في أحكام المرتدين

ناصر بن محمد الأحمد

2011-03-09 - 1432/04/04
عناصر الخطبة
1/ من أنكر معلوما من الدين بالضرورة 2/ أهمية تطبيق حد الردة على المبطلين 3/ تعريف الردة 4/ تطبيق السلف لحد الردة (الصحابة والتابعين) 5/ أنواع الردة 6/ ردة في عصرنا 7/ حكم الشرع في المرتدين 8/ أسباب الردة

اقتباس

وفي الآونة الأخيرة تطاوَل شِرْذِمةٌ منَ السُّفَهاء على هذه الشَّريعة، فوَصَفُوا الأحكامَ الشرعيَّة المترتبة على المرتد بأنها استبدادٌ وقسوةٌ ومناقَضة للحرية الفكرية؛ فقام مَن يردُّ ذلك الإفك بضعفٍ وتأوُّلٍ مُتكلّفٍ وانهزاميةٍ ظاهرة، فلا الإسلامَ نصروا، ولا السفهاء كسروا!

 

 

 

 

إنَّ الحمد لله...

أما بعدُ، فيا أيها المسلمون، منَ المعلوم بالضَّرورة مِن دين الإسلام أن الله تعالى أتَمَّ هذا الدين، وجعل شريعة الإسلام أكْمَل الشرائع وأحسنها، وقد جاء هذا الدِّينُ شاملاً لجميع جوانب الحياة البشَريَّة، ولذا أوْجَب الله تعالى على عباده الالتزامَ بجميع أحكام الإسلام؛ فقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) [البقرة: 208]، كما جاء هذا الدِّينُ مُوافقًا للفطرة السَّويَّة الصحيحة؛ فقال تعالى: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) [الروم: 30]، فإذا كان الشخصُ مسلمًا لله تعالى، والتَزَمَ بدين الله تعالى، وأبَى إلا أن ينسلخَ مِنَ الهدى، ويتلبس بالضلال، فيمرق منَ الحق والنور إلى الباطل والظلمات، فهذا مُرتدٌّ عن دين الإسلام، ناقِضٌ لعقد الإيمان، مُصادمٌ لِمَا عليه هذا الكون الفسيح من سماء وأرض ونبات وحيوان من الاستسلام لله تعالى والخضوع له، كما قال سبحانه: (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [آل عمران: 83]، وإذا كانتْ قوانين البشر -مع ما فيها مِنَ القُصُور والتناقُض والاضطراب- توجب مخالفتها عند أصحابها الجزاءات والعُقُوبات، فكيف بمناقَضة شرْع الله تعالى، والانسلاخِ مِن حُكْمِه وهو أفضل الأحكام على الإطلاق؟!

أيها المسلمون، لقد شرَع الله تعالى إقامةَ الحدود، ومنها: حدُّ الرِّدَّة تحقيقًا لأهم مقاصدِ الشريعة، وهو حِفْظ الدين، وهو سبحانه الحكيم في شَرْعه، الرحيمُ بعبادِه، العليم بما يُصلح أحوالَ خلقه في مَعاشِهم ومعادهم.

وفي الآونة الأخيرة تطاوَل شِرْذِمةٌ منَ السُّفَهاء على هذه الشَّريعة، فوَصَفُوا الأحكامَ الشرعيَّة المترتبة على المرتد بأنها استبدادٌ وقسوةٌ ومناقَضة للحرية الفكرية؛ فقام مَن يردُّ ذلك الإفك بضعفٍ وتأوُّلٍ مُتكلّفٍ وانهزاميةٍ ظاهرة، فلا الإسلامَ نصروا، ولا السفهاء كسروا!

أيها المسلمون، الرِّدةُ هي الرجوعُ عن الإسلام، إمَّا باعتقادٍ أو قولٍ أو فعل، فقد تكون الرِّدةُ قولاً قلبيًّا؛ كتكذيب الله تعالى في خبَرِه، أو اعتقادًا بأنَّ خالقًا مع الله - عزَّ وجلَّ، وقد تكون عملاً قلبيًّا؛ كبُغْض الله تعالى أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو الاستكبار عنْ اتِّباع الرسول، وقد تكون الردةُ قولاً باللسان؛ كسبِّ الله تعالى أو رسوله - صلى الله عليه وسلم، أو الاستهزاء بدين الله تعالى، وقد تقعُ الرِّدةُ بعملٍ ظاهرٍ مِن أعمال الجوارح؛ كالسجود للصنَم، أو إهانة المصحف.

ومَن تلبَّس بشيءٍ مِن تلك النواقض كان مرتدًّا عن دين الإسلام، فيُقْتَل بسيف الشرع، فالمبيح لدمه هو الكفر بعد الإيمان، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله -: "فإنه لو لَم يقتلْ ذلك المرتد لكان الداخلُ في الدين يخرج منه، فقَتْلُه حفظٌ لأهل الدِّين وللدين؛ فإنَّ ذلك يمنع من النقص ويمنعهم من الخروج عنه" انتهى، وكما يقتل المرتد، فإنه لا يغسَّل ولا يُصلَّى عليه، ولا يُدْفَن في مقابر المسلمين، ولا يرث ولا يورث، بل يكون ماله فيئًا لبيتِ مال المسلمين.

ومما يدلُّ على مشْروعية قتْلِ المُرْتد ما أخرجه البخاري - رحمه الله - أنَّ علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أُتى بزنادقة فأحْرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس - رضي الله عنهما - فقال: لو كنتُ أنا لَم أحرِّقهم؛ لنَهْي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تعذِّبوا بعذاب الله)، ولقتَلْتُهم؛ لِقَوْل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مَن بدَّل دينه فاقتلوه).

وقد التزم الصحابةُ - رضي الله عنهم - بهذا الحكم؛ فعندما زار معاذ بن جبل أخاه أبا موسى الأشعري - رضي الله عنهما - وكانا أميرين في اليمن، فإذا رجل موثق، فقال معاذ: ما هذا؟ قال أبو موسى: كان يهوديًّا فأسْلَم ثم تهوَّد، ثم قال: اجْلِس، فقال معاذ: لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله (ثلاث مرات)، فأمر به فقُتِل.

ولا ينسى التاريخُ ذلك الموقف العظيم الذي وقفَهُ أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - مِنَ المرتدين، تلك الوقفة الخالدة التي كانتْ تطبيقًا عمليًّا لِتَنْفِيذ حُكْم الله، فعقد أحد عشر لواءً، وأرسل بهذه الجحافل نحو الذين امتنعوا من دفع الزكاة وارتدوا على أعقابهم. لقدْ كان لِحَزْم أبي بكر - رضي الله عنه - وصلابته في التعامُل مع هؤلاء المرتدين أَثَره الواضِح في استئصال شأفة الردة مِن جميع أنحاء البلاد، وحَفِظ بذلك وَحْدة الأمة ووقاها منَ الهلكة؛ يقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: "لقد قُمنا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقامًا كِدْنا نهلك فيه، لولا أنَّ الله مَنَّ علينا بأبي بكر".

وقد قام خلفاء وملوك الإسلام وفي عصور مختلفة بإقامة حكم الله تعالى في المرتدين؛ تأسِّيًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبصحابته من بعده، واشتهر المهديُّ الخليفة العباسي بمتابعة الزنادقة المرتدين؛ حيث عيَّن رجلاً يتوَلَّى أمور الزنادقة؛ يقول ابن كثير في حوادث سنة 167هـ: "وفيها تتبع المهدي جماعةً من الزنادقة في سائر الآفاق، فاستحضرهم وقتَلَهم صبرًا بين يديه"، ويُعَدُّ الحلاَّج مِنْ أشهر الزنادقة الذين تمَّ قتْلُهم بسيف الشرع دون استتابة، يقول القاضي عياض: "وأجْمَع فقهاءُ بغداد أيام المقتدر من المالكية على قتْل الحلاج وصَلْبِه؛ لِدَعْواه الإلهية والقول بالحلول، وقوله: "أنا الحق"، مع تَمَسُّكه في الظاهر بالشريعة، ولم يقبلوا توبته". وقد بسط الحافظُ ابن كثير الحديث عن أحوال الحلاج وصفة مقتله، فكان مما قال: "قُدِّم الحلاج فضُرِبَ ألف سَوْط، ثم قطعتْ يداه ورجلاه، وحز رأسه، وأحرقتْ جثته، وألقى رمادها في دجلة، ونصب الرأس يومين ببغداد على الجسر، ثم حمل إلى خراسان وطيف في تلك النواحي"! ومِن أهمِّ أخبار المُرْتدين وأكثرها عبرة ما سَجَّلَه الحافظ ابنُ كثير في حوادث سنة 726هـ حيث قال: "ضربت عنق ناصر بن الشرف أبي الفضل على كُفْره واستهانته بآيات الله وصحبته الزنادقة، وحضَر قتلَه العلماءُ والأكابرُ وأعيان الدولة"، قال ابن كثير: "وقد شهدتُ قتلَه، وكان شيخنا أبو العباس ابن تيميَّة حاضرًا يومئذٍ، وقد أتاه وقرّعه على ما كان يصدر عنه قبل قتْلِه، ثم ضربت عنقه وأنا شاهِدٌ ذلك".

أيها المسلمون، الردةُ عنِ الدين أنواع كثيرةٌ: أعظمها الشرك بالله تعالى بعد إسلام، وتدخلُ تحت هذا صورٌ كثيرة مِن دعاء غير الله من الموتى والأولياء والصالحين، أو ذبح لقبورهم، أو نذر لها، أو طلب الغوث والمدد من الموتى؛ كما يفعلُ عُبَّاد القبور اليوم؛ قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) [النساء: 48]، ومَن جحد بعض الرسل أو بعض الكُتُب الإلهية، أو جَحَد الملائكة - فهو مُرتَدٌّ، ومن جحد البعث بعد الموت فهو مُرتد، ومَنْ سَبَّ الله تعالى، أو سَبَّ نبيه - صلى الله عليه وسلم - فهو مُرتد، ومَن جحد تحريم الزنا، أو جحد تحريم شيءٍ مِن المحرَّمات الظاهرة المُجْمَع على تحريمها - كشُرْب الخمر، وأكْل الخِنْزير - أو حرَّم شيئًا مجمعًا على حله - فهو مُرْتَدّ، ومَنِ استهزأ بالدِّين، أو سخر بوعد الله أو بوعيده، أو أهان القرآن الكريم، أو زعم أن القرآن نُقِص منه شيء، أو كُتِم منه شيء، فلا شك في ارتداده، ومَن جحد وجوب عبادة من العبادات الخمس الواردة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (بُنِي الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام) - فهو مُرْتَدٌّ، ومَن سوَّغ لنفسه اتِّباع غير دين الإسلام - ولو في جُزئية صغيرة - أو اتباع غير شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو مُرتد، ومَن لم يُكَفِّرْ مَن دان بِغَيْر الإسلام؛ كاليهود والنصارى والشيوعيين والملاحدة، أو شكَّ في كُفْرِهم، أو صحَّح مذْهبهم - فقدِ ارْتَدَّ وكفَر بالله - عز وجل.
ومَن ادَّعى عِلْم الغيب فهو مُرتد، ومَن اعتقد أنَّ هدي غير النبي - صلى الله عليه وسلم - أكْملُ مِن هديه، أو أنَّ حُكم غيره أحسن مِن حكمه، أو أبغض شيئًا مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو مُرتدّ، ومَن تَوَلَّى وظاهَرَ المشركين وأعان اليهود أو النصارى على المسلمين فهو مرتد، ومَن حكَّم القوانين الوضعية بدل الشريعة الإسلامية ويرى أنها أصلح للناس من شريعة رب العالمين فهو مرتد، ومَن سبَّ الصحابةَ أو أحدًا منهم، كأنْ كان دينُه سَبَّ أبي بكر وعمر، واقترن بسبِّه دعوى أن عليًّا إله أو نبي، وأن جبريل غلط - فلا شك عند أهل السنة في رِدّتِه وكفره، ومَن اعتنق فكر الشيوعية أو القومية العربية أو العلمانية بديلاً عن الإسلام فلا شك في ردته، ومَن ترَك الصلاة جحودًا بوجوبها فإنه مرتد؛ لقَوْله - صلى الله عليه وسلم -: (بين العبد وبين الكفر تَرْك الصلاة).

أيها المسلمون، ظَنَّ كثيرٌ مِنَ الناس أنَّ ظاهِرَة الرِّدة قد وئِدَتْ إلى غير رجعة بوَأْد أبي بكر لها، ولكن الأمرَ على العكس من ذلك؛ فإنَّ الردة عن الإسلام قد تُطْفَأ نارها تارة، وتضرم تارة أخرى، وقد تكون كالحرباء تتلوَّن وتتغيَّر بألوان تواكب العصر والحضارة، وقد برز في هذا العصر لَوْنٌ متميز من ألوان الردة، ولباس جديد من ألبستها، فقد اكتسح جزءًا كبيرًا من أجزاء العالم الإسلامي، وغزتْ هذه الظاهرة عددًا كبيرًا من الأسر والبيوتات، هذه الردة هي ما يسمى بالحرية الشخصية، التي يدعو لها كثيرٌ من كتَّاب الصُّحُف والمجلات ممن تلبس بلباس العلمانية، وهذه الحرية هي العبُّ من الشهوات بلا حساب، والانطلاق وراء الرغبات الحسية بلا حياء، والتحلل من عُرى الفضائل والأخلاق والقيَم العليا، بل والتحلُّل من الدين بالكلية، وتنحية شرع الله عن واقع الحياة.

لقد كثُرتِ الكتابات في الصُّحُف والمجلات من سفهاء يتطاولون على شرع الله - عز وجل - وعلى ثوابت الدين، وفي كثير من هذه الكتابات تشم منها رائحة الردة؛ فأصبحْتَ تقرأ التشكيك حول قضايا كثيرة تتعلَّق بالمرأة، مما يتعلَّق بخُروجها وعملها واختلاطها بالرجال، وأصبحتَ تقرأ أعمدةً كثيرة في الصحف تطعن في علماء الأمة وتسخر منهم، بل وتسخر في كثير من السنن وغيرها الكثير!

وظهر وانتشر بين الناس أيضًا في الآونة الأخيرة كُتُبٌ تُؤَلَّف على شكل روايات، فيها مِنَ الإباحية والتحلُّل ومُصادمة الأخلاق والقيم، ومعظمها يدور حول الجنس، وفي بعضها روايات يتعَدَّى مؤلِّفُها حدود الشرع فيتطاول على الله - عز وجل - وعلى دينه؛ فتقرأ الرِّدَّة بين سطور تلك الرِّواية.

أيها المسلمون، ومَن ارتد عن الإسلام فإن حكم الشرع فيه أن يُستتاب ويُمهل ثلاثة أيام، فإن تاب وإلا قُتِل؛ لقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما بلغه أن رجلاً كفر بعد إسلامه فضربت عنقه قبل استتابته، فقال: "فهلا حبستموه ثلاثًا، فأطعمتموه كل يوم رغيفًا واستتبتموه؛ لعله يتوب أو يراجع أمر الله، اللهم إني لم أحضر ولم أرض إذ بلغني"؛ رواه مالك في الموطأ.

والحكمةُ في وُجُوب قتْل المرتد أنه لما عَرَف الحقَّ وترَكَه صار مُفسدًا في الأرض، لا يصلح للبقاء؛ لأنه عُضوٌ فاسد يضر المجتمع ويسيء إلى الدِّين، وقد يفتح المرتد لأعداء الأمة ثغرات للإضرار بها بِمَا يُقدمه لهم من معلومات، وقد تؤدِّي الردة إلى اضطراب المجتمع بإغراء البسطاء بالاقتداء بالمرتد حين يظفر بحماية أعداء الملة، وما يغدقون عليه من رفاهية العيش؛ لذا كان مِن محاسِن حكم الشريعة قطع رقبة المُرْتد.

نفعني الله وإياكم...

 

 

 

 

الخطبة الثانية

 

الحمد لله على إحسانه...

أما بعدُ، فيا أيها المسلمون، للرِّدَّة أسباب:

من ذلك: الذكاء والعقل، والاعتداد بالرأي، والاعتداد بالنفس، والثقة المطلقة بها، فلا شك بأن العقل نعمةٌ مِن الله - جل وتعالى - على العبد، لكن ينبغي أن يعلمَ العبدُ بأن للعقل حدودًا، وهناك قضايا ينبغي للعبد ألا يخوضَها بعقله، وإلاَّ هلك؛ مثل: قضايا الغيب ونحوها، فهناك من العِباد من أعطاهم المولى عُقُولاً غير عادية، لكن هذا العقل كان سببًا في ردتهم، لذا قال عنهم شيخُ الإسلام ابنُ تيميَّة - رحمه الله -: "أوتوا ذكاءً ولم يؤتوا زكاءً"، مِن هؤلاء عددٌ ذكرهم الذهبي في تاريخه؛ كالسهروردي، الذي كان يتوقَّد ذكاءً، وكان بارعًا في أصول الفقه، قال عنه الذهبي: كان مفرط الذكاء، لم يناظر أحدًا إلا أربى عليه، إلا أنه قليل الدين! فهذا الرجل مع ما أعطاه الله من الذكاء إلا أن علماء وقته أفتوا بقتله؛ لأنَّ عقْلَه أدخله في التعطيل والانحلال، فقُتِل بسبب عقله وذكائه، ومات مرتدًا والعياذ بالله.

ومنهم أيضًا الحلاج الذي اشتهر بالذكاء، لكنَّه تَزَنْدق، وأفتى العلماءُ بقتْلِه ردة وقُتِل، قال الإمام عبدالعزيز بن باز - رحمه الله -: "مَن قال: إنه يؤمن بعقله فقط دون الشرع، فإنه يُبَيَّن له أن هذا كُفْر، فإنْ أَصَرَّ على مقالته فهو كافر مُرتد عن الإسلام، يُستتاب مِن جهة ولاة الأمر، فإن تاب وإلاَّ قُتِل مرتدًّا".

ومن أسباب الردة: الشهوات؛ سواء كانتْ شهوة الفرج، أو شهوة المنصب، ولكلٍّ ضحايا سقطوا فيها، وقد جمع بين الأمرين أَحَدُ أبناء الملك السلطان المعز التركماني حاكم مصر في القرن السادس الهجري، وكان ديِّنًا عاقلاً، لكن أحد أولاده تعلَّق قلبُه بامرأةٍ نصرانية فتزوجها، وأنجبت له أولادًا تأثَّروا بأمهم، فعاشوا على النصرانية، ثم تنَصَّر هو في النهاية، وسمَّى نفسه: ميخائيل، قال الذهبي - رحمه الله - في السِّيَر في ترجمته: "نعوذ بالله منَ الشقاء، فهذا بعد سلطنة مصر كَفَر وتعَثَّر".

ومِمَّنْ ترك الحق من غير ردة بسبب شهوة الملك والسطان: هرقل، وقصتُه معروفة مشهورة، ذكرها البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - فهرقل كان يعلم صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - فما الذي جعله لا يتجشم الصعاب حتى يَخلُص إليه؟ ولماذا لم يُسلم؟ إنها شهوة المُلْك؛ لأنَّه يعلم أنه بمُجرَّد إسلامه سيفقد الحكم والسلطان.
ومن أسباب الردة أيضًا: الفقر، فقد يكفُر الإنسانُ بسبب الفقر، والذي لم يجرب الفقر لا يمكن له أن يتصوَّر الأمر، نسأل الله السلامة والعافية، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعوَّذ بالله مِنَ الفقر.

ومن أسباب الردة أيضًا: تبني الشخص بعض أفكار العلمانيين والليبراليين، وقد تكون البداية عبارة عن قراءات واطِّلاعات في الصحُف والمجلات، ثم يبدأ بالاقتِناع بهذه الأفكار، ثم يعتنقها ويعتقدها بديلاً عن الإسلام، ثم يبدأ بالدفاع عنها وترويجها، وربما الكتابة والتأليف، ولو تتبَّعنا أغلب مَنِ اقْتَنَع بمبادئ العلمانية أو الحداثة فإنهم بهذا الشكل، مُطالعات وقراءات، حتى تصل إلى حد القناعة والاقتناع، ثم تصبح العلمانية أو الحداثة هي الدِّين الجديد الذي يعتنقه بديلاً عن الإسلام، وتأسَفُ كثيرًا عندما تُطالِع على صفحات المجلات والجرائد كتابات من هذا النوع تطْرَح الفكر العلماني، وتُنادي بالحداثة، وتُهاجِم أُصُول الدِّين بأنَّها من الموروثات القديمة البالية، والتي يجب أن تُستبدل بها ما عِنْد الغرب.

فالحذر الحذر مما يُنْشَر ويُكْتَب ويُقال؛ فإنَّ هناك من يدسُّ السُّمَّ في العسل، وغالب الناس لا يميزون ولا يقرؤون ما وراء السطور، ولو دقَّق الشخصُ وتأمَّل لرأى الردةَ عن الدين بعَيْنِها في بعض الكتابات، ومما يجدر ذِكْرُه أن الردة التي جاهَر بها بعضُ زنادقة هذا العصر؛ كرشدي، ونسرين، ونصر أبو زيد، والبغدادي، وأضرابهم، أشنع من ردة أسلافهم؛ كالحلاج، والسهروردي، وبالجملة فردةُ هؤلاء الزنادقة في القديم والحديث ليستْ مجرد ردة فحسب، بل ضموا إلى هذه الردة المحاربة لله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم، والإفراط في العداوة، والمبالغة في الطعن في دين الله تعالى.

ومن الأسباب أيضًا: تنْحية شرع الله - عز وجل - في كثيرٍ من بلاد المسلمين، فلا يخفَى أن وُجُود الولاية الشرعية سببٌ في حفظ الدين، فحيث تُقام الحُدُود - ومنها حد الردة - فلن يتطاوَل زنديقٌ مارقٌ على دين الله تعالى، لكن مَن أمن العقوبة أساء الأدب، والله حسبُنا ونعم الوكيل، ورحم الله ابن العربي عندما وصَف كُفْر غُلاة الباطنية بأنه كفر بارد، لا تسخنه إلا حرارة السيف.

ومن الأسباب: الفَوْضى الفكرية التي يعيشها العالمُ المعاصِر، والاضطراب الهائلُ في المفاهيم، والتناقُض المكشوف في المعتَقدات والمبادئ، كل هذا كان سببًا في الإخلال بالثوابِت والتمَرُّد على الدِّين والأخلاق.

ومِن أسباب الردة: الاستعلاء والكبر، وأشهر مثال على ذلك قصة جبلة بن الأيهم ملِك من ملوك الغساسنة أسْلَم زمن عمر - رضي الله عنه - ثم جاء لأداء فريضة الحج، وكان يطوف بالبيت، فداس أعرابي خطأً على إزاره فسقط، فلطمه جبلة فهشَّم أنفه، فشكى الأعرابيُّ أمرَه إلى الخليفة عمر - رضي الله عنه - فطلب جبلة، وخيَّر الأعرابي بين القصاص والدّية، فأبى الأعرابي إلا القصاص، فقال له عمر: يا جبلة، مكِّن الأعرابي منك ليقتص، فقال جبلة: أتمكنه منِّي وما هو إلا مِن سوقة الناس وعامتهم، فقال عمر: دعْك من هذا، فقد سوَّى الإسلامُ بينكما، فقال جبلة: إذًا أمْهِلْني إلى غد، فلما كان الليل هرب، ولحق بملك الروم، وتنصَّر وترَك الإسلام وارتَدَّ.

اللهم رحمة اهْدِ بها قلوبنا..
 

 

  

 

المرفقات

أحكام المرتدين

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات