ فيقال: إنها من بيت مال المسلمين ليست من مال عمر، فيحدثه بالنفس التي تخاف الله سبحانه وتعالى، إن الرحمة مخلوق من مخلوقات الله تعالى، خلق الله تعالى مائة رحمة فأنزل للأرض رحمة فبها يتراحم الناس، وبها ترفع الدابة حافرها عن ولدها، وادخر عنده سبحانه وتعالى تسع وتسعين رحمة، يرحم بها عباده يوم القيامة سبحان الله ما أكرم الله تعالى، وما أحلم الله وما أرحم الله يوم تأتي هذه الرحمات التي ادخرها ليرحم عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء. أسأل الله تعالى أن يجعلنا من عباده الرحماء، وأسأله تعالى أن يرحمنا رحمة من عنده يغنينا بها عن رحمة من سواه، أقول قولي وأستغفر الله.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد :

أيها الإخوة هذه الآية المباركة التي أوضح الله تعالى فيها هذه الصفة العظيمة من صفات القائد الحكيم صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو قدوة للمسلمين أجمعين صلى الله عليه وآله وسلم، صفة اللين وصفة الرحمة وهي من الصفات الواجب توفرها في كل حاكم أو مسئول أن يكون رحيماً، وأي حاكم يجانب الرحمة فسوف ينفض الناس من حوله وسوف يلفظونه ويبغضونه يقول صلى الله عليه وآله وسلم: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم» قيل: يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: «لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئًا تكرهونه، فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يدًا من طاعة». ولقد دعا صلى الله عليه وآله وسلم لمن يرفق بهذه الأمة ودعا على من لا يرفق بهذه الأمة: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به».

ها نحن نرى في الواقع هذا كيف أن بعضهم لما شق على رعيته شق الله تعالى عليه، بسبب أنه لم يرحم يومًا من الدهر أولئك الناس الذين هم في رقبته وهم في ذمته وسيسأله الله عنهم يوم القيامة، لقد كان صلى الله عليه وآله وسلم عنده من صفات الشرف والعلو فهو نبي وهو من خير الأنساب صلى الله عليه وآله وسلم، ومع هذا كان في غاية التواضع، لقد كان يخصف نعله بيده، ويرقع ثوبه، ويلاعب أهله ويتلطف مع أهله ومع المستضعفين، أين هذه الصفات من حكام اليوم دعا صلى الله عليه وآله وسلم على من لم يجعل في قلبه الرحمة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «خاب عبد وخسر لم يجعل الله تعالى في قلبه رحمة للبشر». خاب وخسر في الدنيا والآخرة.

إن انعدام الرقة والرحمة من القلب ينبئ عن الكبر وعن الأشر والبطر يقول صلى الله عليه وآله وسلم: «ثلاثة لا تسأل عنهم: رجل ينازع الله إزاره، ورجل ينازع الله رداءه، فإن رداءه الكبرياء وإزاره العز ورجل في شك من أمر الله والقنوط من رحمة الله» رواه الطبراني بإسناد صحيح، وانظروا إلى ذلك الأمير الذي أمَّره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أناس فتغاضب معهم لأمر ما فقال: "أليس أمركم النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني"؟ قالوا: بلى، قال: "فاجمعوا لي حطبًا" فجمعوا، فقال: "أوقدوا نارا" فأوقدوها، فقال ادخلوها فهمُّوا وجعل بعضهم يمسك بعضًا، ويقولون فررنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من النار، فما زالوا حتى خمدت النار، فسكن غضبه فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة، الطاعة في المعروف».

أمثال هؤلاء يصلحون أن يكونوا رؤساء، يصلحون أن يكونوا مسئولين يجرعون شعوبهم الغصص، ويجرعون شعوبهم العلقم، وهو في غاية الترفه وحسن المعاش، يصلح هؤلاء أليسوا هؤلاء ممن يجب عليهم أن يقتدوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟! أمثال هؤلاء لا يصلحون أن يكونوا مسئولين بحال من الأحوال، إن الرفق محبوب عند الله ومآله دائماً إلى الخير: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنْزع من شيء إلا شانه». ويقول صلى الله عليه وآله وسلم: «من رحم ولو ذبيحة عصفور رحمه الله يوم القيامة»، دجاجة ليس إنساناً هاهم الناس اليوم يذبحون بالعشرات يومياً في ليبيا ما لا يقل عن ثلاثين ألف قتيل، وخمسين ألف جريح كل هذا لِمَ؟ من أجل أن يبقى على الحكم مئات من الناس في مصر، ومئات من الناس في تونس، وآلاف في اليوم في سوريا، وهكذا أيضاً في اليمن مئات من الناس قتلوا لماذا؟ دماؤهم رخيصة. من رحم ولو ذبيحة عصفور رحمه الله تعالى يوم القيامة.

المؤمن في قلبه الرحمة حتى حينما يمسك السكين ليذبح الشاة، إنه ليحدّها، إنه ليخفيها إنه ليريح ذبيحته، ويذبحها بأمر من الله نهى صلى الله عليه وآله وسلم نهى صلى الله عليه وآله وسلم عن اتخاذ ذات الروح غرضاً أن تطرح طيراً أو دجاجة، وتتخذه غرضاً ترميه، كل هذا رحمة، القتل اليوم سبحان الله من علامات القيامة كثرة الهرج كما أخبر صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى يكثر الهرج»، قالوا: وما الهرج يا رسول الله؟ قال: «القتل القتل». جاءت حمرة يعني حمامة ترف فوق رأس رسول الله صلى عليه وآله وسلم، فعن عن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حمرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها فجاءت الحمرة، فجعلت تفرش، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها» رحمة بها يا أيها الناس.

يا أيها الناس من فزع الأمهات بأبنائهن قتلاً؟! من فزع الآباء بأبنائهم قتلاً؟! من فزع الأبناء بآبائهم قتلاً؟! من فزع الأمهات بأزواجهن قتلاً؟! من فزع النساء بأزواجهن قتلاً؟! ليس حمامة ولا دجاجة، ما هذا القسوة والغلظة في التعامل؟! هذه البلدان التي فيها احتقانات يعاني فيها الناس ولكن مع هذا صابرون محتسبون الأجر عند الله عز وجل بعض الدول، وإن كان فيها الظلم والجور إلا أنها بنت مؤسسات والخدمات لا تنقطع منهم طاغية تونس بالرغم من أنه أفسد وعاث في الأرض فساداً إلا أنه بنى دولته لم تنقطع الخدمات، طاغية مصر كذلك بنى شيئاً من المؤسسات الجيش مؤسسة وطنية انحازت إلى طلب الشعب مؤسسات كلها تعمل ليلاً ونهاراً لم تنقطع الخدمات عنهم انظر إلى ما يحدث إلى ليبيا اليوم مدن بحالها لا ماء ولا كهرباء لا دواء لماذا؟ لأنها عانت من الظلم عقوداً تريد أن تنعتق من هذا الظلم، أين مال ليبيا؟! تفجر بها الأوضاع في الشرق وفي الغرب، ويوزع على رؤساء إفريقيا من أجل أن يعطوه لقب ملك ملوك إفريقيا، وأما الشعب فجائع الشعب مريض الشعب جائع ولذلك يحث مثل ذلك التنكيل.

أيها الإخوة ما أحسن الرفق! وما أبغض الخشونة والعنف! إن الرفق من أفضل نعم الله عز وجل «من يُحرَم الرفق يحرم الخير كله»كما قال صلى الله عليه وآله وسلم. ويقول: صلى الله عليه وآله وسلم: «يا عائشة، إنه من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من خيري الدنيا والآخرة، ومن حُرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من خيري الدنيا والآخرة».

ونختم أيها الناس بهذا الدعاء الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما حديث أنس رضي الله عنه حين قال: لمعاذ: «.. يا معاذ مالي لم أرك»؟ قال: يا رسول الله ليهودي علي أوقية من تبر فخرجت إليك فحبسني عنك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معاذ ألا أعلمك دعاء تدعو به، فلو كان عليك من الدَّيْن مثل جبل صبر أدّاه الله عنك -وصبر جبل باليمن- فادع به يا معاذ، قل: اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء، بيدك الخير إنك على كل شيء قدير، تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل، وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي، وترزق من تشاء بغير حساب، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما تعطي من تشاء منهما، وتعطي من تشاء، ارحمني رحمة تغنيني بها عن رحمة من سواك» اللهم اجعلنا من عبادك الرحماء يا رب العالمين. والحمد لله رب العالمين.
 

 

 

 

 

المرفقات

الالتفاف والانفضاض

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات