فهدانا الله ليوم الجمعة

د خالد بن عبدالرحمن الراجحي

2025-02-07 - 1446/08/08 2025-02-25 - 1446/08/26
التصنيفات: الصلاة
عناصر الخطبة
1/من خصائص يوم الجمعة 2/مما يشرع في يوم الجمعة من الطاعات 3/منهيات ينبغي الحذر منها 4/الحث على كثرة الصلاة على النبي

اقتباس

وَالْأَسْوَأُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَحْصُلَ التَّشْوِيشُ بِالحَدِيثِ مَعَ الغَيْرِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا، وَلَا سِيَّمَا أَثْنَاءَ الخُطْبَةِ، فَإِنَّ مِنَ الحِرْمَانِ وَقِلَّةِ البَصِيرَةِ أَنْ يَنْشَغِلَ المَرْءُ عَنِ الخُطْبَةِ بِحَدِيثٍ أَوْ عَبَثٍ بِشَيْءٍ فِي يَدِهِ، فَيُفَوِّتُ بِذَلِكَ ثَوَابَ الجُمُعَةِ وَفَضْلَهَا...

الخُطْبَةُ الأُولَى:  

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ، فَإِنَّ فِيْ تَقْوَاهُ عِصْمَةٌ مِنَ الضَّلَالَةِ، وَسَلَامَةٌ مِنَ الغَوَايَةِ، وَهِيَ السَّبِيلُ إِلَى السَّعَادَةِ وَالنَّجَاةِ يَوْمَ القِيَامَةِ.

 

أيُّها المسْلِمُونَ: إِنَّ اللهَ قَدْ فَضَّلَ بَعْضَ مَخْلُوقَاتِهِ عَلَى بَعْضٍ، اْصْطِفَاءً مِنْهُ وَاخْتِيَارًا، وَتَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا؛ (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)[سورة القصص: 68].

 

وَإِنَّ مِمَّا فَضَّلَ اللَّهُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ تفْضِيلَهُ بَعْضَ الأَيَّامِ عَلَى بَعْضٍ، وَجَعَلَهَا مَوْسِمًا لِإِنْعَامِهِ وَإِفْضَالِهِ، وَمَتْجَرًا لِأَوْلِيَائِهِ وَأَصْفِيَائِهِ، يَغْتَنِمُونَهَا بِمَا يُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهِ -تَعَالَى-، وَيُدْنِيهِمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَرِضْوَانِهِ.

 

أَلَا وَإِنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ أَعْظَمِ الأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ قَدْرًا، وَأَجَلِّهَا شَرَفًا، وَأَكْثَرِهَا فَضْلًا، فَقَدِ اصْطَفَاهُ اللَّهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَيَّامِ، وَفَضَّلَهُ عَلَى مَا سِوَاهُ مِنَ الأَزْمَانِ، وَاخْتَصَّ اللَّهُ بِهِ أُمَّةَ الإِسْلَامِ، فَقَدْ ضَلَّتْ عَنْهُ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَهَدَى اللَّهُ -تَعَالَى- أُمَّةَ الإِسْلَامِ إِلَيْهِ تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا لهَا بِبَرَكَةِ نَبِيِّهَا -صلى الله عليه وسلم- الَّذِي نَالَتْ بِيُمْنِ رِسَالَتِهِ كُلَّ خَيْرٍ وَفَضِيلَةٍ، رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أَضَلَّ اللهُ عَنِ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، فَكَانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ، وَكَانَ لِلنَّصَارَى يَوْمُ الْأَحَدِ، فَجَاءَ اللهُ بِنَا فَهَدَانَا اللهُ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ".

 

فَيَوْمُ الجُمُعَةِ سَيِّدُ الأَيَّامِ كُلِّهَا، خَصَّهُ اللَّهُ -تَعَالَى- بِخَصَائِصَ عُظْمَى، وَشَرَّفَهُ بِمَزَايَا كُبْرَى، لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ مِنَ الأَيَّامِ، وَنَدَبَ اللَّهُ -تَعَالَى- العِبَادَ إِلَى اغْتِنَامِ مَا فِيهِ مِنَ الفَضَائِلِ، وَالمُسَارَعَةِ إِلَى مَا خَصَّهُ بِهِ مِنَ الطَّاعَاتِ.

 

وَإِنَّ مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ فَضَائِلِ هَذَا اليَوْمِ وَخَصَائِصِهِ، مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ؛ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ".

 

وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي لُبَابَةَ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَيِّدُ الْأَيَّامِ، وَأَعْظَمُهَا عِنْدَ اللَّهِ، وَهُوَ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ يَوْمِ الْأَضْحَى وَيَوْمِ الْفِطْرِ، فِيهِ خَمْسُ خِلَالٍ: خَلَقَ اللَّهُ فِيهِ آدَمَ، وَأَهْبَطَ اللَّهُ فِيهِ آدَمَ إِلَى الْأَرْضِ، وَفِيهِ تَوَفَّى اللَّهُ آدَمَ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا الْعَبْدُ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ، مَا لَمْ يَسْأَلْ حَرَامًا، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، مَا مِنْ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ، وَلَا سَمَاءٍ، وَلَا أَرْضٍ، وَلَا رِيَاحٍ، وَلَا جِبَالٍ، وَلَا بَحْرٍ، إِلَّا وَهُنَّ يُشْفِقْنَ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ".

 

وَمِنْ أَجَلِّ هَذِهِ الخِلَالِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ فِيهَا سَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ، يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَقَدْ قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ: "أَكْثَرُ الأَحَادِيثِ فِي السَّاعَةِ الَّتِي تُرْجَى فِيهَا إِجَابَةُ الدُّعَاءِ أَنَّهَا بَعْدَ صَلَاةِ العَصْرِ"، وَرَوَى أَبُو دَاوُودَ أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "فَالْتَمِسُوهَا آخِرَ سَاعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ".

 

وَإِنَّ مِمَّا شُرِعَ مِنَ العِبَادَاتِ فِي هَذَا اليَوْمِ: قِرَاءَةُ سُورَةِ الكَهْفِ، فَقَدْ رَوَى البَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ -رضي الله عنه-، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الكَهْفِ فِي يَوْمِ الجُمُعَةِ، أَضَاءَ لَهُ مِنَ النُّورِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجُمُعَتَيْنِ".

 

وَمِنْ أَعْظَمِ مَا شَرَعَ اللَّهُ فِي هَذَا اليَوْمِ المُبَارَكِ، وَمِنْ أَجَلِّ خَصَائِصِهِ: صَلَاةُ الجُمُعَةِ؛ فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الصَّلَوَاتِ قَدْرًا، وَآكَدِهَا فَرْضًا، وَأَكْثَرِهَا ثَوَابًا، قَدْ أَوْلَاهَا الإِسْلَامُ مَزِيدَ عِنَايَةٍ وَبَالِغَ رِعَايَةٍ، فَحَثَّ عَلَى الِاغْتِسَالِ لَهَا، وَالتَّنَظُّفِ، وَالتَّطَيُّبِ، وَالخُرُوجِ إِلَيْهَا بِأَحْسَنِ لِبَاسٍ وَأَكْمَلِ هَيْئَةٍ، وَالتَّبْكِيرِ فِي الخُرُوجِ إِلَيْهَا، وَالدُّنُوِّ مِنَ الإِمَامِ، وَاسْتِجْمَاعِ القَلْبِ لِلاسْتِمَاعِ لِلْمَوْعِظَةِ وَالذِّكْرِ.

 

فَفِي الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ غُسْلَ الجَنَابَةِ، ثُمَّ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الأُولَى، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الخَامِسَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ، حَضَرَتِ المَلَائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ"، وَرَوَى أَبُو دَاوُودَ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "احْضُرُوا الذِّكْرَ وَادْنُوا مِنَ الإِمَامِ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ مَا يَزَالُ يَتَبَاعَدُ حَتَّى يُؤَخَّرَ فِي الجَنَّةِ وَإِنْ دَخَلَهَا".

 

ثُمَّ إِنَّ عَلَى المَرْءِ إِذَا حَضَرَ المَسْجِدَ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ، مِنْ صَلَاةٍ وَذِكْرٍ وَتِلَاوَةٍ لِلْقُرْآنِ حَتَّى يَخْرُجَ الإِمَامُ، فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ أَصْغَى وَاسْتَمَعَ لِلْخُطْبَةِ، مُتَّعِظًا بِمَا يَكُونُ فِيهَا مِنْ آيَاتٍ تُتْلَى، وَأَحَادِيثَ تُرْوَى، تُذَكِّرُ بِاللَّهِ وَالدَّارِ الآخِرَةِ، وَتَدْعُو إِلَى التَّمَسُّكِ بِتَعَالِيمِ الشَّرْعِ المُبِينِ، وَالحَثِّ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ خَيْرٍ وَصَلاحٍ لِلْفَرْدِ وَالأُمَّةِ فِي العَاجِلِ وَالآجِلِ.

 

ثُمَّ يُؤَدِّي الصَّلَاةَ بِخُشُوعٍ وَسَكِينَةٍ، وَتَدَبُّرٍ لِمَا يُتْلَى فِيهَا مِنْ كَلامِ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَمَا يَكُونُ فِيهَا مِنْ هَيْئَاتِ الذُّلِّ وَالعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاةِ الفَرْضِ اشْتَغَلَ بِالأَذْكَارِ المَشْرُوعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، ثُمَّ يُسَنُّ لَهُ أَنْ يَتَنَفَّلَ بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فِي المَسْجِدِ، أَوْ بِرَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ، وَتَأْخِيرُهَا إِلَى البَيْتِ أَفْضَلُ؛ لِفِعْلِهِ -صلى الله عليه وسلم- كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، فَمَنْ حَرِصَ عَلَى ذَلِكَ وَأَدَّاهُ بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ، فَحَرِيٌّ بِهِ أَنْ يَنَالَ فَضْلَ هَذَا اليَوْمِ المُبَارَكِ، وَأَنْ يَحْظَى بِثَوَابِهِ العَظِيمِ مِنَ المُنْعِمِ الكَرِيمِ، وَرَوَى مُسْلِمٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ، ثُمَّ أَتَى الجُمُعَةَ، فَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ؛ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجُمُعَةِ، وَزِيَادَةُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ".

 

وَلْيَحْذَرِ المُسْلِمُ مِمَّا نَهَى عَنْهُ الشَّرْعُ وَحَذَّرَ مِنْهُ، مِمَّا يَكُونُ سَبَبًا فِي فَوَاتِ أَجْرِ الجُمُعَةِ أَوْ نُقْصَانِ ثَوَابِهَا، كَالتَّأَخُّرِ فِي الذَّهَابِ إِلَيْهَا حَتَّى يَخْرُجَ الإِمَامُ، أَوْ إِشْغَالِ المُصَلِّينَ بِتَخَطِّي رِقَابِهِمْ، فَقَدْ رَأَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ الجُمُعَةِ رَجُلًا يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ، فَقَالَ لَهُ -صلى الله عليه وسلم- مُنْكِرًا عَلَيْهِ: "اجْلِسْ؛ فَقَدْ آذَيْتَ وَآنَيْتَ"(رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ)، وَإِنَّهُ لَيُخْشَى عَلَى مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَنْ يَدْخُلَ فِي عُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ -تَعَالَى-: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا)[سورة الأحزاب: 58].

 

وَلْيَحْذَرْ أَيْضًا مِنَ التَّشْوِيشِ عَلَى المُصَلِّينَ بِرَفْعِ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ أَوِ التِّلَاوَةِ، فَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الصَّحَابَةَ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ لَهُمْ: "لَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالقُرْآنِ".

 

وَالْأَسْوَأُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَحْصُلَ التَّشْوِيشُ بِالحَدِيثِ مَعَ الغَيْرِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا، وَلَا سِيَّمَا أَثْنَاءَ الخُطْبَةِ، فَإِنَّ مِنَ الحِرْمَانِ وَقِلَّةِ البَصِيرَةِ أَنْ يَنْشَغِلَ المَرْءُ عَنِ الخُطْبَةِ بِحَدِيثٍ أَوْ عَبَثٍ بِشَيْءٍ فِي يَدِهِ، فَيُفَوِّتُ بِذَلِكَ ثَوَابَ الجُمُعَةِ وَفَضْلَهَا، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ مَسَّ الحَصَى فَقَدْ لَغَا"، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ: أَنْصِتْ، يَوْمَ الجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ، فَقَدْ لَغَوْتَ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، وَرَوَى أَبُو دَاوُودَ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَلِيٍّ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "وَمَنْ قَالَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِصَاحِبِهِ: صَهٍ، فَقَدْ لَغَا، وَمَنْ لَغَا فَلَيْسَ لَهُ فِي جُمُعَتِهِ تِلْكَ شَيْءٌ".

 

وَإِنَّ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ أَنْ يَتَخَلَّفَ المُسْلِمُ عَنْ حُضُورِ الجُمُعَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ، فَقَدْ شَدَّدَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي التَّحْذِيرِ مِنْ ذَلِكَ، وَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلطَّبْعِ عَلَى قَلْبِهِ، وَمَنْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ، عَمِيَتْ بَصِيرَتُهُ، وَسَاءَ مَصِيرُهُ، رَوَى مُسْلِمٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الغَافِلِينَ".

 

أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[سورة الجمعة: 9].

 

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُوْلُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ الْجَلِيلَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.        

 

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ مِنْ أَفْضَلِ الأَعْمَالِ فِي يَوْمِ الجُمُعَةِ وَلَيْلَتِهَا: الإِكْثَارَ مِنَ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، رَوَى أَبُو دَاوُودَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ؛ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ"، وَرَوَى البَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَلَيْلَةَ الجُمُعَةِ".

 

وَقَالَ ابْنُ القَيِّمِ: "رَسُولُ اللَّهِ سَيِّدُ الأَنَامِ، وَيَوْمُ الجُمُعَةِ سَيِّدُ الأَيَّامِ، فَلِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ فِي هَذَا اليَوْمِ مَزِيَّةٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ، مَعَ حِكْمَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ كُلَّ خَيْرٍ نَالَتْهُ أُمَّتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَإِنَّمَا نَالَتْهُ عَلَى يَدِهِ، فَجَمَعَ اللَّهُ لِأُمَّتِهِ بَيْنَ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَأَعْظَمُ كَرَامَةٍ تَحْصُلُ لَهُمْ إِنَّمَا تَحْصُلُ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَفِيهِ يُبْعَثُونَ إِلَى مَنَازِلِهِمْ وَقُصُورِهِمْ فِي الجَنَّةِ، وَهُوَ يَوْمُ المَزِيدِ لَهُمْ إِذَا دَخَلُوا الجَنَّةَ، وَهُوَ يَوْمُ عِيدٍ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَيَوْمٌ يَسْعِفُهُمُ اللَّهُ فِيهِ بِطَلَبَاتِهِمْ وَحَوَائِجِهِمْ، وَلَا يُرَدُّ سَائِلُهُمْ، وَهَذَا كُلُّهُ إِنَّمَا عَرَفُوهُ وَحَصَلَ لَهُمْ بِسَبَبِهِ وَعَلَى يَدِهِ، فَمِنْ شُكْرِهِ وَحَمْدِهِ وَأَدَاءِ قَلِيلٍ مِنْ حَقِّهِ، أَنْ نُكْثِرَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فِي هَذَا اليَوْمِ وَلَيْلَتِهِ".

 

وَقَدْ قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[سورة الأحزاب: 56]، اللَّهُمَّ صِلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الْأَرْبِعة، أَبِي بِكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَعَنْ سَائِرِ الآلِ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِعَفْوِكَ وَكَرَمِكَ وَإِحْسَانِكَ يَا أَرَحَمَ الرَّاحِمَيْنَ.

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ المُوَحِّدِينَ، اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[سورة النحل: 90]، فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

 

المرفقات

فهدانا الله ليوم الجمعة.doc

فهدانا الله ليوم الجمعة.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات