اقتباس
والمراد بالكتاب: القرآن، والمراد بتعليمه: بيان معانيه وحقائقه، وشرح أحكامه وأوامره ونواهيه.. والمراد بالحكمة: العلم النافع، المصحوب بالعمل الصالح، وفي وضعها إلى جانب الكتاب إشارة إلى أن المقصود بها...
نزلت سورة الجمعة في المدينة المنورة وآياتها إحدى عشرة، وهذا اختيار الجمهور؛ ففي صحيح البخاري وغيره؛ عن أَبي هريرة -رضي الله عنه-؛ قال “كنا جلوسًا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- حين نزلت سورة الجمعة فتلاها، فلما بلغ؛ (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) قال له رجل: يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟ فوضع -صلى الله عليه وسلم- يده على سلمان الفارسي، وقال: «والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من هؤلاء … »” الحديث، وإِسلام أَبي هريرة بعد الهجرة بالاتفاق.
ولأَن أَمر الانفضاض عند مجيء تجارةٍ أَو لهو الذي جاءَ في آخر السورة، وكذا أَمر اليهود المشار إِليه بقوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ)، لم يكن إِلا بالمدينة، وهذه السورة تشتمل على فوائد نذكر طرفا منها:
فضل سورة الجمعة كان النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيرا ما يقرؤها في صلاة الجمعة؛ فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن ابن عباس -رضى الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ في صلاة الجمعة بسورة «الجمعة والمنافقون».
أما قراءة سورة (الجمعة) و(المنافقون) في صلاة العشاء من ليلة الجمعة فالرواية بها ضعيفة جدا لا تعتمد، وهناك رواية أن بعض التابعين أخذوا بذلك، أما المداومة عليها باعتبارها سنة ثابتة فلا يجوز؛ لذلك نرى الإمام أحمد يختار عدم المواظبة؛ فقد سئل عن القراءة في ليلة الجمعة بسورة الجمعة؟ قالَ: لا بأس، ما سمعنا بهذا شيئاً أعلمه، ولكن لا يُدمن، ولا يجعله حتما“(فتح الباري لابن رجب).
وأطلق ابن القيم حين قال: “وكان -صلى الله عليه وسلم- لا يُعيِّن سورة في الصلاة بعينها، لا يقرأ إلا بها، إلا في الجمعة والعيدين… وكان من هديه قراءة السورة كاملة، وربما قرأها في الركعتين، وربما قرأ أول السورة”(زاد المعاد (1 / 207 – 208).
وهذا يثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يعين سورة معينة بالقراءة في الصلاة لمناسبة ليقرأها كاملة ما لم يشهد له النص، على النحو الذي ثبت لصلاة الجمعة، أو صلاة الفجر يوم الجمعة، حتى سنة ركعتي الفجر.
وعليه لا يجوز الاستمرار على قراءة سورة الجمعة في صلاة العشاء الأخيرة من ليلة الجمعة.
وسميت السورة بهذا الاسم (الجمعة) لحديثها عن صلاة الجمعة وعن ورجوب السعي إلى صلاتها، والانصراف عن كل ما قد يشغل الإنسان عن حضورها. «وكان فرض صلاة الجمعة متقدما على وقت نزول هذه السورة؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- فرضها في خطبة خطب بها للناس وصلاها في أول يوم جمعة بعد يوم الهجرة في دار لبني سالم بن عوف.
وثبت أن أهل المدينة صلوها قبل قدوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة؛ فكان فرضها ثابت بالسنة قولا وفعلا، وما ذكر في هذه السورة من قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)[الجمعة: 9] ورد مورد التأكيد لحضور صلاة الجمعة وترك البيع، والتحذير من الانصراف عند الصلاة قبل تمامها»[1].
من مقاصد هذه السورة تحقق سورة الجمعة مقاصد عالية للشريعة الإسلامية حيث اشتملت على توحيد الخالق ومظاهر نعمته على الخلق من خلال بعث الرسل لإقرارهم على العبودية الخالصة لرب الأرض والسماوات، ومما نشير إليها من هذه النعم الجليلة وهي بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وذلك في صور:
1 – الغاية من بعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم- النبي الأمي ثلاثة أمور هي: أ- تلاوة آيات القرآن التي فيها الهدى والرشاد. ب- جعل أمته أزكياء القلوب بالإيمان، مطهرين من دنس الكفر والذنوب ومفاسد الجاهلية. جـ- تعليم القرآن والسنة وما فيهما من شرائع وأحكام وحكم وأسرار.
والمراد بالكتاب: القرآن، والمراد بتعليمه: بيان معانيه وحقائقه، وشرح أحكامه وأوامره ونواهيه.. والمراد بالحكمة: العلم النافع، المصحوب بالعمل الصالح، وفي وضعها إلى جانب الكتاب إشارة إلى أن المقصود بها السنة النبوية المطهرة، إذ بالكتاب وبالسنة، يعرف الناس أصلح الأقوال والأفعال، وأعدل الأحكام وأقوم الآداب، وأسمى الفضائل[2].
جاء ترتيب هذه الآية الكريمة وأمثالها في أسمى درجات البلاغة والحكمة؛ لأن أول مراحل تبليغ الرسالة، يكون بتلاوة القرآن، ثم ثنى سبحانه بتزكية النفوس من الأرجاس، ثم ثلث بتعليم الكتاب والحكمة لأنهما يكونان بعد التبليغ والتزكية للنفوس. ولذا قالوا: إن تعليم الكتاب غير تلاوته، لأن تلاوته معناها، قراءته قراءة مرتلة، أما تعليمه فمعناه: بيان أحكامه، وشرح ما خفي من ألفاظه وأحكامه[3].
وبحسب ابن عاشور، فإن أعلى غايات ما سبق من التلاوة والتزكية والتعليم هو تعليم الحكمة، قال: فهو غاية ذلك كله لأن من تدبر القرآن وعمل به وفهم خفاياه نال الحكمة.
2- إثبات نعمة نبوة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وجعل النبي أميا لا يكتب ولا يقرأ معجزة كبيرة في حد ذاته، وامتنان من الله -تعالى- لنبيه، ووجه الامتنان هنا ثلاثة أسباب كما قال الماوردي: أحدها: موافقته ما تقدمت به بشارة الأنبياء. الثاني: مماثلة حاله لأحوال أمته، فيكون أقرب إلى موافقتهم. الثالث- انتفاء سوء الظن عنه في تبليغه وتعليمه ما أوحي إليه من القرآن والأسرار.
3- عموم رسالة الإسلام وأنها ليست خاصة بالعرب بل تشمل البشرية جمعاء؛ فهي عامة للناس جميعا في زمنه، وفي الأزمان اللاحقة إلى يوم القيامة: (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمّا يَلْحَقُوا بِهِمْ).
صلاة الجمعة أساس السورة.
4- أما ما يتعلق بصلاة الجمعة في الآيات الأخيرة من السورة فهي الغرض الأول من السورة، حيث دعا القرآن إلى المحافظة عليها وإقامتها بجميع أركانها ونهى عن التخلف إلا لعذر شرعي مقبول؛ (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ)، منوها إلى وقت دخولها: (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ)، ولا يكون النداء إلا بعد جلوس الإمام على المنبر إلى وقت الانصراف منها، وذلك بعد التسليم؛ (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ)، وما يتخلل ذلك من أعمال العبادات أثناء إقامة هذه الشعيرة، من سماع الخطبة والإنصات لها والذكر؛ (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ).
وجاءت هذه الآية لتؤكد على مشروعية الجمعة، فقد ثبتت شرعا الجمعة بالتواتر، ثم قررت الآية مشروعيتها بالدليل.
أول جمعة صلاها النبي -صلى الله عليه وسلم- وكانت صلاة الجمعة مشروعة من أول أيام الهجرة. قال ابن سيرين أن الأنصار جمعوا الجمعة قبل أن يقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة قالوا: إن لليهود يوما يجتمعون فيه، وللنصارى يوم مثل ذلك، فتعالوا فلنجتمع حتى نجعل يوما لنا نذكر الله ونصلي فيه. وقالوا: إن لليهود السبت وللنصارى الأحد فاجعلوه يوم العروبة. فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم. وروى البيهقي عن الزهري أن مصعب بن عمير كان أول من جمع الجمعة بالمدينة قبل أن يقدمها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويتعين أن يكون ذلك قد علم به النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولعلهم بلغهم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حديث فضل يوم الجمعة وأنه يوم المسلمين.
وأما أول جمعة جمعها النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال أهل السير: كانت في اليوم الخامس للهجرة لأن رسول الله قدم المدينة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول فأقام بقباء ثم خرج يوم الجمعة إلى المدينة فأدركه وقت الجمعة في بطن واد لبني سالم بن عوف كان لهم فيه مسجد، فجمع بهم في ذلك المسجد، وخطب فيه أول خطبة خطبها بالمدينة وهي طويلة ذكر نصها القرطبي في «تفسيره»[4]. بعض الأحكام الفقهية المتفرعة:
1- النداء للصلاة: الأذان المعروف وهو أذان الظهر ورد في «الصحيح» عن السائب بن يزيد قال: كان النداء يوم الجمعة إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وعمر. قال السائب بن يزيد: فلما كان عثمان وكثر الناس بالمدينة زاد أذانا على الزوراء.
2 - العدد الذي به تصح الجمعة: قال الحسن: تنعقد الجمعة باثنين، وقال الليث وأَبو يوسف: تنعقد بثلاثة، وقال أَبو حنيفة: تنعقد بأَربعة، وقال ربيعة: باثني عشر رجلا، وقال الشافعي: بأَربعين رجلا، ولعل هؤلاءِ استند كل منهم إِلى إحدى الروايات فيمن بقي مع الرسول بعد خروج من خرج لمشاهدة التجارة التي جاءَ بها دحية من الشام.
3 - القيام شرط في الخطبة دلَّ قوله -تعالى-: (وَتَرَكُوكَ قَائِمًا) على أَن القيام شرط في أَداء خطبة الجمعة، وجاءَ في صحيح مسلم عن جابر أَن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يخطب قائمًا ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب، فمن نَبَّأَك أَنه كان يخطب جالسًا فقد كذب إلخ وعلى هذا الرأي جمهور الفقهاءِ.
4- لا تصح الجمعة من غير خطبة، وهو قول الجمهور، وقال الحسن: هي مستحبة، وبه قال ابن الماجشون وسعيد بن جبير، ويرد هذا الرأي ظاهر قوله تعالى: (وَتَرَكُوكَ قَائِمًا).
ومن السنة أَن يتكئ الخطيب على قوس أَو عصا؛ ففي سنن ابن ماجة بسنده أَن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "كان إِذا خطب في الحرب خطب على قوس، وإِذا خطب في الجمعة خطب على عصا".
ويسلم الخطيب على الناس إِذا صعد على المنبر عند الشافعي وغيره، روى ابن ماجه بسنده "أَن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إِذا صعد المنبر سلَّم".
ويجب في الخطبة أن تكون على طهارة عند الجمهور.
_________
[1] ابن عاشور، التحرير والتنوير (28/ 205):
[2] محمد سيد طنطاوي، التفسير الوسيط للقرآن الكريم (14/376).
[3] المرجع السابق.
[4] التحرير والتنوير (28/220)، التفسير الوسيط (10/1418).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم