اقتباس
أيضا فهم السنن الإلهية مما يعطي القوة والدافعية للدعاة والوعاظ والخطباء، ويرخي على قلوبهم الصبر واليقين بالنصر والتمكين بسبب قلة النتائج وضعف الثمار وانتفاش الباطل؛ فهي سنة مطردة ماضية حتى مع صفوة الخلق؛ الأنبياء، يقول النبي...
فهم السنن الإلهية وأثره في محاربة الإلحاد
أحداث جسام تحار فيها العقول، ولا تحتمل وطأتها النفوس، ويعبث فيها الشك بالقلوب!!
تنشر خريطة العالم المعاصر على منضدتك وتنظر إلى بؤر الصراع الملتهبة فيها ونقاطها المتفجرة التي تسيل فيها الدماء كالأنهار، وتُزهق فيها النفوس بمئات الآلاف وربما الملايين فلا تجدها إلا في بلاد المسلمين!! بلاد خير الأمم، أتباع خير الرسل، حملة مشاعل الهداية للعالمين، وأعرق أمة عرفتها البشرية الحائرة منذ بدئ الخليقة؛ بحيث يبدو للعيان أن أوهى حياض؛ حياض المسلمين، وأرخص دماء؛ دماء المسلمين.
وهنا يبدأ الشيطان في التسلل إلى عقول الكثيرين وإلقاء الأسئلة التشككية المحيرة التي تجد لها مرعاً خصيباً في عقول الكثيرين خاصة الناشئة والشباب في هذه الأيام؛ فيبدأ المسكين الحائر المهموم في التساؤل عن سر تسلط أعداء المسلمين عليهم، وعن العدل والإنسانية في هذه الأحداث الدامية، ومن الجاني ومن المجني عليه، ومن الظالم ومن المظلوم، وهكذا تأخذ الأسئلة منحناً تصاعدياً حتى يصل الشيطان بالإنسان لطرح السؤال الأخطر والرائج بقوة هذه الأيام: أين الله-عز وجل- من كل ما يجري للمسلمين في كل مكان؟! ولماذا لا يدفع عن المسلمين وهم أتباع خير الرسل شر أعدائهم؟! ولماذا لا يُرسل الطير الأبابيل لنجدتهم والانتقام من قاتليهم؟!
وهنا يكون الشيطان قد حقق غايته ومراده من غواية الإنسان حيث قاده للضلال من حيث لا يدري، بعد أن ملأ قلبه بالشك واليأس والقنوط ودفعه نحو هاوية الإلحاد.
وحتى نحصن أنفسنا وأبناءنا وأجيال المسلمين عقدياً وفكرياً من هذه الغارات الشيطانية في أوقات الاستضعاف وتسلط الأعداء وتتابع النوازل والنكبات، وحتى نتصدى لظاهرة الإلحاد كان لابد من دراسة السنن الإلهية وفهم دورها في تفسير الأحداث وقراءة الواقع واستشراف المستقبل ومعرفة مواطن الداء وجرعات الدواء لهذه الأمة المنهكة من كثرة جراحاتها.
تعريف السنن الإلهية
وردت كلمة السنة في القرآن الكريم بجميع صيغها ست عشرة مرة: بصيغة "سنة" المفرد ثلاث عشرة مرة، بصيغة الجمع "سنن" مرتين، بصيغة "سنتنا" مرة واحدة، وباستقراء تلك الآيات كلها يتضح لنا أن السنن معناها يتسع ويتطرد ليشمل كل ما يقع في الكون الفسيح بقدر الله وفق إرادته الكونية.
فالسنن هي القوانين الكلية والقواعد الحاكمة والضابطة لحركة الكون وما يقع فيه من أحداث وتفاعلات؛ فالسنن الإلهية هي إرادة الله الكونية، وأمره الشرعي، وفعله المطلق، ووعده الحق، وحكمته البالغة، وأمره النافذ في آفاق الكون وتسلسل التاريخ من البداية إلى المعاد، وعلى رغم من الكم الهائل من السنن الإلهية التي يزخر بها الكون إلا أننا عند إمعان النظر نجدها تنضوي تحت نوعين أساسين من السنن:
الأول: سنن الكون أو قوانين الطبيعة أو سنن الآفاق أو السنن الجارية، وتعني نواميس الله -سبحانه وتعالى- في تسيير الكون وعمارته وفق نظام محكم بالغ الدقة وفائق الإعجاز. وهي متعلقة بربوبيته وخَلقه -جل وعلا-.
وهذا النوع من السنن لا خروج لأحد عنها؛ لأنها خاضعة للقدر الكوني ومتعلقة بالخلق والمشيئة الكونية (كن فيكون) فهي تقع حتماً، لكنها قابلة للخرق بالإيقاف-كما أوقف الشمس ليوشع بن نون عليه السلام-أو التغيير-كما جعل النار المحرقة برداً وسلاماً على إبراهيم -عليه السلام- حيث ينقضها الله -تعالى- إذا شاء بما شاء ولمن شاء؛ فتمضي على غير ما اعتاده الناس، وهو ما يسمى بــــ "السنن الخارقة" أو بمعنى آخر المعجزات التي يجريها الله -عز وجل- على يد أنبيائه، أو الكرامات التي تكون لصفوة أوليائه.
الثاني: سنن الاجتماع والعمران، وهي السنن والقواعد التي تحكم الإنسان في مجتمعه ومحيطه -فردا وجماعة وأمة- في علاقته بهذا الكون وخالقه، وهذا النوع من السنن متعلق بألوهيته -تبارك وتعالى- وشرعه؛ فمتى استقام الإنسان على الأمر واتبع الشرع وأسلم وجهه لقدر الله-تعالى-كان عاقبة أمره خيرٌ في الدنيا والآخرة، ومتى خرج عنها وتمرد عليها وعاند الشرع فعليه وقتها أن يتحمل نتيجة اختياره الخاطئ وعصيانه لشرع ربه عاجلاً أو آجلاً.
وهذا النوع من السنن الإلهية يتسم -أيضا- بالثبات والاطراد والعموم، وسنذكر الثلاثة بصورة مفصلة؛ وذلك استنادًا إلى الأمر الإلهي الذي يحكمها كسنة ثابتة التحقق: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا)[الأحزاب62]، وأنها مقدَّرة بآجال في الوقوع على من حقت عليهم: (إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)[يونس49]، وهي في ذات الوقت سنن حتمية على الناس في تداول الأحوال؛ تمشياً مع قاعدة: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)[آل عمران140].
ففي الأمم سنن، وفي المسلمين سنن، وفي الكافرين سنن، والسنن تعمل مجتمعة ولا تتخلف أو تتبدل، يخضع لها البشر في تصرفاتهم وأفعالهم وسلوكهم في الحياة، ويترتب على ذلك من نتائج كالنصر أو الهزيمة، والسعادة أو الشقاوة، والعز أو الذل، والرقي أو التخلف، والقوة أو الضعف، وفق مقادير ثابتة لا تقبل التخلف ولا تتعرض للتبديل: (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا)[فاطر43].
وإجمالاً فالسنن الإلهية وحسن التعامل معها من المفاتيح الرئيسة لفهم الكون والإنسان والحياة، والإسهامُ الفاعل في بناء الأمم وارتقاء الحضارات وإصلاحها، وبخاصة المستقبل الحضاري للأمة الإسلامية، نظراً لما آلت إليه من الضعف والهوان، والتفكك والتجزئة وتكالب الأمم عليها.
سمات السنن الإلهية
للسنن الإلهية ثلاث سمات رئيسية:
الثبات: أي لا تتبدل ولا تتغير؛ (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا)[فاطر43]، وهذا الثبات من كمال حكمته -جلّ وعلا-، لأن الله قد خلق تلك السنن لتنظم وتحكم حركة الكون والحياة والأحياء؛ فلو لم تكن ثابتة لاختل نظام الكون وعمت الفوضى وما قامت الحياة من الأساس، فالسنن تحكم حركة التاريخ، وتنظم ناموسية التغيير، فالحياة لا تجري في الكون عبثًا.
الاطراد: أي التكرار؛ فأينما وجدت الظروف المناسبة واجتمعت العوامل الفاعلة في عمل السنن؛ زماناً ومكاناً وأفراداً وجماعاتٍ وأمماً وأحداثاً وأفكاراً جرت السنن بقدر الله -عز وجل-؛ قال تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ)[آل عمران138]، وهذا الاطراد يجعل من السنن الإلهية حجة على الناس جميعهم مؤمنهم وكافرهم، صالحيهم وفاجريهم.
العموم: أي أنها تشمل كل البشر والخلائق دون استثناء وبلا محاباة؛ قال تعالى: (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا)[النساء123]، والناظر في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسيرته يجد هذا المعنى واضحًا، فعندما أخذ الصحابة سنة الله في الانتصار مثلاً آتى النصر لهم أُكُله وأعطى ثمره يوم بدر الكبرى، وعندما خالفوا أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- يوم أُحد لم تنخرم لهم السنة ولم تتبدل؛ بل جرت عليهم السنن وفيهم أعظم خَلق الله -صلى الله عليه وسلم- والذي يفهم السنن الإلهية وعمومها يملك القدرة على التعامل مع هذه السنن، ويحسن الاستعداد لنتائجها.
أهمية فهم السنن الإلهية
الله -عز وجل- فتح أمام العقل البشري ثلاثة كتب يفهم من خلالها طريقة عمل السنن الإلهية في الكون والخلق:
الكتاب المسطور؛ القرآن الكريم، الزاخر بمئات الآيات التي تشرح لنا بأوضح عبارة وأرقى بيان طريقة عمل السنن الإلهية مع ضرب الأمثلة وسرد الأحداث بصورة تجعل القارئ كالشاهد والمعاين.
الكتاب المنظور؛ الكون الفسيح وما فيه من سماء وبحار وصحاري وكواكب ونجوم، أو ما يسمى بلسان العصر علوم الفلك والفضاء والأرض والبحار والأحياء، وسائر العلوم التجريبية التي قطع العرب فيها قديماً والغرب حديثاً شوطاً كبيراً أكد على ربوبية الخالق وعظمته.
الكتاب المأثور؛ تاريخ الأمم السابقة وعلاقتها مع الأنبياء والمرسلين ومصارع المكذبين وعاقبة الطغاة والمجرمين ومصير المؤمنين والموحدين، وصور النصر والهزيمة وحقيقة الانتصار والتمكين.
والثلاثة كتب تتضافر فيما بينهم وتتكامل، وتُجمل في كتاب وتُبسط في آخر؛ فهي كتب تصدَّق بعضها بعضاً، ويهمين عليها جميعاً الكتاب الأول؛ القرآن الكريم. فمن خلال السنن الإلهية نفهم التاريخ، ونفسر أحداثه تفسيرا شرعيا سليما ينفعنا في فهم واقعنا واستشراف مستقبلنا، ونستفيد من تجارب الأمم وأخبار الغابرين، وللأسف كثير من المسلمين اليوم لا يملكون القدرة على ربط النتائج بالأسباب، وكشف اللثام عن حقيقة السنن؛ بل قد يصدمهم الواقع الأليم -كما هو حادث اليوم-فيتسرب إليهم اليأس والإحباط دون تفسير حقيقي لما سيكون في الغد من أحداث، قد تكون سعيدة أو مؤلمة؛ فعوامل البناء والأمن والاستقرار والصحة والرفاهية، وعوامل الهدم والخوف والجوع والمرض، مجموعة في آية واحدة معجزة، في قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)[ الأعراف96].
وتبدل الأحوال في المجتمع من الصحة إلى السقم، ومن الغنى إلى الفقر، ومن الأمن إلى الخوف، ومن العزة إلى الذلة...إلخ، مرتبط باختيارات الناس الخاطئة وسلوكهم وأفعالهم السلبية المخالفة لما أمر الله به؛ فمثلاً قال تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)[الإسراء16]، ربطت السنة الإلهية بين أمرين: بين فسق المترفين في المجتمع، وبين دمار ذلك المجتمع وانحلاله، فهي سنة ماضية في كل المجتمعات التي تحيد عن منهج الله تعالى وتأبى الخضوع لحكمه.
أيضا معرفة السنن الإلهية في الكون والخلق مما يعين القضاء على النزاع المقيت والمزمن بين أبناء الأمة الواحدة التي ربها ورسولها وكتابها وشرعها واحد، وشعائرها واحدة؛ فالخروج من متاهة الاختلاف هو بداية الطريق الصحيح نحو الخروج من حالة الضعف والذلة والمهانة التي عليها الأمة اليوم، فالسنن الإلهية تقول لنا بأوضح بيان عاقبة التنازع وضريبته الباهظة؛ (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)[الأنفال46].
أيضا فهم السنن الإلهية مما يعطي القوة والدافعية للدعاة والوعاظ والخطباء، ويرخي على قلوبهم الصبر واليقين بالنصر والتمكين بسبب قلة النتائج وضعف الثمار وانتفاش الباطل؛ فهي سنة مطردة ماضية حتى مع صفوة الخلق؛ الأنبياء، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "عُرضت علىّ الأمم فرأيت النبي معه الرُهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد"!!
فاليقين الجازم أن نصر الله آت لا ريب فيه، عند تحقق شروطه وموجباته في الدعاة إليه، ولو حدث بعض التأخير فإن النصر يكون في عاقبة الأمور بالصورة التي يريدها الله -تعالى-؛ كما في قوله تعالى: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)[الحج40].
فعمل السنن الإلهية في التمكين للدعوات والرسالات يقوم على الصبر والتأني وعدم استعجال الخطى، أو تجاوز المراحل، فطريق الدعوة شاق وطويل، لا يشترط فيه رؤية النصر أو تحقق الهدف قبل الموت، وقد قال تعالى: (وإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ)[يونس 46].
ومما سبق يتضح لنا إن دراسة وفهم السنن الإلهية ضرورة شرعية وحتمية واقعية، وإرشاد الله-تعالى-ودلالاته الكثيرة والمتكررة في القرآن لمعرفة سننه بالسير في الكون والنظر في الخلق والتدبر في الأمر والاعتبار بالغير يوجب على علماء الأمة وأهل الحل والعقد خاصة الدعاة والخطباء والوعاظ أن يجعلوا هذه السنن علماً -مستقلاً وليس تابعاً- من العلوم المدونة مثل التوحيد والفقه والتفسير والأصول لنستديم ما فيها من الهداية والموعظة على أكمل وجه، ولتكون بمثابة الدرع الواقي والمنظار المبكر الذي يرى فيها المؤمن الأحداث الجسان بعين بصيرته، فلا يصيبه يأس ولا قنوط ولا إحباط، ولا يجد الشيطان إلى قلبه وعقله سبيلاً؛ فالعلم بسنن الله -تعالى- من أهم العلوم وأنفعها.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم