اقتباس
فلما تُوفي رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، رأى الخاصَّة من أصحابه -رضي الله عنهم- أنَّ عليهم أن يخلفوه في أن يكونوا المرجع التشريعي للمسلمين؛ لأنَّ المسلمين لم يكونوا جميعاً في درجة من العلم والفقه تُمكنهم من أن يَعرفوا من القرآن والسنة أحكام ما يقع لهم من الحوادث، بل كان فيهم الخاصَّة الذين قرأوا القرآن، وحَفِظوا السنة، وفقهوا روح التشريع، وطرق فَهم النصوص واستنباط الأحكام، من طول صحبتهم للرسول -صلى الله عليه وسلم- ومُشاورته لهم، وفيهم...
في عَهْد رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- كان هو وحدَه المرجع التشريعي للمسلمين، فكان هو وحدَه إليه المرجع في القضاء في الخصومات، والإفتاء فيما يقع من الحوادث. وكان قضاؤه وإفتاؤه تارةً بما يُوحي إليه ربُّه من آيات القرآن، وتارةً بما يؤديه إليه اجتهادُه؛ ولهذا جاء في القرآن الكريم: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ) [البقرة:222]، (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) [البقرة:219].
وجاء في السنة: "قضى رسول الله بشاهد ويمين" (أخرجه أحمد وغيره، وصحَّحه محققو المسند)، "جعل رسول الله للجدة السدس إذا لم يكن دونها أم" (أبو داود (2895)، وقال ابن حجر: في إسناده عبيد الله العتكي مختلف فيه، وصححه ابن السكن. (تلخيص الحبير) 3/ 83.).
وكان إذا اجتهد بعضُ أصحابه -رضي الله عنهم- في حادثة وقعت له وهو في سفر أو بعيد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يَعرض على رسول الله حين يلقاه ما أدَّاه إليه اجتهاده، فإن أقرَّه كان حكماً شرعياً بتقرير الرسول -صلى الله عليه وسلم- إيَّاه، وكذلك إذا قضى بعض أصحابه باجتهاده في خصومة، فإن أقرَّ الرسول قضاءَه، كان حكماً شرعياً بتقرير الرسول -صلى الله عليه وسلم- إيَّاه.
وبهذه الوحدة للمرجع التشريعي للمسلمين لم يعرف في عهد رسول الله في واقعة واحدة حكمان مختلفان، فما قضى في خصومة واحدة بحكمين مختلفين، ولا أفتى في مسألة واحدة بفتويين مختلفين.
فلما تُوفي رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، رأى الخاصَّة من أصحابه -رضي الله عنهم- أنَّ عليهم أن يخلفوه في أن يكونوا المرجع التشريعي للمسلمين؛ لأنَّ المسلمين لم يكونوا جميعاً في درجة من العلم والفقه تُمكنهم من أن يَعرفوا من القرآن والسنة أحكام ما يقع لهم من الحوادث، بل كان فيهم الخاصَّة الذين قرأوا القرآن، وحَفِظوا السنة، وفقهوا روح التشريع، وطرق فَهم النصوص واستنباط الأحكام، من طول صحبتهم للرسول -صلى الله عليه وسلم- ومُشاورته لهم، وفيهم العامَّة الذين لا يَقرأون و لا يكتبون، ولا سبيل لمعرفتهم بالأحكام إلا سؤال أهل الذكر عما لا يعلمون؛ ولأنَّ حاجات المسلمين زادت، وأحوالهم تطوَّرت، وحدثت لهم وقائع لم تحدث على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يَرِدْ بأحكامها نص في القرآن أو السنة.
فلهذين السببين تصدَّى خاصَّةُ أصحاب رسول الله بعد موته للقضاء في خصومات المسلمين والإفتاء في مَسَائلهم، وكان في كلِّ مِصْر إسلامي عدد من الصحابة يُعَدُّون أساتذة التشريع، وإليهم يَرجع المسلمون في معرفة الأحكام الشرعيَّة.
هؤلاء المجتهدون من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما اجتهدوا اختلفوا في أحكامٍ كثيرة، وصدر عنهم في الخصومة الواحدة حُكمان مختلفان، وفي المسألة الواحدة فَتويان مُتناقضان؛ وهذا الاختلاف ضروري أن يقع لأسباب عِدَّة:
أولها: أنَّه إذا كان في الواقعة المعروضة عليهم نص في القرآن أو السنة فلا يمكن في الكثير الغالب أن تتَّفق العقول جميعها في فهم النص، وفي استنباط الحكم منه؛ وعن اختلاف العقول في فهم النص الواحد يَنشأ اختلاف الحكمين في المسألة الواحدة.
فبعض الصحابة فَهِم أنَّ القُرْء في قوله تعالى: (وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة:228]، هو الطهر، وبعضهم فهم أنَّه هو الحيض.
ولهذا قال بعضهم: عِدَّة المطلقة ثلاثة أطهار تتخلَّلها حيضتان. وقال بعضهم: عِدَّة المطلقة ثلاث حيضات يتخلَّلها طهران. وكل منهم يَستند في حكمه إلى النص حسب فهمه، والنص يحتمل الفهمين؛ لأنَّ لفظ القُرْء في اللغة العربيَّة مُشترك يُستعمل في كلِّ واحد من المعنيين، ولكل وجهة في ترجيح ما فهمه.
وثانيهما: أنَّ السنَّة المحمديَّة لم تدوَّن في عَهْدِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا في القرن الهجري الأول كله، وما دُوِّنت إلا في القرن الثاني الهجري؛ وكان نقلها بالمشافهة والسماع، ولم تجمع الأمة على مجموعة واحدة منها.
ورواةُ السنَّة من الصحابة تفرَّقوا في الأمصار وفي ميادين الجهاد، وقد يَكون عند أحدهم علم بسُنَّة محمدية لا يعلمها الآخر، وقد يكون أحدهم رأى سُنَّة فعلية لم يشاهدها الآخر؛ فمن هذا نشأ اختلاف بعض المجتهدين من الصحابة في الأحكام؛ فعبدُ الله بن مسعود -رضي الله عنه- كان لا يَرفع يديه حين الركوع، وحين الرفع منه؛ لأنَّه شاهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي ما رَفع يديه إلا حين افتتاح الصلاة بتكبيرة الإحرام؛ وعبد الله بن عمر -رضي الله عنهما -كان يَرفع يديه حين الركوع وحين الرفع منه؛ لأنَّه شاهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي يَرفع يديه فيهما، فكل منهما اتبع ما شاهده ورواه، وكل منهما صادق.
ولهذا لما جمع الإمام مالك بن أنس كتابه الموطَّأ ودوَّن فيه ما صحَّ عنده من الأحاديث والآثار، بناءً على طلب الخليفة المنصور في منتصف القرن الثاني الهجري، أراد المنصور أن يجعل لهذا الموطأ صفةً رسميَّة عامَّة، ويجمع المسلمين عليه، ويصرفهم عما عداه، فقال له مالك: لا تفعل، لأنَّ أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تفرَّقوا في الأمصار، وقد يكون لدى أحدهم من السنن الصحيحة ما لم يصل إليَّ ولم أدوِّنه في الموطأ، فيُحرم المسلمون من سنن صحاح من سنن الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
وثالثها: أنَّه إذا لم يكن في الواقعة المعروضة نصٌّ في القرآن أو السُّنَّة، كان الاجتهاد في معرفة حكمها إما بتطبيق مبادئ التشريع العامَّة عليها، أو بإلحاقها بنظائرها مما ورد فيه نص في القرآن أو السنة.
وفي هذا تختلف الآراء، وتتعدَّد وجوه النظر؛ ولهذا اختلف الصحابة -رضي الله عنهم- في الزوجة التي طلَّقها زوجها طلاقاً بائناً وهو في مرض موته ثم مات؛ هل تَرثه أو لا ترثه؟
فذهب بعضهم إلى أنَّها لا ترثه لأنها مُبانة فليست زوجة، ولا إرث إلا بسبب من أسبابه الثلاثة: وهي القرابة، والزوجيَّة، والولاء. وذهب بعضُهم إلى أنَّها ترثه رداً للقصد السيء على قاصده.
واختلفوا فيمن ماتت عن زوجها وأمِّها وأخويها الشقيقين وأخويها لأمها؛ فذهب بعضهم إلى أنَّ الزوج يَرث النصف، والأم تَرث السدس، والأخوين لأم يَرثان الثلث، والأخوين الشقيقين يَرثان الباقي بعد هذه الفروض وهو هنا لا شيء.
وذهب بعضهم إلى أنَّ الأخوين الشقيقين والأخوين لأمٍّ يَشتركون في الثلث.
فالفريق الأول نظرَ إلى أنَّ الشقيقين من العصبة والعاصب له الباقي بعد أصحاب الفروض، ولا عبرة بكونه لا شيء في بعض الجزئيَّات؛ والفريق الثاني نظر إلى أنَّ الشقيقين هما أخوان لأمٍّ ولأبٍ، فلنفرضهما أخوين لأم.
لهذه الأسباب ولأسباب أخرى وقع اختلاف في الأحكام الشرعيَّة بين المجتهدين من الصحابة -رضي الله عنهم-، ووقع أيضاً من بعدهم بين المجتهدين من التابعين وتابعي التابعين والأئمة المجتهدين.
والذي أقرِّره وألفت نظر المسلمين إليه، أمران:
أولها: أنَّ المجتهدين من الصحابة والتابعين، والأئمة المجتهدين، ما وقع بينهم اختلاف في عقيدة من عقائد الإسلام، ولا في حكم أساسي من الأحكام التي لا تختلف باختلاف البيئات والأزمنة والأمكنة؛ فما وقع بينهم اختلاف في الإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وما وقع بينهم اختلاف في تحريم الشرك بالله، وقتل النفس التي حرَّم الله، وما وقع بينهم اختلاف في فرض الصلاة والزكاة والصوم والحج.
فالعقائد وما بُني عليه الإسلام من واجبات ومحرَّمات، ما وقع فيهما اختلاف بين المجتهدين الذين يُعتدُّ بهم؛ وإنَّما وقع الاختلاف بينهم في أحكام فرعية لمسائل جزئيَّة تختلف فيها الآراء، وتتعدَّد فيها وجهات النظر، ولا يَقصد واحد منهم بما ذهب إليه إلا تحقيق المصلحة حسب تقديره واجتهاده، ولا يخرج واحد منهم باجتهاده عن حُدود النصوص وأحكام الشريعة الأساسيَّة، ومبادئها العامَّة.
والثاني: أنَّ الاختلاف الذي وقع بين مجتهدي المسلمين فيه رحمة بالأفراد وبالجماعات؛ لأنَّه اختلاف في جزئيَّات تختلف فيها المصالح باختلاف الأحوال والأزمان، ورُبَّ حكم منها يكون فيه رفق ورحمة ورفع الحرج عن شخص في حال مُعيَّنة، ولا يكون كذلك بالنسبة لشخص آخر؛ ورُبَّ حكمٍ يتفق ومصلحة الأمَّة في زمن ولا يتفق ومصلحتها في زمن آخر؛ فمن التوسعة على المسلمين والرحمة بهم أن يجدوا من الأحكام المختلفة في هذه الجزئيَّات التي تتطوَّر بتطور الأحوال ما يجعلهم في سعة من أن يأخذوا لكل حال ما يُناسبه من الأحكام، ويقننوا لكلِّ أمة ما يحقق مصالحها.
وتوضيحا لهذا أورد بالإيجاز بعض الأمثلة:
1 – ذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنَّ المصلي لا يجمع بين أداء فريضتين في وقت واحد إلا الحاج، فإنَّه يصلي الظهر والعصر معاً في مِنى جمعَ تقديم، ويصلي المغرب والعشاء بالمزدلفة جمعَ تأخير. وذهب الشافعي إلى أنَّ المصلي يجمع بين الفريضتين في وقت واحد للعذر، كالسفر، والمطر.
فالحنفي المسافر إذا دخل عليه وقت الظهر، وكان يخشى أن يحول بينه وبين أداء العصر في وقته مانع لأنَّه عُرضة لأن يَعتريه دوار في الباخرة، وجد في مذهب الشافعي سعة ورحمة، وقلَّده في الجمع بين الفريضتين.
2- ذهب الحنفية إلى أنَّ المتوضئ لو سال منه دم من أي جزء في جَسده بطل وضوؤه. وذهب غيرهم من الأئمَّة إلى أنَّ هذا لا يبطل الوضوء.
فالحنفي إذا كان ضعيف اللثَّة ومسَّها يَسيل منها الدم، أو كان عرضة للرُّعاف، أي: سيلان الدم من أنفه، يجد في مذاهب الأئمة الآخرين سعة ورحمة.
3- ذهب الشافعي إلى أنَّ شرط التحريم بالرضاع أن يرضع الطفل وهو في سن الرضاع خمس رضعات مُشبعات مُتفرِّقات. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنَّ التحريم بالرضاع مُسبب برضاع الطفل في سنِّ الرضاع ولو قطرة. ففي بعض الحالات يكون الأخذ بمذهب الشافعي مفرجاً أزمة بين الأُسَر.
وما يقال بالنسبة للفرد، يقال بالنسبة للتقنين للأمَّة ولهذا لما بدئ في تعديل القوانين الشرعيَّة بمصر، وجدت سعة من أحكام المجتهدين المختلفة مكَّنت من اختيار أنسب الأحكام بحال الأمَّة وأقربها إلى تحقيق مصالحها.
وأختم كلمتي بأنَّ الله سبحانه ما أوجب على أيِّ مسلم أن يكون حنفياً أو مالكياً أو شافعياً أو حنبلياً، وإنَّما أوجب على المسلم أن يتَّبع أحكام دينه، فإن علم حكم الدين بنفسه اتبعه، وإن لم يقدر على أن يَعْلمه بنفسه سأل عنه أهل الذكر من المجتهدين وأتبعه.
وإذا اتبع واحداً من أهلِ الذكر من المجتهدين في حكمٍ جاز له أن يَتَّبِعَ مجتهداً آخراً في حكم آخر، وجاز له أن يكون في أحكام وضوئه مُتبعاً أبا حنيفة، وفي أحكام صلاته متبعاً الشافعي، وجاز له أن يأخذ من كل مذهب ما هو أرفق به وأيسر عليه.
وهذا الذي نراه من المتزمتين المتشدِّدين الذين يَتَحاربون ويتعادَون للاختلاف في الجزئيات، بعيد من يسر الإسلام ورفقه ورحمته؛ وأبعدهم من يسر الإسلام الشافعي الذي لا يصلي وراء الحنفي لأنَّ صلاته باطلة في مذهبه، أو وضوئه باطل في مذهبه. هؤلاء عكسوا القضيَّة، وجعلوا اختلاف الأئمة نكبة لا رحمة، وضيَّقوا ما أراد الله من اليسر والسعة.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: (مجلة لواء الإسلام، السنة الثانية، العدد التاسع، جمادى الأولى 1368 مارس 1949).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم