في فضل شهر ذي الحجة

صالح بن فوزان الفوزان

2022-10-05 - 1444/03/09
عناصر الخطبة
1/فضائل شهر ذي الحجة 2/أهمية وفضل العمل الصالح في عشر ذي الحجة 3/بعض الأعمال المشروعة في عشر ذي الحجة 4/فضل يوم عرفة وبعض الأعمال المستحبة فيه 5/فضل يوم النحر وبعض الأعمال المشروعة فيه 6/فضل أيام التشريق وذكر الله فيها 7/أعظم فضائل شهر ذي الحجة إيقاع الحج فيه 8/تحريم صيام أيام التشريق والحكمة في ذلك

اقتباس

دَلَّ هذا الحديث على أنَّ العملَ في هذه الأيام العشر، أحبُّ إلى الله من العمل في أيام الدنيا من غيرِ استثناء، وأنه أفضلُ من الجهاد في سبيل الله إلا جهاداً واحداً، وهو جهادُ مَنْ خَرَجَ بنفسه وماله، فلم يرجعْ بشيءٍ، فهذا الجهادُ بخصوصه يفضُلُ على العملِ في هذه العشر. وأما بقيةُ أنواعِ الجهادِ، فإنَّ...

 

الخطبة الأولى:

 

 

الحمدُ لله ربِّ العالمين، أتاح لعباده مواسمَ الخير ونوعها ليتزودوا منها صالح الأعمال، ويستدركوا ما يحصُلُ مِنَ الغفلةِ والإِهمال.

وأشهَدُ أَنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال.

وأشهَدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه خيرِ صحب وآل، وسلَّم تسليماً كثيراً.

 

أما بعدُ:

 

أيها الناس: اتقوا الله -تعالى-، واعلَمُوا أنكم في هذه الدنيا في دارِ مَمَرٍّ، وما زلتُم في سفر، وأنَّ إلى ربِّكم المستقرَّ، وأنَّها تَمُرُّ بكم مواسمُ عظيمةٌ تضاعَفُ فيها الحسنات، وتُكَفَّرُ فيها السيئات.

 

ومن هذه المواسم: شهرُ ذي الحجة، فقد جَمَعَ الله فيه بين الفضائلِ، ونوَّعَ فيه من الطاعات ما لا يَخْفَى إلا على أهلِ الغفلة والإِعراض، ففي أوله: العشر المباركة التي نوَّه الله بها في كتابه الكريم، حيث قال سبحانه: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ) [الفجر:1 - 2].

 

فإن المرادَ بها: عشرُ ذي الحجة.

 

قد أقسمَ الله بها تعظيماً لشأنها، وتنبيهاً على فضلِها.

 

وروى البخاري من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي --صلى الله عليه وسلم-- قال: "ما من أيامٍ العملُ الصالح فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيامِ" يعني: أيام العشر، قالوا: يا رسولَ الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلاً خَرَجَ بنفسه ومالِه، ثم لم يرجِعْ من ذلك بشيءٍ".

 

فدَلَّ هذا الحديث على أنَّ العملَ في هذه الأيام العشر، أحبُّ إلى الله من العمل في أيام الدنيا من غيرِ استثناء، وأنه أفضلُ من الجهاد في سبيل الله إلا جهاداً واحداً، وهو جهادُ مَنْ خَرَجَ بنفسه وماله، فلم يرجعْ بشيءٍ، فهذا الجهادُ بخصوصه يفضُلُ على العملِ في هذه العشر.

 

وأما بقيةُ أنواعِ الجهادِ، فإنَّ العمل في هذه العشر أفضلُ وأحبُّ إلى الله منها.

 

وقد شَرَعَ الله لعباده: صيامَ هذه الأيام، ما عدا اليومَ العاشر، وهو يومُ النحر.

 

ومما يُشْرَعُ في هذه الأيام: الإِكثارُ من ذكرِ الله، ولا سيَّما التكبيرُ، قال الله -تعالى-: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ)[الحج:28].

 

وهي أيامُ العشر عند جمهورِ العلماء.

 

وأمَّا الأيامُ المعدودات، فهي أيامُ التشريق.

 

فيُسْتَحَبُّ: الإِكثارُ من ذكر الله في هذه العشر المباركة من التهليل والتكبير والتحميد، وأنْ يجهَرَ بذلك في الأسواق، فقد ذكرَ البخاريُّ في "صحيحه" عن ابن عمر وأبي هريرة -رضي الله عنهما-: أنهما كانا يخرجان إلى السوق، فيُكبران ويُكبر الناس بتكبيرهما.

 

وهذا من رحمة الله بعباده.

 

فإنه لمَّا كانَ ليس كلُّ واحد يقدرُ على الحج جُعِلَ موسمُ العشر مشتركاً بينَ الحجاج وغيرِهم، فمَنْ لم يقدِر على الحجِّ، فإنه يقدرُ على أن يعمَلَ في العشرِ عملاً يفضُلُ على الجهادِ.

 

وفي هذه العشر المباركة: يومُ عرفة الذي هو أفضلُ الأيام، رَوَى ابنُ حبان في "صحيحه" من حديث جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أفضل الأيام يومُ عرفة".

 

وورَدَ: أنَّ صومَهُ يُكَفِّرُ الله به السنةَ الماضية والباقيةَ.

 

والمراد بذلك: تكفيرُ صغائر الذنوب، فقد روى أبو قتادةَ -رضي الله عنه- قال: سُئِلَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عن صيامِ يوم عرفة، فقال: "يُكَفِّرُ السنةَ الماضية والباقيةَ" [رواه مسلمٌ].

 

وفي لفظٍ: قال صلى الله عليه وسلم: "صيامُ يومِ عرفة إنِّي أحتسِبُ على الله أن يُكَفِّرَ السنةَ التي بعده والسنةَ التي قبله".

 

فيستحب: صيامُهُ لغيرِ الحاجِّ.

 

أمَّا الحاجُّ، فلا ينبغي أن يصومَه لأجل أن يتقوَّى على الوقوفِ، وذكرِ الله -تعالى-.

 

وهو يومُ مغفرةِ الذنوب، والعتقِ من النار، والمباهاةِ بأهل الموقف، كما في "صحيح مسلم" عن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من يومٍ أكثرُ من أن يعتِقَ الله فيه عبيداً من النار من يومِ عرفةَ، وإنه ليدنو، ثم يُباهي بهم الملائكةَ".

 

وَرَوَى ابنُ حبان في "صحيحه" من حديث جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من يومٍ أفضلُ عندَ الله من يومِ عرفةَ، ينزلُ الله إلى سماءِ الدنيا، فيباهي بأهلِ الأرض أهلَ السماء، فيقولُ: انظروا إلى عبادي شُعْثاً غُبْراً حاجين جاؤوا من كل فَجٍّ عميقٍ يرجُونَ رحمتي، ولم يروا عذابي، فلم يُرَ أكثرُ عتيقاً من النارِ يومَ عرفةَ".

 

وروى مالك في "الموطأ": أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: "ما رئيُ الشيطانُ يوماً هو فيه أصغرُ ولا أدحرُ ولا أغبظُ منه يومَ عرفة، وما ذاك إلاَّ لِما يَرَى من تنزُّلِ الرحمة، وتجاوزُ الله عن الذنوبِ العظام".

 

وَرَوَى التِّرمذي: "خيرُ الدعاءِ دعاءُ عرفة، وخيرُ ما قلتُ أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، له الملكُ وله الحمدُ، وهو على كل شيءٍ قديرٌ".

 

وفي هذا الشهرِ المبارك: يومُ النحر الذي هو يومُ الحج الأكبر، يُكملُ المسلمون حجَّهم الذي هو الركنُ الخامس من أركان الإِسلام بعد ما وَقَفُوا بعرفة، وأدَّوا الركنَ الأعظم من أركانِ الحج، وحَصَلُوا على العتقِ من النار، مَنْ حَجَّ ومَنْ لم يَحُجَّ من المسلمين، فصارَ اليومُ الذي يُلبى يوم عَرفة عيداً لأهل الإِسلام جميعاً لاشتراكهم في العتق من النار.

 

وشَرَعَ لهم فيه ذبحَ القرابين من هَدْيٍ وأضاحٍ.

 

والحُجَّاجُ يستكملون مناسكَ حجِّهم في هذا اليوم المبارك من الرمي، والحلقِ أو التقصير، والطواف بالبيتِ وبينَ الصفا والمروة، وأهلُ الأمصار في هذا اليوم يُؤَدُّون صلاةَ العيد لإِقامة ذكرِ الله.

 

وفي هذا الشهر المبارك: أيامُ التشريق التي هي أيام مِنى، رَوَى مسلمٌ في "صحيحه" من حديثِ نبيشة الهُذلي: أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "أيامُ مِنى أيامُ أكلٍ وشرب وذكرٌ لله -عز وجل-".

 

وهي الأيامُ المعدودات التي قال الله -تعالى- فيها: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ)[البقرة:203].

 

وهي ثلاثةُ أيامٍ بعدَ يوم النحرِ.

 

وقد أمرَ الله -تعالى- بذكرِه في هذه الأيام المعدودات، وذكرُ الله في هذه الأيام أنواعٌ متعددة، منها: ذكرُ الله -عز وجل- عقيبَ الصلوات المكتوبات بالتكبير المقيَّد في أدبارها.

 

ومنها: ذكر بالتسميةِ والتكبير عند ذبحِ النسك.

 

ومنها: ذكر الله -عز وجل- على الأكل والشرب، فأيامُ التشريق أيامُ أكل وشرب، وذكرٌ لله، فإنه يُسمي الله عند بدايةِ أكله وشربه، ويحمَدُه عند نهايتهما.

 

ومنها: ذكرُ الله -تعالى- بالتكبير عند رمي الجمارِ.

 

وبالجملة، فشهرُ ذي الحجة، قد تنوَّعت فيه الفضائلُ والخيرات التي أَعظمُها: إيقاع الحج فيه إلى بيتِ الله الحرام، وهو من الأشهُرِ الحُرمِ حَرَّمَ الله القتال فيها لوقوعِ الحج فيه.

 

فاشكروا الله -أيُّها المسلمون- على هذه النعمةِ العظيمة، واغتنموا خيراتِ هذا الشهر، ولا تكونوا من الغافلين.

 

أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)[البقرة:198 -  203].

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ لله يخلقُ ما يشاءُ ويختار، وأشهَدُ أَنْ لا إلهَ إلا الله الواحد القهار، وأشهَدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه البررة الأطهار المهاجرين منهم والأنصار، وسلَّمَ تسليماً كثيراً.

 

أما بعدُ:

 

أيها الناس: اتقوا الله -تعالى-، واعلموا أنه يحرُمُ صيامُ أيام التشريق، قال صلى الله عليه وسلم: "أيامُ مِنىً أيامُ أكل وشرب" [رواه أحمدُ ومسلمٌ].

 

عن عائشة -رضي الله عنها- وابنِ عمر -رضي الله عنهما- قالا: "لم يُرَخَّصْ في أيامِ التشريق أن يُصَمْنَ إلا لمن لم يجد الهَدْيَ" [رواه البخاري].

 

وفي النهي عن صيام هذه الأيام والأمر بالأكلِ والشرب فيها حكمةٌ بالغة، وذلك أنَّ الله -تعالى- لمَّا عَلِمَ ما يلاقي الحجاجُ من مشاقِّ السفر، وتَعَبِ الإِحرام، وجهاد النفوس على قضاء المناسك، شَرَعَ لهم الاستراحةَ عقبَ ذلك بالإِقامة بمنى يومَ النحر، وثلاثة أيام بعده، وأمرَهم بالأكلِ فيها من لحومِ نُسُكهم، فهو في ضيافةِ الله -عز وجل-، ويشاركُهم أهل الأمصار غير الحُجَّاج في ذلك؛ لأنَّهم شاركوهم في العملِ في صيام عشر ذي الحجة، وفي الذكر، والاجتهادِ في العبادات وشاركوهم في التقرُّبِ إلى الله بذبح الأضاحي، فاشتركَ الجميعُ بالعيدِ، والأكل والشرب والراحة، فصارَ المسلمون كلُّهم في ضيافةِ الله -عز وجل-.

 

وفي هذه الأيام يأكلُون من رِزقه، ويشكرونه على فضلِه.

 

ونُهُوا عن صيامِ هذه الأيام من أجلِ ذلك.

 

فاتَّقُوا الله -أيُّها المسلمون- واشكروه على نِعَمِه.

 

واعْلَمُوا أنَّ خيرَ الحديث كتاب الله ... الخ.

 

 

 

المرفقات

في فضل شهر ذي الحجة.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات