عناصر الخطبة
1/ حقيقة التقوى 2/ تقوى الله حيثما كان الإنسان 3/ أحوال السلف مع التقوى 4/ إتباع السيئة الحسنة 5/ مخالقة الناس بالخلق الحسناقتباس
وتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك بفعل طاعته واجتناب معاصيه؛ فالله سبحانه تارة يأمر بتقواه فهو أهل أن يخشى ويهاب ويجل ويعظم في صدور عباده حتى يعبدوه ويطيعوه، وتارة يأمر سبحانه باتقاء النار
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً به وتوحيداً. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً مزيداً.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله واعلموا أن الله عز وجل بعث نبيه محمداً -صلى الله عليه وسلم- بجوامع الكلم، وخصه ببدائع الحكم. فربما جمع أشتات الحكم والعلوم في كلمة أو شطر كلمة. من ذلكم قوله -صلى الله عليه وسلم-: " اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها. وخالق الناس بخلق حسن " رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
فهذا حديث عظيم وجيز الألفاظ جمع فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين حق الله وحقوق العباد. أما حق الله فهو أن يُتَّقى حق تقاته. والله قد أوصى الأولين والآخرين بتقواه كما قال تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131] ومعنى التقوى: أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه.
وتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك بفعل طاعته واجتناب معاصيه؛ فالله سبحانه تارة يأمر بتقواه فهو أهل أن يخشى ويهاب ويجل ويعظم في صدور عباده حتى يعبدوه ويطيعوه، وتارة يأمر سبحانه باتقاء النار كما في قوله تعالى: (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) [البقرة:24] وتارة يأمر سبحانه باتقاء يوم القيامة كما في قوله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281] (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) [البقرة:48]
وإليكم -يا عباد الله- بعض عبارات السلف في توضيح معنى التقوى:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "المتقون الذين يحذرون من الله وعقوبته".
وقال الحسن: "المتقون اتَّقَوا ما حرم الله عليهم، وأدَّوا ما افترض الله عليهم".
وقال عمر بن عبد العزيز: "ليس تقوى الله بصيام النهار ولا بقيام الليل مع التخليط فيما بين ذلك، ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله وأداء ما افترض الله؛ فمن رزق بعد ذلك خيراً فهو خير إلى خير".
وقال طلق بن حبيب: "التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله".
وقال ميمون بن مهران: "المتقي أشد محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح لشريكه".
وقال ابن مسعود: في قوله تعالى:(اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) قال: "أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر".
فالتقوى وصية الله لجميع خلقه ووصية رسوله لأمته، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- إذا بعث أميراً على سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيراً. ولما خطب في حجة الوداع يوم النحر وصى الناس بتقوى الله. ولم يزل السلف الصالح يتواصون بها.
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: " اتق الله حيثما كنت " أي: في السر والعلانية حيث يراه الناس وحيث لا يرونه. ومن علم أن الله مطلع عليه حيثما كان يرى باطنه وظاهره وسره وعلانيته، واستحضر ذلك في خلواته، أوجب له ذلك ترك المعاصي في السر -قال تعالى- (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً).
كتب بعض الصالحين إلى أخ له في الله تعالى: " أما بعد: أوصيك بتقوى الله الذي هو نجيك في سريرتك ورقيبك في علانيتك؛ فاجعل الله من بالك على كل حال في ليلك ونهارك، وخف الله بقدر قربه منك وقدرته عليك، واعلم أنك بعينه لا تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره ولا من ملكه إلى ملك غيره، فليَعْظُم منه حذرُك، وليكثُر منه وجلك والسلام".
ودخل بعضهم في غيضة ذات شجر، فقال: لو خلوتُ ههنا بمعصية من كان يراني؟ فسمع هاتفاً بصوت ملأ الغيضة: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك:14]
فاتقوا الله -أيها المسلمون- في جميع أحوالكم وفي جميع تصرفاتكم. اتق الله -أيها المسلم- في نفسك وفي أهل بيتك وأولادك، واتق الله في عبادة ربك فأدها كما أوجبها عليك، واتق الله في معاملتك ومتجرك فخذ الحلال واترك الحرام، واتق الله في وظيفتك فأد العمل الذي كلفت به على الوجه المطلوب.
ثم لما كان العبد لا بد أن يحصل منه تقصير في حقوق التقوى وواجباتها أمر -صلى الله عليه وسلم- بما يدفع ذلك ويمحوه وهو أن يتبع السيئة الحسنة؛ قال تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) [هود:114] والحسنة اسم جامع لكل ما يقرب إلى الله تعالى.
وأعظم الحسنات الماحية للسيئات التوبة النصوح، والاستغفار والإنابة إلى الله بذكره وحبه وخوفه ورجائه. وقد وصى الله المؤمنين في كتابه بمثل ما وصى به النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران:135] ومعنى قوله ذكروا الله: ذكروا عظمته وشدة بطشه وانتقامه وعقابه على المعصية، فأوجب ذلك لهم الرجوع في الحال والاستغفار وترك المعاصي.
وفي قوله -صلى الله عليه وسلم-: " أتبع السيئة الحسنة " إشارة إلى طلب المبادرة بالتوبة وعدم تأخيرها؛ لأن قبول التوبة مشروط بأن يكون قبل حلول الموت؛ قال تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) [النساء 17: 18] ولا أحد يدري في أي وقت وأي أرض وعلى أي حال يكون أجله، قال تعالى: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) [لقمان:34]
ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: " وخالق الناس بخلق حسن " وهذا من خصال التقوى، ولا تتم التقوى إلا به. وأفرده -صلى الله عليه وسلم- للحاجة إلى بيانه؛ فإن كثيراً من الناس يظن أن التقوى هي القيام بحق الله دون حقوق عباده، فأمر بإحسان العشرة للناس.
وأول الخُلُق الحسن أن تكف عن الناس أذاك وتعفو عن مساوئهم وأذيتهم لك، ثم تعاملهم بالإحسان القولي والإحسان الفعلي من بشاشة الوجه ولطف الكلام، وأن تعامل كل أحد بما يليق به ويناسب حاله من صغير وكبير وعاقل وأحمق وعالم وجاهل، وقد عد الله في كتابه مخالقة الناس بخلق حسن من خصال التقوى قال تعالى في الجنة: (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 134]
أيها الإخوة: كم علق الله على التقوى من خير في الدنيا والآخرة؛ فأخبر أن الجنة أعدت للمتقين، ورتب على التقوى حصول العلم النافع فقال تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ)، وقال تعالى: (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف:90] (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)،[الطلاق 2: 3] (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) [الطلاق:4]
ولم يزل السلف يتواصون بالتقوى في خطبهم ومكاتباتهم ووصاياهم عند الوفاة. كتب عمر إلى ابنه عبد الله: "أما بعد؛ فإني أوصيك بتقوى الله عز وجل؛ فإنه من اتقاه وقاه، ومن أقرضه جزاه، ومن شكره زاده".
وأوصى علي رجلاً فقال: "أوصيك بتقوى الله عز وجل الذي لا بد لك من لقائه ولا منتهى لك دونه وهو يملك الدنيا والآخرة".
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى رجل فقال: "أوصيك بتقوى الله عز وجل الذي لا يقبل غيرها ولا يرحم إلا أهلها ولا يثيب إلا عليها؛ فإن الواعظين بها كثير والعاملين بها قليل". جعلنا الله وإياكم من المتقين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:(وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [آل عمران:133] الآيات إلى قوله تعالى (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم