في ظلال كلمة الملك

سامي بن عبد العزيز الماجد

2011-03-07 - 1432/04/02
عناصر الخطبة
1/كلمة الملك التي يعلن فيها تقبله واهتمامه بالنقد 2/حاجة المحكوم لتواضع الحاكم 3/ الأسباب الموصلة للإصلاح 4/ الشورى والمصارحة من صميم السياسة الشرعية 5/ كيفية مناصحة ولي الأمر 6/ النقد كثقافة مجتمعية

اقتباس

قال الملك: "يشهد الله تعالى أنني ما تردَّدتُ يوماً في توجيه النقد الصادق لنفسي إلى حد القسوة المرهِقة؛ كل ذلك خشيةً من أمانة أحملها هي قدَري وهي مسؤوليتي أمام الله -جل جلاله-، ولكن رحمته تعالى واسعة، فمنها أستمدُّ العزم على رؤية نفسي وأعماقها... تلك النفس القادرة على توجيه النقد العنيف الهادفِ قادرةٌ -بإذن الله- أن تجعل من ذلك قوةً تُسقط باطلاً، وتعلي حقاً ".

 

 

 

 

أيها الأحبة في الله: كلمة ألقاها خادم الحرمين -وفَّقه الله لكلِّ خير- في مجلس الشورى قبل أيام فتلقّاها الناس باستبشار وتفاؤل، وكشفَتْ لهم عن طبيعة قائلها، كشفت لهم عن تواضعٍ صادق غير مصطنع، عن تواضع بلغ من صدقه أن حمل صاحبه على مكاشفة شعبه ومصارحته بتقبُّله للنقد الصادق وتوجيهه إلى النفس، إلى حد القسوة أحياناً. 

قال الملك: "يشهد الله تعالى أنني ما تردَّدتُ يوماً في توجيه النقد الصادق لنفسي إلى حد القسوة المرهِقة؛ كل ذلك خشيةً من أمانة أحملها هي قدَري وهي مسؤوليتي أمام الله -جل جلاله-، ولكن رحمته تعالى واسعة، فمنها أستمدُّ العزم على رؤية نفسي وأعماقها... تلك النفس القادرة على توجيه النقد العنيف الهادفِ قادرةٌ -بإذن الله- أن تجعل من ذلك قوةً تُسقط باطلاً، وتعلي حقاً ".

كلمةٌ جريئة آخذة بزمام المصارحة والتواضع، وبالمصارحة والتواضع تستوثق وشيجة الوئام والائتلاف والنصح بين الحاكم والمحكومين، بين الملك وشعبه، بين كل رئيس ومرؤوس.

ليس بالطاعة المطلقة وحدَها يتحقق صدقُ ولاء المحكومين لحاكمهم، ولن يكونوا له نَصَحَةً ما لم يكاشفوه بالحقيقة دون تذويق ولا قلب للحقائق، ولن يكونوا له كذلك ما لم ينصحوه بالحق وفي الحق، ولن يجرأوا على ذلك ما لم يحسوا منه شعورَ التواضع، وصدق اللهجة في المصارحة، وصدقَ الرغبة في المكاشفة؛ لإصلاح المجتمع وتفقد عيوبه.

إن المحكوم بحاجة إلى تواضع الحاكم وجرأته على نفسه، والحاكم بحاجة إلى صدق المحكوم في نصحه للحاكم ومودته، وإذا تواضع الحاكم، واستشار، وصدَق المحكوم في نصحه وولائه، حصلت المحبة، وحلت البركة، وعمّ الخير.

يقول -صلى الله عليه وسلم-: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتُصَلُّون عليهم ويُصَلُّون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم" أخرجه مسلم.

ما أحرى الحاكم أن يكون محبوباً لشعبه! محبوبا لهم وقد رأوه يتودَّد إليهم بالمصارحة والمكاشفة ومبادأتهم بتقبل النقد الهادف؟!

لقد اختطّت هذه الكلمة الجريئةُ المتواضعةُ للإصلاح طريقَه الصحيح: طريقَ النقد الهادف، والمصارحةِ المتمحضةِ نصحاً وصدقاً.

ولن يتحقق الإصلاح على النحو المأمول ما لم يُشرع له بابُ المحاسبة والنقدِ والمصارحة؛ لأن إصلاحَ الحال لا يمكن أن يكون إلا بإخضاع العمل للنقد والمراجعة، وبالمصارحة بوجود الأخطاء، ومحاسبة المقصِّر، ومكافأة المحسن.

إن فتح باب النقد الهادف يعني الاستعداد النفسي للإقرار بالخطأ والتقصير إن وجد، والاعتراف بالخطأ فضيلة؛ لأنه أول طريق الإصلاح والتغيير، ولا يمكن تصحيح المسار إلا بعد الاعتراف باعوجاجه؛ وبكشف الباطل يُعرف الحق، وكدَر الجماعة خير من صفاء الفرد، ورأي المرء في الجماعة خير من رأيه في الفرقة.

لم يأت الملك ببدع من القول في تقرير أهمية النقد؛ فالنقد الهادف المنضبط والمحاسبةُ المنصفةُ حقّان مشروعان في الإسلام، قد تضمنهما تقريره لمبدأ الشورى، وأمرُه للحاكم بإشراك أهلِ الحل والعقدِ معه في الرأي، ولا معنى للشورى ما لم يكن الرأي فيه معتبراً وملزماً، وما لم يكن النقد من خلاله مسموعاً.
 

وسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- حافلة بهذه السياسة الشرعية المحقِّقة لمبدأ الشورى والمراجعة والمحاسبة، واقتفى أثره خلفاؤه من بعده، فهذا أبو بكر يقول في خطبته الشهيرة عند توليه الخلافة: "أيها الناس إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسدّدوني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم. ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه".

وهذا عمر لم يبعد كثيراً عن سيرة صاحبه أبي بكر -رضي الله عنهما-، فقد قام رجل فقال له: "اتَّق الله يا عمر"، فهَمّ بعضهم أن يُسكتوه، فقال: "دعوه يقولها، فلا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها". وكان يقول: "رحم الله امرءاً أهدى إلي عيوبي".

بل اشتهر عنه دقة محاسبته لعماله على الأمصار، وأخذه بمبدأ المحاسبة والشورى والمراجعة، واشتهر عنه قوله: "ألا وإني إنما بعثت عمالي ليعلموكم دينكم وسنتكم، ولم أبعثهم ليضربوا ظهوركم، ويأخذوا أموالكم، والذي نفسي بيده لأقِصَّنكم منهم".

وأخذ مع عماله سياسةَ: من أين لك هذا؟ وكان يشدد عليهم المحاسبة والتدقيق في موارد أموالهم، فكان يصادر منها ما لا يعرف مورده خشية أن يكون اختلاساً من بيت المال الذي هو مال المسلمين جميعاً، أو انتهاباً ينتهبه الوالي من أموال الناس برشوةٍ أو مكوس.

ولم يُعرف صالحٌ من الخلفاء والحكام والأمراء إلا وقد عرف عنه أخذه بمبدأ الشورى والمحاسبة، وقَبولُه للنقد والمراجعة.

إن إغلاقَ باب النقد والمكاشفة والشورى إنما هو من خلاق المستبدين، الذين قال الله على لسان كبيرهم وإمامهم في الاستعباد والاستبداد، فرعون: (ما أُريكُمْ إلا ما أَرَى، وما أَهديكُمْ إلا سبيلَ الرَّشاد) [غافر:29].

إن هذه السياسة التي أخذها الملك على نفسه من توجيه النقد الصادق لنفسه إلى حد القسوة المرهِقة ينبغي أن يتخلَّق بها وزراؤه وعمّالُه، بل وكلُّ موظَّفٍ في دولته، ولئن كان هؤلاء حريصين غاية الحرص ألا يخالفوا أمره، فينبغي عليهم ألا يخالفوه في التخلُّقِ بهذا الخلق المتجرد.

إن علينا أن نعلم أن مبدأ النقد الهادف، والمكاشفةِ بالعيوب؛ من غير تعيير، ولا لمز، ولا استغلال فريضة شرعية؛ تضمنها قوله -صلى الله عليه وسلم-: "الدين النصيحة". فقالوا: لمن يا رسول الله؟ فقال: "لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين، وعامّتهم".

والنصيحة لولي الأمر لا تقتصر على طاعته بالمعروف، فإن طاعتَه بالمعروف مفروضة بأصل ولايته على المسلمين، وإنما تكون النصيحة له بإعانته على إقامة شرع الله، والذب عن محكماته، وحماية جناب التوحيد. كما تكون النصيحة بالمكاشفة والمصارحة بالمشكلات التي يعاني منها المجتمع، وبنقد أداءِ المؤسساتِ الحكومية، من غير تقصُّدِ شخصٍ بعينه.

ليس من النصح لولي الأمر أن يُقالَ له: كلُّ شيء على ما يرام، في حين أن الحال على خلاف ما يرام، هذا من غشه والكذب عليه، ولا يمارس هذا إلا منافق متملق، خؤون لولي أمره ووطنه، لا تعنيه إلا أطماعه الشخصية.

إن الذي يكذب في وصف الواقع لولي الأمر، ويقلب له حقائقَ الأمور، ليس بأهونَ خطراً ممن يخرج عليه، بل هو في حكمه؛ لأن مؤدى عملِهما واحد لا يكاد يختلف، وهو التأليب على ولي الأمر، هذا يستغل الأخطاء والمشكلات لتحريض الدهماء على الخروج عليه، وذاك يكذب على ولي الأمر في وصف الواقع، فيُعمِّى عنه الأخطاءَ والمشكلات، ويزوِّر له الحقائق، ومن ثم تتفاقم المشكلات، وتحل الأزمات، فيندفع بعضُ الدهماء إلى التمرد والخروج على ولي الأمر. لا فرق بين هذين إلا أن الأول حرَّض على الخروج على ولي الأمر بقوله، والثاني حرض على ذلك بنفاقه وكذِبِه عليه.

ولذا فإن العبرة في النصح لولي الأمر ليست بتملق اللسان، وتصنّع الأفعال، وإنما هي بالنزاهة في العمل، والتجرّدِ عن المطامع الشخصية؛ لتصبح النية خالصةً لوجه الله، وبالصدق مع ولي الأمر في كل أمر، فالناصح له من صدَق له، لا من صدّقه، أو حاول إرضاءه بالكذب.

اللهم وفِّق ولي أمرنا إلى ما تحب وترضى، وخُذ بناصيته للبر والتقوى..بارك

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

 

 

أما بعد: فإن المطالبة ببمارسة حق النقد والمراجعة والمحاسبة لمؤسسات الدولة ورؤسائها ينبغي أن تسبقه أو تتزامن معه تربيةٌ للمجتمع بجميع أطيافه وطبقاته على تقبل النقد وقبول مبدأ المحاسبة والمكاشفة، وإذا كنت تطالب بحقك في ممارسة النقد والمحاسبة والمراجعة فعليك أن تقبل بها من غيرك في حق نفسك، إن من الانفصام بين القول والعمل أن تطالب بممارسة حق لا تقبل من غيرك أن يعاملك به، عليك أن تقبل النقد وأن تكون متهيئاً نفسياً لمبدأ المحاسبة والمراجعة ومكاشفة العيوب.

إن شيوع ثقافة النقد والمحاسبة لا تستورد كما تستورد المنتجات المعلبة، ولا تأتي –كذلك- من إملاءات محضه تبدأ من إطلاقات اللسان، ولكنها ثقافة مجتمع، تبدأ بذرتها في البيوت والأسر، ويتربى عليها الناس؛ حتى تصبح من القضايا المحسومة التي لا تحتاج إلى نقاش، ولا ينظر إليها نظر التهمة والتشكيك في النوايا.

إن التخوف لا يأتي إلا من الأعمال غير المألوفة، التي لم توجد أصلا في ثقافة المجتمع، ومن هنا تجد كثيرا من الناس يسيء الظن بكل ما يمتُّ إلى مسألة النقد، وبكل ما كان من مجرياتها؛ فيتهم مَن يمارس ذلك أو يحاولُه بأن له مآرب سياسية، أو شخصية نفعية، أو أنه مستبطن لشعور الكراهية لولي الأمر، ولذا ربما طالب بإغلاق باب النقد والمحاسبة والمكاشفة؛ خشية أن ينفذ منه مَن يستغله في قلب الأمر على ولي الأمر، والتأليب عليه، والخروج. لقد صار بتخوُّفه هذا كمن يمنع الناس من قيادة السيارات لأن بعضهم يسيء قيادَتَها!.

حين نطالب بسياسة النقد والمحاسبة فعلينا -كما فعل ولي أمرنا- أن نقبله على أنفسنا، وأن نمنح هذا الحقَّ أهلنا وأولادنا وكل من تحت ولايتنا ليمارسوه معنا بكل شفافية وصراحة وجرأة.

 

 

 

 

 

المرفقات

ظلال كلمة الملك

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات